المحتويات
توطئة
تؤكّد وقائع التاريخ القريب والحاضر على تعاطِي المغرب مع المحيط العربي والمتوسِّطي؛ وفي المتن منه؛ أعقَدُ قضايانا العربية؛ القضية الفلسطينية. فمُنذ إعلان قيام كيان “إسرائيل” في14 ماي 1948، واشتداد حدّة الصّراع العربي-الإسرائيلي في الخمسينات، واقتحام الخطاب القومي المشرقي لثقافة الشّارع المغربي، وتَسارُع وتيرة الهجرة اليهودية مِن المغرب نحو فلسطين المحتلة؛ سيجِدُ المغرب نفسه منخرِطا في الدفاع العربي الـمُشتَرَك، تارةً بالحروب، وتارةً بالـمفاوَضات.
وعلى الـمُستوى الشّعبي والمدني؛ لم تتوّقف مبادرات وأشكال الدعم والـمُساندة للكفاح الفلسطيني، والشّجب والرّفض للحروب العدوانية على فلسطين، وفي السياق الـمعاصر على قطاع غزّة، حيث أُقيمت الصَّلوات في المساجد مِن أجْل فلسطين، وتَمّ جَمْع التَّبَرُّعات للمجاهدين، وتشجيع ذهاب المتطوِّعين للتَّضحية في ساحة الشَّرف، والزيادة مِن حِدَّة مقاطعة البضائع الإسرائيلية، والإبداع في المهرجانات والوقفات والمسيرات، وغيرها من أشكال التضامن، الـمُـتَمِّمة لجهود الدولة في العلاقة بالقضية الفلسطينية.
المغرب في مُحيطه المتوسطي.. حضور وتأثير
إنّ أدوار المغرب على المستوى الرّسمي في الصّراع العربي الإسرائيلي عبر طَور زمني يمتدُّ مِن المشاركة في حرب 1948 على عهد السلطان محمد الخامس، مُروراً بأبرز محطّات المعارك العربية الإسرائيلية فيما بين 1956– 1973 على عهد الحسن الثاني؛ غير خافية على الباحثين والصحافيين والشّهود الذين عايشوا الـمرحلة، ورموز المخزن الـمغربي الذين كانوا على مَقرُبة من الملك طيلة أطوار الـمُشارَكة المغربية في الدفاع الـمُشترك ضد العدوان الإسرائيلي.
ورغم أنّ موقع المغرب على هامش بُؤر الصّراع والتوتّر في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وطابعه الأقصى جُغرافيا جَعَله في منأى عن الانشغال بقضايا ما يجري في المنطقة العربية؛ إلا أنّ ذلك لم يُعفِهِ مِن أنْ يَكون حاضرا في ملفّات متوسطية وشَرق أوسطية، عارضا الوساطة تارةً، وقاصدا الحصول على دعْمٍ لملف نزاع الصحراء تارة أخرى، ومشارِكاً في سلسلة المواجهات العسكرية اختياراً أحيانا، واضطراراً أخرى، وداعيا إلى مسلسل السّلام في سياقات أخرى.
إسهام مغربي في معارك الصراع الإسرائيلي-العربي
بِقَدر ما “أدرك المغاربة قيادةً وشعباً طبيعةَ المؤامرة الغربية الصّهيونية على فلسطين منذ وعد بلفور (1917م)، وإنشاء “دولة إسرائيل” (1948) وهدفها [بِــ] جَعْلها قاعدة عدوانية ضدّ الأمة العربية، ومُرتَكَزاً للمخطَّطات الهادفة إلى مَنْع توحيد الأمة ولاستنزاف خيراتها؛ أَدْرَك [أيضا] ما في الفِكر الصّهيوني مِن شُذُوذ وتناقُض مع القيم الإنسانية. فَدعا إلى دعْم الشَّعب الفلسطيني لأخْذ زمام أمور قضيتِه بيده، ووقَف ضدّ استِغلال القضية الفلسطينية لأغراض قُطرية، أو [اتّخاذِها] وسيلة مِن وسائل الدعاية للحُكم كيفما كان”[1]؛ بِقَدر ما سيَخْلُق نظام الحسن الثاني واقِعا جديدا مُـعْتَـبِـراً بالـمُتَغَيِّر السِّياسي في العلاقات الدولية، وبتحوّلات مسارات القضية الفلسطينية ومآلات الصِّراع العربي-الإسرائيلي، آلَ في فترات معيّنة إلى تطبيع العلاقات ودَعْم مسار السلام مع “إسرائيل”.
