المحتويات
مقدمة
لا يستقيم الحديث عن السوسيولوجيا المغربية ما بعد الكولونيالية دون المرور عبر اسم خلد ذكره في السجلات العلمية، والبحوث الميدانية في العلوم الاجتماعية مغربيا، إنه بول باسكون (Paul Pascon)، واحد من الرواد الأوائل الذين رسخوا تقاليد علم الاجتماع المغربي المتحرر من سطوة التحيزات الإيديولوجية، ورهانات المصالح الكولونيالية.
النشأة والمسار..أو كيف أثرت ضيعة والده في نزعته القروية؟
ولد باسكون بفاس سنة 1932، سنتين بعد إصدار سلطات الحماية لما سُمي بـ”الظهير البربري” وانطلاق الفعل النضالي للحركة الوطنية المغربية. ينتمي باسكون إلى أسرة أثرت بشكل أو بآخر في اختياراته المعرفية والبحثية ومساره الأكاديمي، فوالده المهندس في الأشغال العمومية، وجده الفلاح الذي كان مرتبطا بالنشاط الفلاحي عامة والزراعي على وجه التحديد، سيرسمون معالم شخصية باسكون[1] المتعلق بالعلوم الحقة والبيولوجيا تحديدا من جهة وبالعمل الفلاحي والارتباط بالأرض وأنشطتها من جهة أخرى. ترعرع باسكون داخل ضيعة بسهل سايس بالقرب من منطقة “الضويات” نواحي مدينة فاس، وتحصل سنة 1953 على شهادة البكالوريا ليلتحق بالمؤسسة الوحيدة التي كانت تعمل إذ ذاك على تكوين الأطر الذين يشغلون مهاما رسمية على المستوى الترابي في الإدارة الاستعمارية، وهو معهد الدراسات العليا المغربية. انتقل باسكون إلى فرنسا من أجل إتمام دراساته العليا وبالنظر إلى غياب شعبة علم الاجتماع فقد اختار باسكون تخصص البيولوجيا، لينتقل بعد ذلك إلى شعبة علم الاجتماع التي تم إنشاؤها حديثا سنة 1956 بباريس، وكانت بها أول مشاركاته العلمية والبحثية رفقة أحد رواد علم الاجتماع آنذاك ألان تورين (Alain Touraine) حول التحولات التقنية عند عمال الصلب الفرنسيين، وهي الدراسة التي امتدت ما بين 1955 و 1957.
إزدواجية تكوين باسكون ستسمح له حسب الباحث المغربي محمد الطوزي[2] بامتلاك الدقة المفاهيمية والعدة النظرية، وكذلك قوة الملاحظة خاصة أن الرجل كان باحثا ميدانيا بامتياز، ما يتطلب قوة الملاحظة ودقتها كأحد التقنيات البحثية المهمة في دراسة الظواهر الاجتماعية. بعد الاستقلال سيفضل باسكون العودة إلى المغرب والاستقرار النهائي به، إلى أن وافته المنية سنة 1985 عن عمر ناهز 53 سنة.
باسكون والمعالم الأولى للسوسيولوجيا المغربية
شكلت المحاولات الأولى في الدراسات الميدانية لبول باسكون ورفاقه بداية مسار لفك الارتهان المعرفي والمنهجي مع الإرث الكولونيالي وقواعد الممارسة السوسيولوجية في أبعادها الخادمة للمصالح الاستعمارية الفرنسية، “فالميدان كان بالنسبة إلى الراحل مجتمعاً مكوّناً من أحكام مؤسّسة في إطار السوسيولوجيا الاستعماريَّة، ما جعله يرفض نقل النماذج المعرفيَّة المؤسّسة في سياقات اجتماعيَّة مختلفة بهدف تفسير المجتمع المغربي، وهو ما جعله يبحث في أكثر من موضوع. هذا الرفض للنماذج الجاهزة نابع من اعتبار ملاحظة تقنيَّة تعد أساساً لعلم السوسيولوجيا بهدف تطوير المعرفة في خدمة أغراض وقضايا متعدّدة، والتي تقع ضمن مشروع كلّي للإنسان”[3].
