
المحتويات
تقديم
مذكرات سكيرج أو كتابا: “إيقاظ القرائح لتقييد السوانح” و”النتائج اليومية في السوانح الفكرية”، للأديب العلامة القاضي أحمد سكيرج، من أجمل ما كتب من مذكرات في أدب السيرة الذاتية بالمغرب. وسبب تأليف هاتين المذكرتين كفانا المؤلف البحث عنها؛ فقد أشار إليها بقوله: “وأخسر الساعات ساعة مضت على الشخص ولم يستفد فيها فائدة تكون عليه منافعها عائدة..”، وهكذا أجرى قلمه في تدوين ما حدث له في أثناء رحلاته ووظائفه وسائر أحواله، سنختار منها بعض ما يتعلق بطلب العلم وفضله وما بثه من فتاوى ونوازل.
إن أروع ما في هذه المذكرات أنها تنقلنا إلى جو اجتماعي مغاير للجو الذي نعيشه اليوم، جو يسوده الحياء والكرم والحشمة، وتختفي فيه الكثير من مظاهر العصر الحاضر.. وتشتمل كذلك على الأدب بشتى فنونه من شعر ونثر وحكم وأمثال وحكايات وقصص وألغاز وغيرها.. بما تعكسه من مكانتها التربوية الهامة.
سبب التأليف
لعل سبب تأليف هذا النوع من الكتابات يرجع إلى عزوف الأدباء المغاربة عن هذا النوع من الكتابة وعدم اكتراثهم به، عكس ما فعله مترجمنا من تدوينه لكل ما وقف عليه في يومياته من فوائد وفرائد، ثم الحرص على أرشفة المذكرات الشخصية للشخص.
هذا إلى جانب ما تضمنته من إيراد بعض النوازل الفقهية والأحكام؛ والتي ركزت في الغالب على بعض النزاعات ذات الصلة بأحكام الأسرة والنوازل الاجتماعية.. وهي التي سنخصص إيراد أمثلة منها في هذه الفسحة من القراءة.
يقول محقق الكتاب: “لم يقتصر اهتمام العلامة سكيرج ضمن هذه المذكرات بالجانب الأدبي فقط، بل اهتم أيضا بالحديث عن الفقه وأصوله، لا سيما ما يتعلق منه بجانب النوازل والأحكام؛ وهو الجانب السائد لدى معظم علماء ذلك العصر، بيد أنه لم يتوغل طويلا في هذا المجال، واكتفى بإدراج بعض فتاويه القصيرة ذات الصلة بالأحوال الشخصية كأحكام الطلاق والحضانة وقضايا الأيمان والنذور ومشاكل الأسرة…[1]
نماذج من فتاوى ونوازل الكتابين
الكتاب الأول: “إيقاظ القرائح لتقييد السوانح“
يقول العلامة سكيرج في مقدمة الكتاب وهو الذي جمعه بمدينة طنجة خلال مقامه بها سنة 1328م/1910م: “فهذه فوائد وفرائد، يحق أن تكون دررا في وسط القلائد، أكتبها في هذه الأوراق على حسب ما سنح بالفكرة أو بمذاكرة الحذاق، جاعلا ذلك بوارد الإلهام على ترتيب الأيام من فاتح هذا العام: عام 1328هـ.. وأنا وقتئذ مقيم بطنجة..”. وقد ابتدأه المؤلف بذكر رحلته الأولى إلى مدينة طنجة، والإشارة إلى ما كان من اختلاف طرق العيش بينها وبين المدينة التي نشأ وتربى فيها مدينة فاس. كما أورد في حديثه جملة من الاستشهادات الشعرية على بعض الأحوال المعيشية والقضايا الاجتماعية هناك. ومن جملة النوازل الفقهية التي ذكرها في هذه السوانح ما يلي:
- فمن اللطائف التي استقاها سكيرج من الحديث النبوي: (استوصوا بالنساء خيرا..)، قوله: (هذا الحديث له احتمالات في المعنى:
– فيحتمل من (العارية)؛ فالنساء إنما هن كالعواري عند الرجل، فينبغي له أن يحافظ على العارية.
– وإما من (العور)؛ فالمرأة عوراء لا تبصر العواقب، فينبغي للرجل الذي هو بصير بالأمور أن يأخذ بيدها ولا يدعها.
– وإما من (العار)؛ بمعنى أن المرأة عار على الرجل أن يقاومها ويتطاول عليها، لأن ذلك يورثه العار.
– أو بمعنى أنها (عورة)؛ من عورات الرجال، فينبغي له أن يبالغ في ستر عورته معها برفق حتى لا تفضحه..
وهذه المعاني؛ إن لم يكن التصريف يساعد بعضها في الجملة، فهي ظاهرة)[2].
