
المحتويات
توطئة
عن مؤسَّسة عبد الخالق الطريس بتطوان، صدر كتاب قيّم للمؤرخ الراحل محمد بن عزوز حكيم في طبعته الأولى سنة 1983، بعنوان “الستّ الحرة بنت الأمير مولاي علي بن راشد حاكمة تطوان”، ضمن سِلسلة دراسات حول تاريخ شفشاون وتطوان، العدد الثالث، مستنِداً إلى الأرشيف الهام الذي كان بحوزة الكاتب، باللغات العربية والإسبانية والبرتغالية، والوثائق النادرة. يُسلّط الكتابُ الضوءَ على المسار السياسي للمرأة المغربية الوحيدة التي تسلَّمت زمام حُكْم مَدينة تطوان مِن سنة 1525م إلى غاية سنة 1542م. وهي المرأة سليلةُ بيت الـحكم والزعامة والقيادة والجهاد، وابنة أمير شفشاون مولاي علي بن راشد (تــ 1512م). ويَعتني الكتاب بإبراز جوانب المواهب والمهارة القيادية في شخصية السيدة الحرة، وأهمّ مبادراتها إبّان تَوَلّيها القيادة.
النّسب الشّريف والـمَشرَب العفيف
تَرتفع السيدة الحرة بنَسَبِها إلى الولي الصّالح مولاي عبد السلام بن مشيش (تــ 1262م) رحمه الله. فهي إدريسية مِن جهة الولي المذكور الذي ينتهي بنسبه لمولاي إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنَّى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تَربّت في بيت عِلْم وشَرفٍ ونخوة، مُقادٍ برجالٍ استَرخصوا الغالي والنّفيس في سبيلِ صيانة الدِّين وحَوزة الثّغور الشّمالية والذّبِّ عن الأرض والعِرض.
يَنفي الكاتب ابن عَزّوز أنْ يكون الاسم الحقيقي للسيدة الحرة هو فاطمة كما ذهب إلى ذلك الباحث جبور عبد الرحيم[1]. كما لا يوافق على الرواية المغربية التي أخَذت عن الرواية الأجنبية في القول بأنَّ اسمها هو عائشة. لذا؛ يحرص على إيراد الاسم الذي اشتَهرت به طوال حياتها من خلال ما وقف عليه مِن مصادر ووثائق أجنبية، التي تسميها الستّ الحرة أو السيدة الحرة، وتَكتب اسمها كالآتي: Cyte Alhorra ،Sitalhorra ،Citalhorra ،Citilhorra ،Sitilhorra، وأنّها -وشَقيقَها مولاي إبراهيم- كانا مِن أمٍّ نصرانية إسبانية. “وُلِدَت بمدينة بِـخير دي لا فْرُونْطِيرا بإقليم قادِس بالأندلس”[2]. تزوَّج بها أمير شفشاون حين مُقامه بغرناطة مُشارِكًا في حروب المسلمين ضد نصارى قشتالة بعد 1460م، وبَعد أن أسْلَمت، أطْلَق عليها اسم “لَلّا الزهراء”.[3]
أما ميلاد السيدة الحرة فيُرَجِّح المؤرخ ابن عزوز ازديادها بحاضرة شفشاون حوالي سنة 900 هجرية الموافِق لــ 1495 ميلادية. كونها لم تكن تبلغ العشرين من عمرها حين وفاة والدها سنة 1512م. وترعرعت الحرة في بيت علم ونسب، على عيْنِ أبيها وأعمامها وأخواتها الذكور. فَتَلَقَّت مِنهم تَكوينا علميا وفقهيا وتربية دينية، كما تميزت بسرعةِ تَعلُّم القشتالية.