كما هدفت هذه المحاولات “لتصفية الإرث السوسيولوجي من النفحة الكولونيالية” وجعل العلوم الاجتماعية أداة للتأثير في العالم الاجتماعي. ووضعه صلب الانتقال الاقتصادي والسياسي الذي شهده المغرب بعد الاستقلال، الشيء الذي لم يكن طبعا بالمهمة السهلة أو اليسيرة لا من الناحية الأكاديمية أوالسوسيوسياسية في بلد يتلمس فيه الباحثون تحقيق أولى خطوات صياغة نموذج مغربي مغربي يدرس المغرب من أجل المغرب. وكانت بداية مراحل تحقيق هذا الحلم تأسيس باسكون رفقة زملاء مغاربة وفرنسيين أول “فريق متداخل التخصصات للأبحاث في العلوم الانسانية”[4] انهجس خلاله أيضا بتكوين الخلف وتعميق البحوث وتعميمها لتشمل كل مجالات المغرب، رافقه في رحلته هذه كل من: ينسمون، بودربالة، فوي، لحليمي، لازاريف، لحلو…وغيرهم و استمرت هذه التجربة مدة خمس سنوات من (1958 الى 1962)، وهي محاولة رائدة استفادت منها السوسيولوجيا الوطنية بعد ذلك، خصوصا وأنها واكبت اهتماما بكل ما هو ميداني ورصدت التحولات البنيوية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في المغرب -مؤسسات الفوسفات، الري، الماء والإصلاح الزراعي، مع اللبنات الأولى لتأسيس المخطط الاقتصادي الخماسي 1960_1964. وقد أفرزت هذه الديناميات في الدراسات السوسيولوجية تنوعا في الإصدارات والمقاربات والتجارب العلمية الميدانية وسعت نحو توجيه الباحثين الاجتماعيين إلى الميدان من خلال الاعتماد على التقنيات الكيفية (المقابلات، السير البيوغرافية، الملاحظة…) كمدخل منهجي لفهم بنية المجتمع المغربي وفك تعقيداته، بالإضافة إلى المساهمة في مراكمة قاعدة معطيات علمية حول المغرب وبناه الاقتصادية والاجتماعية والمجالية، وجعلت من البحث الإمبيريقي أداة للتشخيص السوسيولوجي للبنى الموضوعية والشروط الاجتماعية، وسندا لتطوير خطاب علمي حول المغرب ووضعيته بأفق بناء مشروع مجتمعي واضح المعالم.
أطروحة “حوز مراكش” أول باكورة لعالم اجتماع متفرد ورائد
كان بول باسكون أول باحث أصل لمفهوم المجتمع المركب. وقد عبر بداية عن نمط الإنتاج المركب، رافضا المفاهيم الكولونيالية التي نظرت للمجتمع المغربي والتي ذهبت الى اتجاهات مختلفة، خصوصا تلك التي اعتبرت حالة المغرب متناسبة مع طبيعة المجتمعات الانتقالية أو النظام الفيودالي على الشاكلة الآسيوية. وهنا نقتبس نصا لبول باسكون عندما وصف المجتمع المغربي بالقول:
“إن نماذج عدة من التنظيمات الاجتماعية، التامة في ذاتها، تتصارع داخل هذا المجتمع، لسنا أمام مجتمع معين، بل أمام مظاهر جزئية من مجتمعات عديدة تتعايش أحيانا في نفس اللحظة، وفي نفس المكان، هكذا ينتمي فرد محدد، وحسب سلوكاته المختلفة إلى عدة مجتمعات والدلائل على ذلك بسيطة ويومية: مجموعة من الفلاحين لهم الحق في الأراضي الجماعية، وتذهب نساؤهم يوم العنصرة، لسكب السوائل على قبور الأجداد، ويطلبون من خماسيهم أن يأتوهم بالبغلة صباحا، ثم يتمنطقون بالخناجر ويذهبون إلى المكتب ليطلبوا القرض الفلاحي جماعيا، ألا يمكن لنا بدلا من تحديدهم تحديدا تقريبيا عن طريق السن والسلالة والمنطقة، ردهم إلى تعايش نماذج اجتماعية متعددة، وهي بالمناسبة خمسة نماذج؟ (مجتمع صناعي، ومجتمع قائدي، ومجتمع قبلي، ومجتمع لاهوتي، ومجتمع بطريكي)”[5].