ولأنَّ “المغرب لا يملك أنْ يَتَجَاهل الواقع المحيط به”[2]؛ فقد عَبّرَ عن موقفه وموقعه على مُستوى العلاقة الحربية إنْ جاز التعبير، فرأينا إدارة الدّولة تبادِر”إلى إرسال تجريدة عسكرية تَوقّفت بمدينة بنغازي في ليبيا، لأنّ الحرب كانت قد انتهت، وفَرَضت على المغاربة ضريبة غير مباشرة لفلسطين (السجائر، قاعات السينما..)”[3]، وهو الإسهام العسكري الذي لم يَمُرَّ دونَ تَسجيل بعض الأحزاب والمنظمات النقابية لمواقِف سياسية إزاء الدّور المغربي في حرب 1967م.
من جِهَته واصَل النظام المغربي جُهود الدّفاع عن فلسطين، حيثُ “وفي العام 1969؛ وعلى إثر جريمة محاولة إحراق المسجد الأقصى مِن قِبَل المحتل الصّهيوني، دَعا ملك المغرب إلى عقد قمّة إسلامية بالرِّباط، تُعتَبر الأولى مِن نوعها في تاريخ الأقطار العربية، كان موضوعها هو فلسطين عموما، والقدس خاصة، وكانت بمثابة تصحيح للمخطّط الأمريكي الأسبق لتشكيل حِلف إسلامي ضدّا على الاتحاد السوفيتي، والذي أفْشَلَتْهُ مِصْر بقيادة جمال عبد النَّاصر في حينه”[4]، وبالموازاة مع ذلك؛ ظَهرت أمارات تَحرُّك دولي، بحيث رأينا كيفَ تَمَّ ذلكم التحالف “بين أوربا غَرْبَهَا وشَرْقَها، والعالَمَيْن العربي والإسلامي وأغلبية دول الجنوب ضدّا على الاحتلال الإسرائيلي لصحراء سيناء، ومِن ثَـمَّ إقفال قناة السِّويس، الأمر الذي أَضَرَّ اقتصاديا وتجاريا بالجميع _ ما عدا أمريكا وإسرائيل _ اللتين استفادَتا مِن الإقفال”[5]، بَل إنَّ عدوان 1967م كان هدفه ذلك بالذّات.
وعلى المستوى الدّاخلي؛ توجَّه الحسن الثاني بنداء إلى القوات المسلَّحة عبْر خطاب مُتَلْفَز دعا فيه إلى التطوّع للحرب ضدّ العدوّ الإسرائيلي، واستجاب الآلاف؛ في حين تمَّ الاكتفاء بتجريدتين عسكريتين في الحرب العربية-الإسرائيلية الثانية، قَدَّمَتَا صُوراً مُلهِمة مِن البطولة والفداء والتضحية، وقد كان أكثر مَن فيها مِن المناطق الناطِقة بالأمازيغية، كما تجاوبَ مع النداء الملكي المجتمع المغربي، الذي سارَع للتبرُّع بأنفس ما يملك ماديا ومعنويا.
وقُبيل اندلاع المواجهة العربية الإسرائيلية الثالثة عمِل المغاربة على المساهمة عن طريق بعض الهيئات الحزبية والنقابية الوطنية في تأسيس تَكتُّل جَبهوي عربي مُشتَرَك مسانِد للثورة التحررية الفلسطينية، وذلك من بيروت عام 1972، كما سَبق الانخراط الرّسمي للمغرب في حرب 1973؛ حُدوث بعض المنعطفات المثيرة في تاريخ المغرب الراهن، فقد أدّت الـمحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين سنتيْ 1971 و1972 بالملِك الحسن الثاني إلى البحث عن بدائل إضافية لإعادة الشّرعية، ومِن بين هذه البدائل استرجاعُه للسياسة العربية الإسلامية التي كانت تُطالِب بها القوى السياسية المعارِضة (حزب الاستقلال، وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية)، التي عمِلَت _إلى جانب هيئات مدنية وشخصيات اعتبارية ومناضلين آخرين _ على تأسيس الجمعية المغربية لمساندَة الكفاح الفلسطيني إثر نكبة 1967م.