مِن شفشاون إلى تطوان.. رحلة الزواج الأول
بتمحيص مَصادر المرحلة الأجنبية والمغربية؛ يُـفنِّد الكاتب مزاعم المؤرخ لابيرون القائلِ بتزويج السيدة الحرة أوّلَ مرةٍ للسّيد القائد المنظري الأول باني تطوان ومجدِّدها. ذلك أنَّ المنظري أدْركته الوفاة وهو طاعن السّن عامَ 1504م في الوقت الذي لم يكن عمْر الحرة يتجاوز 10 سنوات. كما يُصحِّح مَزاعم العلامة والمؤرخ الكبير محمد داود (تـ. 1984م) الذي قال بزواج السيدة الحرة من المنظري الثالث، أي حفيد المنظري الأول. في حين تؤكّد المعطيات التاريخية أنّ المنظري الثالث “كان صهر الست الحرة بحكْمِ أنَّه تَزَوَّج ابنَتَها التي أنجبَتْها مِن زواجها بالمنظري الثاني”[4] كما سيأتي بيانه في المباحث الآتية.
إنَّ القول الذي يَرى ابن عزوز صِحَّته في هذه النازلة، والصّواب الذي يَذهب إليه؛ أنَّ الزواج الأول للحرة بنت مولاي علي كان بالسيد المنظري الثاني، ابن أخ القائد المؤسس المنظري الأول رحمه الله. وأنجبت معه ابنتهما الوحيدة “التي يَذكرها التاريخ دون أن يُعرّفنا باسمها، ولو أنّـنا نعرف أنّ هذه البنت تزوّجت المنظري الثالث حفيد المنظري الأول”[5]، حسَب تعبيره.
تَرتَّب عن هذا الزواج انتقال السيدة الحرة إلى حاضرة حُكْم آل المنظري. الذين اختاروا عليهم المنظري الثاني، والذي بِدَوْره كان يُنيب عنه زوجته النابغة الحرة حين غيابه عن المدينة، فكان في ذلكَ تأهيل لها للإشراف لاحقا على حكم المدينة الإستراتيجية في مغرب القرن السادس عشر، تطوان.
قائدةٌ فَـحاكِمة.. أدوار ومهام
من المدينة التي كان لها دَور جِهادي مشهور ومَشكور منذ هَدَّدت البرتغال سواحل المغرب الشمالية. فقاوَمت وصَمدت ضد حالات التخريب التي أحْدَثها فيها البرتغاليون سنة 1437م. وتبَنّت قَضية سَبتة ورابَطت -بساكِنتها- على حدودها وتُرابها لحمايتها من الغزو البرتغالي فيما بين 1415م و1437م. والمدينة التي ستشهَد انتعاشَتَها بالتجديد الذي طالَها على أيدي الأندلسيين النازِلين بها؛ مِن هذه المدينة؛ تِطوان ستُباشِر السيدة الحرة أدوارها السياسية والـجهادية مُستأنِفة وظيفة أبيها الذي كان “أوّل حاكم لمدينة تطوان بعد إعادة تجديدها من سنة 1483م إلى سنة 1493م”[6]. وأساسا بَعدما تَسلّمت المدينة من قيادة أخيها إبراهيم بن علي سنة 1525م، الذي لبّى دعوة السلطان الوطّاسي مولاي أحمد فارتحل إلى فاس لتولّي منصب الوزارة لدى بني وطاس. فكانت بذلك “المرأة المغربية الوحيدة التي مارسَت الحكم الـمباشِر في مدينة مِن مدن المغرب المسلم دون أن تجِد أيّة معارضة مِن طرف سكّانها”[7] حسب المؤرخ الكبير محمد داود. وأضْحت القوات البرتغالية تُنَادي عليها منذ 1528م “سيدة تطوان”، لأنها فعلا -حسب ما أكد المؤرخ ابن عزوز– كانت “حاكمة على تطوان وذلك إلى غاية 1542م”.[8]
واستنادا إلى المؤرخ الإسباني هنري دي كاسْتريس وإلى الوقائع المرصودة مِن قِبَل الوثائق والمراسلات والمصادر الإسبانية والبرتغالية؛ يُلخِّص ابن عزّوز حكيم بعض أهمّ المهام التي باشَرَتْـها السيدة الحرة طيلة مدة حكمها، ومنها:
- ربطُها للعلاقات مع قائد قراصنة عُثمانِيّي الجزائر خير الدين بربوس، وتَعْزيزها صِلاتِـها بأخيها الوزير إبراهيم، الذي ساعدها من فاس في القيام ببعض الأعمال الجهادية في البحر. كما كان لها موقفٌ بشأن اتفاقية الصلح التي كان الوطاسيون يَسعون لتوقيعها مع حكّام لشبونة أَدَّى لجمُود العملية و”حالَ دون الوصول إلى إبرامها بالسّرعة المطلوبة”[9]. ذلك أنها تَـحفّظت بِشدّة على بعض البنود التي كان يُراد بها تحريم وتجريم القرصنة البحرية أو الجهاد البحري بالتعبير الإسلامي الذي كانت تَنهجه وتزاوله السيدة الحرة دفاعا عن مدينتها وحماية لمرسى مرتيل ومرسى العرائش.
