مقدمة

اكتست المقاومة المعيننة على مدى ثلاثة عقود بعدها الوطني الوحدوي، جامعة بين جغرافيات مختلفة وقبائل شتى، لتنصهر فيها مكونات يمكن رسم حدودها من أزواد جنوبًا إلى الأطلس شمالًا. وانتقلت هي بدورها، بشكل مباشر أو غير مباشر، لتعبر هذه الحدود، مما جعلها مقاومة شمولية أتعبت العدو وأرهقته.

هذه الرؤية الوحدوية جعلت رموزها يعبئون كل إمكانياتهم للتواصل والتنسيق والتحريض على الجهاد ودعمه، خاصة مع زحف المستعمر الفرنسي وتوغله في مناطق الأطلس وداخل المغرب. وقد جمع هذا التنسيق بين المراسلات وتبادل المعلومات والأخبار، أو إرسال مبعوثين استقروا في تلك البلاد المتاخمة لسوس لسنوات، مثل حالة الشيخ سيدي علي بن الشيخ محمد فاضل في الأطلس المتوسط، الذي يمثل نموذجًا واضحًا لهذا العمل الوحدوي. فالشيخ، على مدى سنوات، ظل في مناطق الأطلس يجاهد بتواصله وعلاقاته ومشاركته الفعلية في معارك تلك الفترة، خاصة وأن استقراره بالمنطقة تزامن مع حراك جهادي عرفه الأطلس المتوسط، أبطاله مجاهدون أوجعوا المستعمر الفرنسي.

من هو الشيخ سيدي علي بن الشيخ محمد فاضل؟

هو الشيخ سيدي اعلي بن الشيخ محمد فاضل بن مامين، ولد  سنة 1283 للهجرة الموافق لسنة 1866 ميلادية. ذكره الشيخ أحمد بن الشمس في النفحة الأحمدية بقوله: “هو العلامة المشارك المكاشف النوراني، أسلم نفسه لشيخنا.. وهو الآن معه وله مشاهدات وأذواق ومكاشفات، ومناقبه لا تحصى”[1]. عرفه العلامة ماء العينين بن العتيق في كتابه سحر البيان حيث قال: “ومنهم أخوه أبو الفيض العلامة المشارك المكاشف النوراني سيدي علي بن شيخنا الشيخ محمد فاضل بن مامين رضي الله عنهم فإنه أسلم نفسه شيخا أدام  الله ذكره وهو الآن معه وله مشاهدات وأذواق و مكاشفات ومناقبه لا تعد ولا تحصی”..[2]

وكتب الطالب أخيار بن مامينا في تعريفه له: “هو الشيخ سيدي اعلي بن الشيخ محمد فاضل بن مامينْ. وُلد سنة 1283هـ 1866م. كان من العلماء العاملين، والعباد المتقين، كثير العبادة وقيام الليل، لا يفتر عن ذكر الله. أخذ العلم عن أخيه الشيخ ماء العينين ولازمه وانتفع به، وأجازه وصدره. ذكره الشيخ أحمد بن الشمس في النفحة الأحمدية، وقال: “هو العلامة المشارك المكاشف النوراني، أسلم نفسه لشيخنا.. وهو الآن معه وله مشاهدات وأذواق ومكاشفات، ومناقبه لا تحصى. تُوفي رحمه الله سنة 1361هـ 1942م. ودُفن في تِيغْمَرْتْ قرب كليميم”[3].

جهاد الشيخ سيدي علي بن الشيخ محمد فاضل في تادلة

انخرط الشيخ سيدي علي بشكل فعلي في المقاومة المعينية ضد المحتل الفرنسي، ولعب في ذلك دورا محوريا، خاصة حين تواجده في مناطق الأطلس المتوسط، فالشيخ بمؤهلاته و ثقله الروحي والاجتماعي تمكن بشكل فردي دون أن يكون محاطا لا بجيش و لا أتباع موالين له، أن يمارس دور التعبئة وأن يحظى بعلاقة قوية في محيط غريب عنه تماما، ليظل طيلة سنوات خليفة ومحركا للعمل الجهادي، وهذا ما تحدثت عنه ورصده المحتل وصحافته.

ظل الشيخ سيدي علي في تلك البلاد حوالي الخمسة عشر سنة، على فترات كما تشير مجموعة من الوثائق و الشهادات، مارس خلالها كما أسلفنا دورا طلائعيا، من حيث التنسيق أو من خلال المشاركة الفعلية في معارك الأطلس الشهيرة.[4] غير أننا من خلال هذه المقالة سنحاول التطرق الفترة الممتدة بين 1914 و 1920.