إن هذا النص يوضح بجلاء حجم الارتياح الذي كان يتعامل به بول باسكون مع عبارة المجتمع المركب وقدرته على إنتاج شواهد من الواقع المغربي توضح بشكل مثالي عمق تحليله وقدرته على ضبط تمفصلات الواقع المغربي وتمظهراته الاجتماعية.
باسكون الخبير والباحث الميداني المؤسس
عمل باسكون على إعادة قراءة التراث السوسيولوجي الكولونيالي وطور نمطا خاصا في الكتابة والبحث الامبريقي برفقة باحثين مغاربة استفادوا من تجربته وخبرته الميدانية، مستثمرا في الوقت نفسه ارتباطاته المهنية ومغنيا بذلك المكتبة الوطنية بمقالات علمية، كانت جزءا من مشاريع مهنية كان يشرف عليها إبان تعيينه منسقا للدراسات العامة حول “تهيئة الحوز الكبير” سنة 1962 أو خلال اشتغاله مديرا للمكتب الجهوي لحوز مراكش سنة 1966 بعدما حصل على الجنسية المغربية سنة 1964. وهي كلها مسارات يتداخل فيها البعد الأكاديمي بالمسار المهني في مسيرة الرجل. من أهم هذه الدراسات:
- ملاحظات حول حجر مسكتشف بسوق خميس أيت واحي، بتعاون مع جورج لازاريف، أربعة أجزاء، خزانة المكتب الشريف للفوسفاط، 1959.
- نظام استغلال الأرض بالحوز سنة 1963.
- المعيقات الاجتماعية للتقدم الفلاحي بحوز مراكش 1963.
- اليد العاملة و الشغل في القطاع التقليدي، المجلة المغربية للاقتصاد و الاجتماع، يناير – مارس 1966.
- التحديث القروي بالمغرب. سوسيولوجيا برنامج 1967.
- ماذا يقول 296 شابا قرويا بتعاون مع المكي بنطاهر، المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع، عدد 111 و 112، يناير، يونيو 1969
- نظرية عامة لتوزيع المياه واستغلال الأراضي بحوز مراكش 1970.
- تكوين المجتمع المغربي، 1970.
- القانون والفعل في المجتمع المركب، بتعاون مع نجيب بودربالة، المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع، العدد 117 – 1972.
- المسألة الزراعية بالمغرب 1 بتعاون مع نجيب بودربالة والشرايبي 1974.
- مقاييس المؤن: وصف للمد والصاع المغاربي ، مدخل إلى علم القياس المغربي، هسبريس تمودا، العدد 17 – 1975.[6]
- المسألة الزراعية بالمغرب 2 بالتعاون مع نجيب بودربالة والشرايبي وحمودي 1977.
- دراسات قروية: أفكار وتحقيقات حول القرية المغربية، 1980.
- بني بوفراح: دراسات في الإيكولوجيا الاجتماعية لسهل ريفي، بالاشتراك مع هرمان فان ديروفوستن، 1980.
- دار إيليغ والتاريخ الاجتماعي لتازروالت، بالاشتراك مع عريف وشروتر والطوزي وديروفوستن، 1984.
- المسألة المائية بالمغرب، بالاشتراك مع بودربالة وشيش وحرزني.