سارَع المغرب إلى إرسال قوات مِن الجيش المغربي إلى الجولان خلال الحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر 1973م، مما كان له معه مَزيدُ سُمعة المغرب في العالم العربي. وارتكازاً على دور القوات المسلّحة الملكية في حرب رمضان؛ دافَع الحسن الثاني منذ 1976 عن طَرْح الحلّ العادل والمنصف للصّراع العربي الإسرائيلي، ورفْض سياسة الكلّ أو لا شيء. و”منذ السبعينات كان يُنادي بحوار مباشر بين أطراف النّزاع يُـمَكِّن مِن وَضْع أُسُس التّعايش بين الفِلسطينيين والإسرائيليين”[6].
خاتمة
ما إن أهلّت السنوات الأخيرة من عقد السبعينات حتى ألْفَى ملك المغرب نفسه يعمَل “بنشاطٍ على الدّفع بمبادرات جرّيئة مِن أجل إيجاد حَلّ للصِّراع العربي الإسرائيلي، فالثِّقل الانتخابي غير الـمُستَهان به للطائفة اليهودية ذات الأصل المغربي في “إسرائيل”، والعلاقات الجيِّدة التي تربِطُ الملك بالمسؤولين المصْريين والسَّعوديين، جَعَلت منه الوسيط بامتياز بين “إسرائيل” والدّول العربية المعتَدِلة المقرَّبة من الولايات المتّحِدة”[7]، كما “هيّأ الترابَ المغربيَّ لعَقد اللِّقاءات التّحضيرية بين موشي دَيان وحَسَن التّهامي المصري، لترتيب سَفَر أنور السّادات إلى القُدس، ليَحصُل المغرب مقابِل ذلك على الدّعم الدّبلوماسي المصري في نزاع الصّحراء”[8]، وذلك في سنة 1977م.
غير أنَّه عادَ لاحِقاً في نونبر 1978 على هامش قمة بَغداد؛ لرفض مخرجات وقرارات معاهد (ماركو Marco) الصَّادرة عن اتفاقية السّلام “كامب دايفييد”. كما عَمِلَ بَعد ذلك على وضْع خطَّةٍ عربية بتعاون مع المملكة العَربية السَّعودية، تقتضي بجعل قمة فاس الثانية سنة 1982 مَدْخَلًا لاسِتبدال استراتيجية المواجَهَة والحروب ضدَّ الكيان الصهيوني باستراتيجية السَّلام والتَّعاون والدَّفع بالاعتراف الضِّمني بحلّ الدّولتين.
المراجع
[1] مجلة "الملتقى"، العدد 33، أبريل 2015، طبع العدد بدعم من وزارة الثقافة، ص: 179، بتصرف شديد.[2] مقتطف من خطاب الحسن الثاني في عيد العرش ليوم 3 مارس 1993.
[3] (بلكبير) عبد الصمد: مقال، "فلسطين قضية وطنية"، منشور بمجلة "الملتقى"، مرجع سابق،ص: 15.
[4] (بلكبير) عبد الصمد: مقال، "فلسطين قضية وطنية"، مرجع سابق، ص: 16
[5] (بلكبير) عبد الصمد: مقال، "فلسطين قضية وطنية"، مرجع سابق، ص: 16
[6] (دي لارامندي) ميغيل هرناندو: "السياسة الخارجية للمغرب"، ترجمة عباد العالي بروكي، سِلسلة ضِفاف، منشورات الزمن، الطبعة الثانية، 2014، الدار البيضاء، ص: 258-259
[7] (دي لارامندي) ميغيل هرناندو: "السياسة الخارجية للمغرب"، مرجع سابق، ص: 262.
[8] (دي لارامندي) ميغيل هرناندو: "السياسة الخارجية للمغرب"، مرجع سابق، ص: 263.