- مشاركَتُها بــ”خَـمْس سُفن مِن أسطول السيدة الحرة، والتي رَجعت إلى مرتيل محمَّلة بغنائم كثيرة وعدد من الأسرى الإسبانيين يفوق ثمانين امرأة وطفلا”[10]. وذلك في أحداث الهجوم العثماني على مدينة جبل طارق يوم 10 شتنبر 1540م.
- إسهامها في تحرير 340 أسيراً إسبانياً مقابِل فِـدْية قيمتها ثلاثة آلاف ريال عقِب الوساطة التي قام بها لديها القسّيس الإسباني كونْطريراس في غشت 1541م.
كانت سنة 1439م منذِرة بتغيُّـرٍ في أمور الـحُكم بقيادة الست الحرة، ففيها فَقَدت أخاها إبراهيم الذي عاجَلَتْه المنِية بفاس، ففقَدت فيه الوزيرَ النصيرَ الـمدافع عنها والـمُعين لها. وفيها عانت مِن أطْماع أخيها مِن أبيها؛ محمد بن علي -وكان وقْتَئذٍ أميراً على شفشاون- حيث تطلَّع لضمِّ تطوان إلى حُكمه، الأمر الذي اضطَرَّها إلى الاستعانة بصِهْرها زوج ابنتها أحمد الحسن الـمنظري وإشراكه في حُكم تطوان فيما بين 1539–1541م وِفق الكاتب الإسباني لويس دي سوزا، ووفق ما ذكره السفير البرتغالي في المغرب بيريس دي طابورا في رسالة إلى الملك خوان الثالث بتاريخ 26 يوليوز 1541م.
وما إن حلَّت سنة 1541 الموافق لــ 948 هجرية، حتى تَزوّجت السيدة الحرة بالسلطان مولاي أحمد الوطّاسي (تــ 1545) بمدينة تطوان. حيث أقيمَ حفل الزّفاف وفق ما أورده العلّامة محمد العربي بن يوسف الفاسي في كتابه الشهير “مرآة المحاسن مِن أخبار الشيخ أبي المحاسن”[11]، والمؤرخ الفقيه محمد داود في “تاريخ تطوان”[12]. وقد كانت هذه الزِّيجة بطعْم السياسة، ذلك أنّ السلطان الوطّاسي حرِص على توطيد علاقة مملكته بالأسْرة الراشدية القوية، وتعزيز جيوشه بجنودِ ومتطوِّعَةِ شفشاون وتطّاون لدرْء خَطر السَّعديين الصّاعد من جنوب المغرب. وبَقِيت “السيدة الحرة منفرِدة بحكم تطوان بِصِفَتها خليفةً للسلطان، ومُكلَّفَةً بنهْج سياسة التّصالح مع الحكام البرتغاليين للمدن الـمحتَلَّة بشمال البلاد”.[13]
إلا أنَّ تطوّرات الأحداث في الشمال والجنوب، ومعاناة السلطة الوطاسية مع الأشراف السّعديين المتطلِّعين للسلطة، وتآمُر الأمير الشفشاوني محمد بن علي بن راشد ضدّ أخته، وانْسِداد العلاقات بين حاكمة تطوان والبرتغاليين نتيجة إفراطهم في التعدِّي على الحدود المغربية والسواحل؛ أدَّت بالسيدة الحـرة إلى الدُّخول في مرحلة عصيبة. حيث أعلَنت الحرب على البرتغال في سبتة، وقطَعت صِلاتها بأخيها محمد، “الأمر الذي ساعَد خُصومَها على تدبير مؤامرة ضدّها (..) و[أثاروا] سكّانَ تطوان ضدّها وضدّ زوجها السلطان”[14]. وتسارَعت وتيرة الأحداث ضاغِطة على الحاكمة، إلى أنْ كانَ “يوم 22 أكتوبر 1542م [حيثُ حَلَّ] بتطوان مولاي أحمد الحسن المنظري الشيخ (المنظري الرابع) واستَطاع في اليوم نفسه الإطاحة بالستّ الحرة، وإرغامها على مُغادرة المدينة”.[15]
انعزال السيّدة الحرة ووفاتها
بعد مُصادَرة أملاكها وإنهاء حُكمها؛ أُرْغِمت السيدة الحرة على الخروج من تطوان، فالْـتجأت إلى قِدّيسة الجَبل، مدينة شفشاون، فاعتَزَلت بها، إلى أنْ وافَـتْها المنية يوم 14 يوليوز 1562م، عن عُمر ناهز 67 سنة، ودُفِنت بالمكان المعروف بزاوية سيدي ابن الحَسن، جِوار القَصبة التاريخية للحاضرة الشاونية.