فما إن استتب أمر البيعة للشيخ أحمد الهيبة، بادر الشيخ إلى تنظيم أمر الجهاد، من خلال تعيين القضاة والقادة وخلفائه على مختلف المناطق، فعين الشيخ أحمد الهيبة عمه الشيخ سيدي علي خليفة له على مناطق تادلة و نواحيها.[5]

لم تتوقف المقاومة المعينية على هزيمة معركة سيدي بوعثمان 1912م، بل انتقلت معها من المواجهة المباشرة إلى حرب أشبه بالعصابات معتمدة على جغرافية سوس التي تمركزت في جبالها واستقرت لتظل طيلة عقدين، عملت من خلالها على الانفتاح على باقي الفعاليات المقاومة والتنسيق معها لضرب المحتل الزاحف في مناطق عدة. وكانت مناطق الجنوب الشرقي والوسط في تادلا الأقرب لسوس، ففي الفترة التي مكثها الشيخ أحمد الهيبة مثلا في “تيمكر” (1913م/1914م) ظل على اتصال بزعماء المقاومة في الأطلس المتوسط بواسطة عمه الشيخ سيدي اعلي الذي كان حلقة الاتصال بينهما.

ذكر سعد خليل: “أنه خلال الحرب العالمية الأولى كان الهيبة من مكانه في “أكردوس 55 كلم جنوب شرقي تزنيت يتصل بكل زعماء حركات المقاومة في مراكش بمراسلات نشطة. وكان عمه سيدي اعلي، المقيم في الأطلس الأوسط يتلقى خطاباته ويوزع بعضها وينشر الآخر. وكان الهيبة كثير التراسل مع موحا أوحمو الزياني بطل معركة لهري قرب مدينة خنيفرة 1914م وسيدي راحو”.[6]

كما قام الشيخ سيدي اعلي بدور متميز في استنفار القبائل بنواحي “تادلة” للجهاد. كان من نتائجه مثلا قدوم مجموعة كبيرة من أعيان تلك القبائل مع الشيخ حين عودته لأكردوس للمشاركة في الجهاد من بينهم سي حمو حد، وحمادي عباس وحمو الحسين، وحمادي صالح، وسي قدور.[7]

رصد المستعمر الفرنسي هذه التحركات كما جاء في التقرير الشمولي لمجريات الحماية الفرنسية (شهر أكتوبر 1914م)، حيث ورد أن الشيخ سيدي علي عم أحمد الهيبة يجرى سلسلة من الاتصالات مع زعماء قبيلة آيت عتاب لدعوتهم إلى الجهاد في سبيل الله.

وعن هذا الدور يقول الخليفة الشيخ سيدي علي في رسالة إلى الشيخ النعمة بن الشيخ ماء العينين مؤرخة بتاريخ 3 جمادى الأول 1334 للهجرة: “… وليكن في كريم علمكم أن هذه النواحي العدو فيها قد اضمحل أمره وتلاشت كلمته له الحمد وقد بلغنا أنه في ضيق من جهة الغرب من قبل العثماني. وأما نحن لازلنا في الموضع الذي كنا بيه”.[8]

ظل الشيخ سيدي علي مستمرا في دوره التعبوي الحاشد للمقاومة والمحرض ضد المستعمر وأعوانه، حيث “واصل هذا الشيخ خلال سنة 1915م دعايته وتوزيعه للرسائل التي بعث بها الشيخ أحمد الهيبة من كردوس على مستوى قبائل منطقة أزيلال والتي يدعوها فيها إلى مقاومة الاحتلال، وفي نفس الوقت يخبرها بأن العناصر المساندة لقوات الاحتلال سيتم طردها من سوس“. [9]

أثمرت جهود الشيخ و ظهر وقعها في استجابة عديد من القبائل لدعوة الجهاد، ومن ذلك مثلا قبيلة أولاد يوسف التي بعثت ومقدمهم حماد أحمد وسيد المعطي برسالة إلى الشيخ أحمد الهيبة مؤرخة في 2 جمادى الأول 1334 هجرية  ومما جاء فيها: “… وليكن في كريم علم سيدنا، أنا عند السمع والطاعة لكم و لشيخنا الشيخ سيدي علي بن شيخنا الكبير وها نحن عند سمعه وتحت طاعته”.[10]

وعن هذا التنسيق يخبرنا التقرير الشمولي لسلطات الحماية لشهر دجنبر 1915م عن العلاقة التي كانت قائمة خلال هذه المرحلة بين الشيخ أحمد الهيبة وبين الشيخ محمد بن سعيد المعمري الذي كان يتولى المشيخة العامة القبيلة آيت عتاب والمشيخة العليا لقبائل المنطقة.

وفي شهر مارس 1916م لوحظ وجود رقاص للشيخ أحمد الهيبة في فم الجمعة بقبيلة هنتيفة يحمل كذلك رسائل إلى سيدي علي عم الهيبة وإلى البطل موحى وسعيد الويراوي والبطل موحى أوحمو الزياني، غير أن الإشعار بوجوده بقبيلة هنتيفة جاء متأخرا، ولم يتم إلقاء القبض عليه.[11]

عرفت سنة 1917م أحداثا مهمة وانتصارات كان أهمها معركة ايكالفن و مقتل الباشا حيدة بن ميس، مما استنفر الجانب الفرنسي وأعوانه لتجهيز حملة للقضاء على جيوب المقاومة خاصة في نواحي مدينة تزنيت حيث الهزيمة الشنعاء.

