مقدمة

منذ اكتشاف الفوسفاط في ثلاثينيات القرن الماضي؛ بدأ وجود اليوسفية يتدرج مع اتساع النشاط المنجمي، حيث انتقلت المنطقة من فضاء هامشي محدود إلى نواة عمرانية استقطبت اليد العاملة. ثم تحولت بعد ذلك إلى مجال اجتماعي واقتصادي متكامل، مما جعل من الفوسفاط مفتاحا أساسيا لفهم تحولات المدينة ومكانتها ضمن تاريخها المحلي والوطني.

وبسبب ندرة التوثيق التاريخي الدقيق لنشأة هذه المدينة، لا بد أن نشير  إلى أن هذا المقال قد اعتمد على ما هو شائع في الذاكرة المحلية من روايات ومعطيات متداولة، في محاولة لقراءة مسار تشكل المدينة من زاوية اجتماعية واقتصادية وعمرانية.

مناجم الفوسفاط وبدايات اليوسفية

تشير المعطيات المتداولة في الذاكرة المحلية إلى أن ميلاد مدينة اليوسفية قد ارتبط بثلاثينيات القرن الماضي، وبالضبط بسنة 1931، وذلك حين شرع الاستعمار الفرنسي في إنشاء أول قرية منجمية بالمنطقة، حملت في بدايتها إسم كاشكاط (Couche Quatre). وقد تشكلت النواة الأولى للمدينة مع انطلاق الاستغلال الفعلي لمنجم الفوسفاط، من خلال عملية عقارية هدفت إلى إيواء الأطر والعاملين بالمنجم، قبل أن يتحول اسمها إلى “لوي جانتي” نسبة إلى الجيولوجي الفرنسي “لويس جونتي”.

وقد استمر تداول هذا الاسم إلى غاية سنة 1960، حيث أعيدت تسميتها بـ “اليوسفية” بقرار من الملك محمد الخامس–رحمه الله-، نسبة إلى والده السلطان المولى يوسف، وهذه اللحظة التاريخية تعبر عن انتقال المدينة من سياقها الاستعماري إلى انتمائها الوطني.

الفوسفاط والبناء الاجتماعي والاقتصادي والعمراني لليوسفية

تؤكد الروايات الشفوية المتداولة أن سنة 1936 مثلت بداية الاستغلال الفعلي للفوسفاط بمدينة لوي جانتي سابقا. ومعها ظهرت مساكن بسيطة للعمال بمحاذاة المناجم، مشكلة النواة العمرانية الأولى للمدينة. ثم تشكلت نواة ثانية مختلفة في وظيفتها وملامحها، ضمت مرافق ثقافية وصحية وتعليمية ومناطق خضراء، واستوطنها الأطر والموظفون المرتبطون بالإدارة الاستعمارية، إلى جانب إحداث قريتين عماليتين هما سيدي أحمد والمزينة.

وتبين هذه المعطيات، كما تشير إليها الخرائط أيضا، أن الفوسفاط بنى اقتصادا محليا وأنتج أيضا تراتبا اجتماعيا انعكس بشكل واضح على هندسة المدينة وتجهيزاتها وتوزع فئاتها السكانية.

وبعد استقلال المغرب، ومع ترسخ اسم اليوسفية، استمر التوسع العمراني بوتيرة واضحة وفي مختلف الاتجاهات. غير أن الجهة الغربية برزت بشكل خاص بعد تجاوز خط السكة الحديدية، حيث ظهرت أحياء سكنية جديدة مثل حي التقدم، السمار، السلام، الزلاقة، السعادة، الساقية الحمراء، العيون، واد الذهب، المنار، ثم حي الداخلة.

ويعكس هذا الامتداد العمراني طبيعة النمو السريع للمدينة تحت ضغط الاستقرار السكاني المرتبط بالنشاط المنجمي، في ظل محدودية التخطيط الحضري وقدرته على استيعاب التحولات المتسارعة.

