بين يدي التقديم

على مدى قرون ظل اسم ابن الخطيب ملهما لعدد من المؤرخين والباحثين والأدباء والفقهاء، وعنوانا لدراسات ومصنفات تناولت عبقرية هذا الرجل الفذ من زوايا مختلفة، فقد كانت قصة حياته كما قصة مماته، مصدرا ثرّا للكتابة والتأليف، وقداعتبره الأستاذ محمد عبد الله عنان: “أعظم شخصية ظهرت بالأندلس في القرن الثامن الهجري، سواء في ميدان التفكير أو السياسة أو الشعر أو الأدب”. ولأنه لا يعرف قدر الرجال إلا الرجال، ولا يُجِلّ العظماء إلا أمثالهم، فقد التفت الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله إلى تراث هذا العبقري، واختار الوقوف على جانب يؤكد سعة أفق تفكيره الواسع، ومعرفته العميقة، فتتبع باحترافية كبيرة جانبا يلامس الفلسفة والأخلاق عند ابن الخطيب، استلّ خيوطه من ركام معرفي هائل، فكان هذا السِّفر الماتع الذي نقدّمه في هذه الحلقة.

تقديم الكاتب

الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله (1923 – 2012). فقيه لغوي، مثقف موسوعي، كاتب أكاديمي، مفخرة المغرب في مجال التعريب وقضايا اللغة، تقلب في مناصب عدة أهمها: مدير مكتب تنسيق التعريب بالرباط، مدير المكتب الدائم للتعريب التابع لجامعة الدول العربية، عضو مجامع لغوية عربية وعالمية متعددة، عضو أكاديمية المملكية المغربية، أستاذ الحضارة والفن والفلسفة والعلوم الإسلامية بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس، وأستاذ بجامعة القرويين ودار الحديث الحسنية، تجاوزت مؤلفاته مائة عنوان باللغتين العربية والفرنسية، منها معاجم عدة في العلوم والثقافة والتقنيات بثلاث لغات. صدر له ضمن اهتماماته بالفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية كتاب “الفلسفة والأخلاق عند ابن الخطيب”. صرح في إحدى الندوات قبل وفاته رحمه الله أن تحت يديه حوالي مائة ألف جذاذة مشاريع لكتب ومصنفات. توفي رحمه الله يوم الأحد 12 ربيع الأول 1433 الموافق 5 فبراير 2012.

تقديم الكتاب

الكتاب في سفر واحد من 191صفحة من الحجم الكبير، صدر عن دار الغرب الإسلامي بلبنان في طبعته الثانية سنة 1983. وهو من واحد وعشرين فصلا، كل فصل عبارة عن بحث مستقل. وقد مهّد لهذه الفصول ببحث دقيق تعقب فيه العلاقة بين الفلسفة والأخلاق عند ابن الخطيب، متسائلا هل نظرية ابن الخطيب في الأخلاق تقوم على أساس أن الأخلاق “جزء من الفلسفة؟ أم أنها علم مستقل يستوثق رباطه بالشرع أكثر من العقل؟”.

ويسهل على القارئ أن يتعرف منهج المؤلف في توزيع مادة هذا الكتاب، فقد خص جزءا للحديث عن ابن الخطيب ومصادره وأسلوبه ومدى تأثر حياته بعصره، وخص الجزء الثاني من بحوث الكتاب للحديث عن الأخلاق أصولها ودرجاتها، مهّد لها بفصل يؤكد فيه منذ البداية على أن ابن الخطيب لا يفرق “بين ما هو خير أو سعادة وكذلك بين ما هو شر أو ضرر أو شقاء، فهو يستعمل هذا الألفاظ كالغزالي لمدلول واحد أو ضده، خلافا لعلماء الأخلاق الذين يفرقون بينهما”[1]. ثم يعرض آراء ابن الخطيب في الأخلاق على ما انتهت إليه عند بعض الفلاسفة المسلمين والغربيين ويقف عند نقط الالتقاء ونقط الاختلاف مثل: أبيقور وابن طفيل وأفلاطون وإبيكتيت وروسو وسميت وبركسن والغزالي، فيقرر مثلا أن كانط وابن الخطيب يتفقان في “اقتدار الإنسان على كسب الخير” ويقف عند التشابه الكبير بين ابن الخطيب وبركسن في نظرية الوجدان على غرار باقي علماء الأخلاق المتشبعين بالروح الإسلامية والمسيحية، ومدى الاختلاف بين ابن الخطيب وأبيقور حيث أورد كيف دحض ابن الخطيب في كتابه “الروضة” النظرية الطبيعية عند أبيقور، ونظرية ابن طفيل في “حي ابن يقظان” إلخ.