وذكر من نظمه في نفس المعنى قوله:
تواصوا بنسوتكم *** وكونوا رحيما بهن
فهن لباس لكم *** وأنتم لباس لهن
- ومن فوائده في فضل العلم وطلب العلوم النافعة، مستخرجا من بعض المقطعات الشعرية لأبي العلاء المعري في فضل العلم وعلى وجه الخصوص: علم الفقه وعلم الكلام وعلم الحديث، الذي قال:
يا من تقاعد عن مكارم خلقه *** ليس التفاخر بالعلوم الظاهرة
من لم يهذب علمه أخلاقه *** لم ينتفع بعلومه في الآخرة
ويقول في ذلك: (يشير بذلك إلى أن العلم النافع هو الذي به تتهذب الأخلاق، لا بعلوم الظاهر من الأحكام المرسومة في الأوراق، فإن كان لا يهذب خلقا لا ينفع في الآخرة خلقا، وإن كان أشرف العلوم في الظاهر هو علوم الفقه كما قيل:
إذا ما اعتز ذو علم بعلم *** فعلم الفقه أشرف في اعتزازي
فكم طيب يطيب ولا كمسك *** وكم طير يطير ولا كـ: باز
وقد افتخر بعضهم بعلم الكلام؛ لأنه هو عليه المدار في معرفة منزلة الأحكام، وحض عليه غيره فقال:
أيها المغتدي تطلب علما *** كل علم عبد لعلم الكلام
تطلب الفقه كي تصحح حكما *** ثم أغفلت منزل الأحكام[3]
وذكر أيضا قوله: (وسنح لي أن أقيد هنا لأجل الحفظ قول أبي القاسم بن عساكر الدمشقي الشافعي – رحمه الله- في الحظ على جمع الحديث وحفظه على السنن القديم والحديث، وذلك قوله:
واظب على جمع الحديث وكتبه *** واجهد على تحصيله من كتبه
واسمعه من أربابه تعلو كما *** سمعوه من أشياخهم تسعد به
فهو المفسر للكتاب، وإنما *** نطق النبي لنا به عن ربه
وتفهم الأخبار تعرف حله *** من حرمة مع فرضه من ندبه)[4]
- لطيفة من الحديث النبوي: (التمسوا الخير من حسان الوجوه)، قال في معناه: (وهو أن الوجه الحسن هو الطريق الموصلة إلى نيل ذلك المطلب، كأنها أمر بطلب الأشياء في إبانها والدخول عليها من أبوابها. وعلى معناه المعروف تذكرت قول من اقتبسه في قوله:
إذا الحاجات عزت فاطلبوها *** إلى من وجهه حسن جميل)[5]
- لطائف في البرور بالوالدين وعدم التعرض لهما بأذى، يقول سكيرج: (لا يخفى أن برور الولد بوالديه مأمور به لما جلبوه من المنفعة إليه وبثوه من الإحسان لديه، وأعظم به من إحسان، وشكر المحسن واجب شرعا وعقلا، وأما من لم يقل ببرورهم فهو من الضلالة بمكان. وكان بعض الحكماء يضرب أباه ويقول: هو أدخلني في عالم الكون وعرضني للموت والأمراض. وأمر المعري أن يكتب على قبره:
هذا ما جناه أبي علـــ *** ــي وما جنيت على أحد
وذلك من فرط الفلسفة التي تفضي إلى السفه، نسأل الله السلامة من عدم شكر الوالدين)[6].
- ومن الفتاوى الواردة في هذه السوانح ما تعلق بشكاية أحد الأشخاص من فتح جاره لكوتين بسور داره تأذى بسببهما جيرانه فقال: (الحمد لله، قد تقرر عند العلماء الأعلام المرجوع إليهم في النوازل والأحكام؛ أنه لا يلتفت لدعوى الضرر في شيء من الأشياء إلا بإثبات كونه ضررا، وإثباته يرجع فيه إلى أهل المعرفة والبصر وذوي الخبرة والنظر كما قال في التحفة:
ثم العيوب كلها لا تعتبر *** إلا بقول من له بها بصر
وقال فيها أيضا:
ويثبت العيوب أهل المعرفة *** بها ولا ينظر فيهم لصفة
وقال العلامة ابن فرحون في الباب الثامن والخمسون في القضاء بقول أهل المعرفة من تبصرته ما نصه: ويجب الرجوع إلى أهل البصر- إلى أن قال ما نصه: وكذلك يرجع إلى أهل المعرفة بمسائل الضرر مما يحدثه الإنسان على جاره أو الطرقات وأنواع ذلك. وقد ثبت انتفاء الضرر عن الجيران بفتح الكوتين المقابلتين لسطح هذا المدعي بالموجب أعلاه..)[7].
الكتاب الثاني: “النتائج اليومية في السوانح الفكرية“
يذكر العلامة أحمد سكيرج في مقدمة الكتاب أنه جمعه بمدينة فاس خلال سنة 1330/1912 بقوله: (إن مما يغنمه الشخص في أيام حياته اغتنام لطائف العلم في جلواته وخلواته، وينفق في اقتنائه نفيس عمره الذي كل نفس منه لا يفي ثمن ولا قيمة قدره… وأخسر الساعات ساعة مضت على الشخص ولم يستفد فيها فائدة تكون عليه منافعها عائدة… ثم ذكر ما اتفق له في ابتداء تسجيل هذه المذكرات منذ اليوم الخامس عشر من شهر الربيع النبوي…)[8].