ويقول بول باسكون بهذا الخصوص:
“أنا مدرس بمعهد الزراعة والبيطرة، ويقوم تدريسي على علم الاجتماع القروي، وأنا أتابع أبحاثا شخصية في الميدان وأغذي دروسي من هذه الأبحاث، وأحاول رفقة بعض الباحثين الآخرين خلق شروط مقاربة شخصية أفضل لمشاكل البادية يقوم بها طلبتي وزملائي وذلك بتنظيم فترات تدريب ميداني في إطار المعهد. ويوفر معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة من وجهة النظر هذه شروطا نادرة في بلد كالمغرب، ففي امكان الطلبة فعلا أن يقيموا لفترات طويلة وعديدة بين المزارعين بكل حرية وفي غيبة أي مشاكل إدارية. إننا لم نتمكن بعد من استخلاص كل الفوائد التربوية البشرية من مثل هذه الوضعية، لكننا نتقدم كما أظن في هذا الاتجاه”.[7]
خاتمة
شكل باسكون بما خلفه من إرث سوسيولوجي مسنود بأعمال ميدانية متميزة، نقلة نوعية في مسار العلوم الاجتماعية بالمغرب. تراث أغنى المكتبة الوطنية ببحوث ودراسات يمكن الاستفادة منها الى الآن. فارتباطه بالأعمال الميدانية وخبرته التي راكمها من الوظائف والمسؤوليات التي تقلدها أعطت القوة لطروحاتها وأصبغت العمق على تحليلاته، وجعلته يغوص في بنية المجتمع المغربي تحليلا وفهما، بحثا عن حلول تنموية تدبيرية، وأخرى اجتماعية ثقافية، شعاره في ذلك البحث العلمي في خدمة التغيير الاجتماعي[8].
إن العودة اليوم الى منجز بول باسكون هو رجوع الى مبحث علمي رصين تأسس في السوسيولوجيا الحديثة، _والحديث هنا عن سوسيولوجيا الخبرة_ ومؤسسها في المغرب بول باسكون باعتبارها معرفة تقدم خدمة لصانع القرار وتأتي بأجوبة فعالة ودقيقة عن أسئلة الواقع وإشكالاته، إن الطابع المزدوج لحياة باسكون وقدرته على التدريس في المعهد والنزول الى الواقع والبحث فيه بالإضافة الى الأعمال الإدارية والمكتبية التي كان يقوم به في وظيفته، أعطاه هذا التفرد والعمق في التحليل وجعل منه: بول باسكون رائد السوسيولوجيا القروية والبحوث الميدانية بالمغرب.
المراجع
[1] Mohamed Tozy, “Paul Pascon : un pionnier de la sociologie marocaine”, SociologieS [Online], Discoveries/rediscoveries, Online since 20 February 2013, connection on 30 October 2022. URL: http://journals.openedition.org/sociologies/4322; DOI: https://doi.org/10.4000/sociologies.4322[2] Mohamed Tozy, “Paul Pascon : un pionnier de la sociologie marocaine”, SociologieS [Online], Discoveries/rediscoveries, Online since 20 February 2013, connection on 30 October 2022. URL: http://journals.openedition.org/sociologies/4322; DOI: https://doi.org/10.4000/sociologies.4322
[3] عبد الرحيم عنبي، بول باسكون رائد السوسبولوجيا المغربية، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، تمت مطالعته على الرابط التالي: https://bit.ly/3Nt6JQn .
[4]محمد سلام شكري "علم الاجتماع بالمغرب: علامات وقضايا"، مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، الطبعة الأولى، 2018.
[5] بول باسكون " زرع النماذج وغياب التجديد". نقل الحوار عن الفرنسية مصطفى المسناوي. بيت الحكمة: مجلة مغربية للترجمة في العلوم الإنسانية. السنة 1، العدد 3 (أكتوبر 1986).
[6] عبد الرحيم العطري، بول باسكون الراحل خطأ : عالم الاجتماع هو ذاك الذي تأتي الفضيحة عن طريقه، الحوار المتمدن-العدد: 1475 - 2006 / 2 / 28.
[7] بول باسكون " زرع النماذج وغياب التجديد". نقل الحوار عن الفرنسية مصطفى المسناوي. بيت الحكمة: مجلة مغربية للترجمة في العلوم الإنسانية. السنة 1، العدد 3 (أكتوبر 1986).
[8] محمد طوزي، معلمة المغرب، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والنشر والترجمة، 1989 ص 998.