واذا تصفحنا خريطة اليوسفية لسنة 1994، يمكننا أن نرى أن المدينة كانت تتحرك وفق منطق منجمي واضح، إذ واكب التوسع العمراني ارتفاع الطلب العالمي على الفوسفاط، وما ترتب عنه من رفع عدد الأطر والعمال داخل القطاع. وفي هذا السياق، تروج بعض الروايات الشفوية أن نسبة الساكنة المشتغلة بالنشاط المنجمي بلغت مستويات مرتفعة جدا قاربت تسعين في المئة، وهو ما يفسر تحسن شروط العيش لدى شريحة واسعة من السكان، خاصة مع الامتيازات الاجتماعية التي وفرها المكتب الشريف للفوسفاط، ثم القروض التي شجعت على اقتناء السكن.

وبموازاة ذلك، يبرز تدخل الدولة في توجيه العمران عبر برامج السكن الاقتصادي، من خلال إحداث تجزئتي الرمل والغدير بما يقارب 409 مسكنا (الذي يطلق عليه بالسكن الاقتصادي). وهذا يبين لنا مدى تفاعل الاقتصاد المنجمي مع سياسات الإسكان التي تهدف إلى بناء المدينة ماديا واجتماعيا.

اليوسفية بين إرث المناجم وتحديات الحاضر

منذ مطلع الألفية الثالثة دخلت اليوسفية مرحلة مختلفة اتسمت باستمرار التوسع الحضري، ولكن في سياق اقتصادي واجتماعي مغاير. فالمعطيات الممتدة بين سنتي 2010 و2016، كما تظهرها الخرائط، تشير إلى توسع حضري في أغلب الاتجاهات، مع استثناء واضح يتمثل في الجهة الشمالية الشرقية، حيث يصبح التوسع شبه متعذر بسبب وجود منشآت المكتب الشريف للفوسفاط.

وخلال هذه الفترة، برزت تجزئة اكنيديز شمال المدينة مع ارتفاع كثافة الأحياء القائمة، غير أن النصف الثاني منها عرف تراجعا في وتيرة التوسع، بفعل تراجع عدد العمال نتيجة المكننة، وارتفاع عدد المتقاعدين الذين غادروا المدينة. غير أن هذا التراجع لم ينه الضغوط، بل حولها إلى اشكاليات من نوع آخر؛ كضعف الوعاء العقاري بفعل الملكية الخاصة، واستمرار التفاوتات المجالية.

وتوحي الخرائط نفسها أن هناك تباينا واضحا بين أحياء تقطنها فئات ذات مستوى معيشي ضعيف، غالبا ما تتموقع في الهوامش أو بالقرب من المنشآت الصناعية في مساكن غير لائقة مثل حي السكة وحي العيون، وبين أحياء المركز التي تستقر بها الفئات الأوفر حظا، مثل الحي المحمدي وحي الفتح، حيث تتركز المرافق الحيوية ويسود نمط السكن العصري والفيلات.

ويكشف هذا الواقع أن اليوسفية، رغم ما وفره الفوسفاط من فرص واستقرار في فترات صعوده، ما تزال تواجه تحدي تحويل إرثها المنجمي إلى تنمية متوازنة قادرة على تقليص الفوارق وبناء مدينة أكثر عدلا واندماجا. وهنا يمكننا القول؛ بأن إرث المناجم في اليوسفية ليس ذاكرة اقتصادية فقط، ولكنه بنية حضرية واجتماعية ما تزال تلقي بظلالها على الحاضر، وتدفعنا إلى التساؤل حول كيفية إعادة توزيع المدينة لفرصها ومجالها، وهي محكومة بتاريخ طويل لا تعتمد فيه سوى على المناجم.

خاتمة

من خلال هذه السطور التي حللنا من خلالها علاقة اليوسفية بالمناجم، وتتبعنا فيها أثر الفوسفاط في تشكلها العمراني والاجتماعي، يظهر أنه لا يمكن فهم مسار مدينة اليوسفية خارج علاقتها العميقة بالفوسفاط، الذي يعد موردا طبيعيا مهما وعنصرا بنيويا أسهم في تشكيل عمرانها، وبناء نسيجها الاجتماعي، وتحديد إيقاع حياتها الاقتصادية لعقود طويلة. غير أن هذا الإرث المنجمي، رغم ما وفره من مكاسب، يكشف اليوم حدود النموذج الأحادي، ويفتح أمامنا سؤالا مهما وضروريا، حول قدرة اليوسفية على إعادة صياغة تنميتها المحلية بما يستجيب لتحولات الحاضر دون قطيعة مع تاريخها.