وابتدأ الكتاب بذكر معنى السوانح فقال: (فمن سوانح اليوم ما وقع السؤال عنه عن معنى السوانح؛ فهي جمع سانحة بمعنى عارضة، فما يعرض من الأمور يقال فيه سانحة، فهي كالوارد على الشخص. ويقال: في كل سانحة رابحة)[9]، وأضاف بيانا لمعناها المقصود في هذين الكتاب بقوله: (ومن فوائد السوانح أن ينظر العاقل إلى بعض ما يرد له البال في اليوم من الأمور التي تسنح له فيملأ بها صحائف كثيرة، فيحصل له الاتعاظ بما لم يقيده من جميع سوانحه الخيرية أو الشرية، فيكون من معنى محاسبة النفس، وربما يجره الوارد النوراني إلى محاسبتها على كل ما يصدر منها في ذلك اليوم حتى يتمكن في مقام المحاسبة..)[10].
ومن اللطائف التي ذكرها سكيرج في هذا الكتاب ما يلي:
- بعض ما ورد في فضل العلم وما يجب أن يتحلى به طالب العلم، يقول: (إن أولى الناس بالإنصاف من نفسه طالب العلم، فيبادر لأداء ما عليه لغيره من التبعات، ولا يماطل أهل الحقوق في حقهم، ولا يطمع فيما في يد الناس، ويعمل المعروف مع كل أحد، ويعامل الناس معاملة جد في جميع أموره، إلا في بعض ما يروح به نفسه في بعض الأحيان، فقد قيل:
أرح طبعك المكدود بالجد ساعة *** يَجِم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن *** بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
ولا شك وأن الطالب للعلم إذا اتصف بمثل هذه الأمور التي هي من أوصاف المروءة الدالة على كمال المرء في الفتوة بصيانة جانب العلم الشريف المصون جانبه عن الإهانة لحلوله بالمقام المنيف وهو في نفسه على كل حال لا يهان وتعرض أهله للمذام به يحصل لهم الهوان. وقد صدق الجرجاني في قوله:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا *** محياه بالأطماع حتى تجهما)[11].
وقد عاب العلامة سكيرج على بعض طلبة العلم في زمانه الذين خالفوا بأفعالهم ما دعت إليه ألسنتهم من مخالفة الوعود وخيانة الأمانات.. فمقت مقامهم عند العامة للأسف.
خاتمة
هذه لطائف فريدة من سوانح العلامة أحمد سكيرج، اخترتها من كتابيه اللذين خصصهما لذكر مجمل المواقف والطرائف التي حصلت له طيلة حياته العملية متنقلا بين عدة مدن أيام عمله الوظيفي، ومنها كذلك بعض الإشارات من رحلاته العديدة الشهيرة.
المراجع
[1] أحمد سكيرج، إيقاظ القرائح لتقييد السوانح، ويليه: النتائج اليومية في السوانح الفكرية، تحقيق: محمد الراضي كنون الحسني الإدريسي (د.ت)، ص: 9.[2] أحمد سكيرج، إيقاظ القرائح لتقييد السوانح، ويليه: النتائج اليومية في السوانح الفكرية، مرجع سابقن ص 21.
[3] أحمد سكيرج، إيقاظ القرائح لتقييد السوانح، ويليه: النتائج اليومية في السوانح الفكرية، مرجع سابق، ص 25.
[4] أحمد سكيرج، إيقاظ القرائح لتقييد السوانح، ويليه: النتائج اليومية في السوانح الفكرية، مرجع سابقن، ص 37.
[5] أحمد سكيرج، إيقاظ القرائح لتقييد السوانح، ويليه: النتائج اليومية في السوانح الفكرية، مرجع سابق، ص 33.
[6] أحمد سكيرج، إيقاظ القرائح لتقييد السوانح، ويليه: النتائج اليومية في السوانح الفكرية، مرجع سابق، ص 69.
[7] أحمد سكيرج، إيقاظ القرائح لتقييد السوانح، ويليه: النتائج اليومية في السوانح الفكرية، مرجع سابق، ص 94.
[8] أحمد سكيرج، إيقاظ القرائح لتقييد السوانح، ويليه: النتائج اليومية في السوانح الفكرية، مرجع سابق، ص 154.
[9] أحمد سكيرج، إيقاظ القرائح لتقييد السوانح، ويليه: النتائج اليومية في السوانح الفكرية، مرجع سابق، ص 154.
[10] أحمد سكيرج، إيقاظ القرائح لتقييد السوانح، ويليه: النتائج اليومية في السوانح الفكرية، مرجع سابق، ص 154.
[11] أحمد سكيرج، إيقاظ القرائح لتقييد السوانح، ويليه: النتائج اليومية في السوانح الفكرية، مرجع سابق، ص 172.