كان لهذه الانتصارات صدى كبيرا في أوساط سكان منطقة أزيلال، وحافزا قويا للمجاهدين على الاستمرار في المقاومة. وخلال هذه السنة كانت رسائل الشيخ أحمد الهيبة تتلى في أسواق منطقة أزيلال من طرف سيدي محا الحنصالي شيخ الزاوية الحنصالية بأكوديم والتي تحض على الجهاد. وجاء في الجريدة الرسمية الصادرة باللغة الفرنسية بتاريخ 5 غشت 1918م أن سيدي علي عم الشيخ أحمد الهيبة لجأ في شهر يوليوز 1918م إلى فم العنصر حيث قام بحملة دعائية واسعة النطاق ضد الفرنسيين. وفي شهر فبراير 1919م تليت رسائل للشيخ أحمد الهيبة.[12]

عاد الشيخ سيدي علي بن الشيخ محمد فاضل بن مامين إلى أكردوس سنة 1920م، وقد ذكر المؤرخ الطالب أخيار بن مامينا نقلا عن الشيخ محمد بن الشيخ الجيه قدوم مجموعة كبيرة من أعيان تلك القبائل مع الشيخ حين عودته لأكردوس للمشاركة في الجهاد من بينهم سي حمو حد، وحمادي عباس وحمو الحسين، وحمادي صالح، وسي قدور….[13]

هذه العودة، حسب المستعمر نفسه، لا تعني توقف الشيخ عن دوره الجهادي، فكما جاء في التقرير السنوي (يناير 1920م)، وكما أسلفنا، فالنفوذ وحجم العلاقات التي راكمها الشيخ ستجعله قناة التواصل بين المجاهدين في سوس و إخوانهم بالأطلس، “ومن الجيد عدم نسيان وجود سيدي علي، شقيق ماء العينين، في **كردوس**، الذي أقام لفترة طويلة في الأطلس المتوسط بين بني ملال وخنيفرة، والذي بالتأكيد على علاقة مع ضيوفه السابقين، والذي من المفترض أن يكون حلقة وصل مع المنشقين من الشرق.”[14]

خاتمة

يذكر التاريخ شخصيات مثل مولاي إدريس الأول وعبد الرحمن بن معاوية الأموي، وغيرهم من القادة الذين تمكنوا بشكل ذاتي وفردي من تأسيس دول وقيادة حركات. مثل هذه الكاريزما، التي تجعل من شخصيات بدون ثقل عصبي قادرة على قيادة مجتمعات أو التزعم وصناعة أحداث تاريخية، تعتمد اجتماعيًا على معايير الشرف والقداسة أو الشخصية الروحية الدينية، علاوة على القدرة الذاتية على التكيف وقيادة مجتمع غريب عنهم تمامًا. لعل مثل هذه الأوصاف اجتمعت في شخصية الشيخ سيدي علي، الذي استطاع أن يصنع لنفسه مكانة بين مقاومتين مختلفتين، ولكنهما تشتركان في بيئة وهوية جامعة.

المراجع
[1] أحمد بن الشمس، النفحة الأحمدية، الجزء الثاني، ص 128.
[2] سحر البيان، ماء العينين بن العتيق ص 138 (مخطوط).
[3] الطالب أخيار بن الشيخ مامينا، الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوروبي؛ الجزء الأول، الطبعة الثانية، منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث والتنمية، ص 332.
[4] شهادة لفيف موثقة لمجموعة من الشخصيات التي عاصرت الشيخ تواجد الشيخ سيدي اعلي قدمها احد حفظة الشيخ.
[5] الطالب أخيار بن الشيخ مامينا، كتاب الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوروبي؛ مرجع سابق، ص 411.
[6] الطالب أخيار بن الشيخ مامينا، كتاب الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوروبي؛ مرجع سابق، ص 486.
[7] الطالب أخيار بن الشيخ مامينا، كتاب الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوروبي؛ مرجع سابق، ص 478.
[8] الشيخ مربيه ربه ابن الشيخ ماء العينين (Merrebbi Rebbo)1298-1361هـ/1881-1942م، إعداد: محمد الإمام شيبة الشيخ ماء العينين، الطبعة الأولى، 2023، ص 290.
[9] مقاومة سكان إقليم أزيلال للاحتلال الفرنسي في مرحلة غزو المغرب ما بين سنوات 1912-1933م، عيسى العبدي، ص 685-686.
[10] الشيخ مربيه ربه ابن الشيخ ماء العينين (Merrebbi Rebbo)1298-1361هـ/1881-1942م، مرجع سابق، ص 290.
[11] مقاومة سكان إقليم أزيلال للاحتلال الفرنسي في مرحلة غزو المغرب ما بين سنوات 1912-1933م،مرجع سابق، ص 686.
[12] مقاومة سكان إقليم أزيلال للاحتلال الفرنسي في مرحلة غزو المغرب ما بين سنوات 1912-1933م،مرجع سابق، ص 686.
[13] الطالب أخيار بن الشيخ مامينا، كتاب الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوروبي؛ مرجع سابق، ص 478.
[14] Rapport mensuel d'ensemble du protectorat, janvier 1920 p 8.