أمّا الجزء الثالث والأخير، فينتهي من خلاله الكاتب إلى تقديم دفوعات من أجل أن يثبت أن ابن الخطيب فيلسوف بلا منازع، وذلك من خلال فصل: ابن الخطيب الفيلسوف، وهو أطول بحوث الكتاب(37 صفحة). وهذه الإطالة اقتضتها وقفات متأنية الغرض من ورائها أن ابن الخطيب “ليس مطلق كاتب، ولا مجرد أديب”، بل هو صاحب “نفس دراكة نفحتها فلسفة طبيعية فطرية بروحها المنطقي السليقي الرصين”. وقد ساق الكاتب ما يكفي من الشواهد والأمثلة التي تكشف بعض جوانب أنظار ابن الخطيب في أدق المسائل العلمية والاجتماعية والميتافيزقية والنفسية في مقارنة مع الغزالي والفارابي وابن سينا وابن سيرين والشيرازي وغيرهم.

ولعل من فرط إعجاب المؤلف بابن الخطيب، أنه لا يفتأ يؤكد على عبقريته، ويصرح أن هذه البحوث التي ضمنها كتابه هذا،لا تفي بالغرض، ولا تنصف هذا الرجل المتعدد المواهب يقول: “بهذا نختتم بحثنا عن ابن الخطيب وهو بحث يقتضي استيفاء بعض مناحيه مجلدات لاستقراء مجموع ما انطوت عليه حياة هذا الرجل الفياضة بالنشاط والمثابرة وشواهد العبقرية والنبوغ. ولكن ضيق الوقت وشساعة الموضوع اضطرّانا إلى تشذيب كثير من الأطراف، وتركيز الفكرة وحصر الوجهة في ناحية واحدة من نواحي حياة هذا الرجل المخصابة، وتلك الناحية هي تحليل مؤلفات ابن الخطيب واستجلاء مراحل حياته وبعض أنظاره وآرائه في الفلسفة والأخلاق من خلال هذه المصنفات (…..) وهي باكورة نعتبرها إسهاما متواضعا في أداء بعض الواجب الذي يطوق الأمة جمعاء وبالأخص منها المغربية، لما لهذا الرجل على لغة الضاد من أياد وحقوق”[2].

على سبيل الختم

لقد شكلت أبحات ومصنفات الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله – كما هو متعارف عليه عند القاصي والداني -طفرة في الساحة المغربية، فقد صنف أزيد من مائة كتاب في عدد من المعارف، منها 14كتابا باللغة الفرنسية، وحوالي 37 معجما، وعددا مهما من المعلمات حول قبائل المدن ومدنه، وأكثر من 350 مقالا وبحثا باللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنجليزية.

ولعل من صور الوفاء لروح هذا العلَم، أن يُذكر ولا يُنسى، وأن تلتفت مؤسسات رسمية ومدنية إلى تراثه من أجل الاعتناء به تحقيقا وطبعا ونشْرا. فقد أجمع المتتبعون لعطاء الرجل أنه كان موسوعيا عابرا لعدد من التخصصات، واسع الاطلاع له إسهامات في التاريخ والحضارة والمعاجم والفلسفة والتصوف والأخلاق… ولعل المكتبة المغربية والعربية ما زالت في حاجة إلى ما أبدع هذا العقل المغربي الأصيل، وما سطر هذا اليراع الفذ.

رحم الله العلامة عبد العزيز بن عبد الله وأجزل له العطاء.

المراجع
[1] عبد العزيز بن عبد الله: الفلسفة والأخلاق عند ابن الخطيب، ص 37.
[2] عبد العزيز بن عبد الله: الفلسفة والأخلاق عند ابن الخطيب، مرجع سابق، ص 197.