إلا أنّ هذه السيرة الـمُلْهِمة لم تُـدْفَن مع صاحبتها؛ بل استمَرّت مؤثّرة في الوعي التاريخي الـجَمْعي للمغاربة قَرْناً على صدْر قَرْن. تَسْتَحضرها الـكُتب والمقالات والدراسات والمؤتمرات والجرائد والـمجلّات. ويَتنافس في التعريف بها مُعِدّوا البرامج والوثائقيات. وتُتَداوَل أخبارها -على ما يعتريها من التضارب والمغالَطات- في الـمجامِع التي تتحدّث عن البُطولات الفّذة لتصدّي قبائل جبالة وموريسكيي الشّمال لهجمات الإيبيريين. وتَـحتَلّ في الذاكرة التاريخية والسياسية للمغرب الأقصى مكانةً هامة ضمن قوافل النبوغ المغربي بصيغة المؤنّث.
المراجع
[1] انظر: جبور، عبد الرحيم: "السيدة الحرة حاكمة تطوان وملكة فاس"، مجلة الأنوار، ص: 5.[2] حكيم، محمد بن عزوز: "الست الحرة حاكمة تطوان"، منشورات خزانة عبد الخالق الطريس، تطوان، مطبعة الساحل، رقم 2، زنقة إسطنبول، حي المحيط، شارع عبد الكريم الخطابي، الرباط، الطبعة الأولى 1983، ص: 10.
[3] Ricard, Robert. Etudes sur l’histoire portugais au Maroc, Coimbra 1955, P : 300.
[4] حكيم، محمد بن عزوز: "الست الحرة حاكمة تطوان"، مرجع سابق، ص: 13.
[5] حكيم، محمد بن عزوز: "الست الحرة حاكمة تطوان"، مرجع سابق ، ص: 14.
[6] حكيم، محمد بن عزوز: "الست الحرة حاكمة تطوان"، مرجع سابق، ص: 17.
[7] انظر: داود، محمد: "تاريخ تطوان"، الجزء 1، طبعة 1959، ص: 119.
[8] حكيم، محمد بن عزوز: "الست الحرة حاكمة تطوان"، مرجع سابق، ص: 26.
[9] حكيم، محمد بن عزوز: "الست الحرة حاكمة تطوان"، مرجع سابق، ص: 27.
[10] نقلا عن: Castries (Henry de) Les Sources inedites de l’Histoire du Maroc ,Espanat.l,paris 1921, P : 88-89.
[11] انظر: (الفاسي) محمد العربي: "مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن"، منشورات رابطة أبي المحاسن بن الجد، تحقيق ودراسة الدكتور محمد حمزة الكتاني.
[12] محمد داود، "تاريخ تطوان"، مرجع سابق، ص: 121.
[13] حكيم، محمد بن عزوز: "الست الحرة حاكمة تطوان"، مرجع سابق، ص: 41.
[14] حكيم، محمد بن عزوز: "الست الحرة حاكمة تطوان"، مرجع سابق، ص: 45، (بتصرُّف شديد).
[15] حكيم، محمد بن عزوز: "الست الحرة حاكمة تطوان"، مرجع سابق، ص: 46.