توطئة

السّعديون (الزيدانيون) مِن فرع الشرفاء الـحسنيين الـحجازيين، قدِموا المغربَ في أوائل القرن الثامن الهجري، واستقرّوا في منطقة درعة، وبالضبط بمدينة زاكورة الحالية. بعد أن قضوا سنواتٍ بالمنطقة، يُعلّمون الناس أمور دينهم، ويَقضُون بينهم في بعض النوازل؛ واتَتْهم فرصة الظّهور بعد انهيار الـحكم الوطاسي وتَـشتّت كلمة القبائل وزوال العصبية؛ فبايع أهل تافيلالت والسوس محمد بن عبد الرحمن الزيداني، وتلقّب بــ”القائم بأمر الله” سنة 1510م، على أن يقوم بالتصدي للاحتلال البرتغالي للسواحل المغربية، وأن يجمع بين القبائل ويوحّد كلمتها.

مرحلة الانتشار والتوسّع والازدهار

إنّ الشّرفاء السعديين كانَ أوّلَ نهوضِهم بالجنوب الشرقي للمغرب الأقصى متحالِفين مع الجزولية بهَدَفِ “تحقيق أمنية وَطنية، هي تنظيم القوات الـجهادية وقيادَتُها لطَرْد الأجانب الـمحتَلّين لشواطئ البلاد”[1] المغربية، فَتَحَقّقَ لهم شَطْرٌ مِن ذلك على يد قائِدهم ومؤسّس دعوتهم محمد القائم بأمر الله الزيداني، بعد سلسلة انتصارات مُثيرة.

تَولّى عقِبَ وفاة المؤسس محمد الزيداني الحكمَ ابنه أحمد الأعرج، فَوَسّعَ مِن عملياته ضد البرتغاليين، ومَدّد رقعة الـحكم السعدي من آسفي إلى حاحا، ثم بويِعَ سلطانا في مراكش سنة 1523م، وقاد مَعية أجناد السعديين مواجهات ضارية ضد الوطاسيين، انتهت بتوقيع معاهدة سيدي رحال (أنماي بتعبير القرن الحديث) حواليْ العام 1528م، توصَّل فيها الطّرفان إلى الصلح، واقتَـسما المغرب إلى إمارتين: ما وراء تادْلا إلى الصحراء تحت حُكم السعديين، ومِن تادلا إلى سبتة تحت نفوذ الوطّاسيين.

ولكنّ الاتفاقية خُرِقَت بسبب اندلاع حرب ثالثة بين الطّرفين، كانت ساحتها وادي العبيد، تكبّد فيها الوطاسيون خسارة ماحقة سنة 1536م.

لم تستقِر الأحوال لأحمد الأعرج؛ فسُرعانَ ما نَشب نزاع على الـمُلك بين الأخوين أحمد ومحمد، ودرات بينهما معارك، تُوِّجَت بانتصار محمد الشيخ على أخيه وسَجنه إيّاه وتجريده من كل ما تحتَ يديه. وتمكّن بفضل بيعته سلطانا على المغرب مِن توسيع نفوذ الدولة، وذلكَ بضَمّ أكادير وأسفي سنة 1540م، ثم مراكش التي اتخذها عاصمة بدءاً من 1544م، ونَقَض صُلح أنماي، وسيطَر على شمال المغرب، ودخل فاس طارداً منها آخر وزراء بين وطّاس سنة 1553م.

توَسُّعات محمد الشيخ شَرْقاً، ومساعيه لضَمّ الجزائر العثمانية؛ أثار حَفيظةَ السلطان العثماني القوي سليمان القانوني، فكان أنْ دَبَّر لعملية اغتيال محمد الشيخ في جبل درن، وهو ما تَـمّ له بتسلّل فرقة من الجُند التُّرك إلى معسكَر وخيمة السلطان السعدي وقَتْلِه واحْـتِزاز رأسه، ونَقْلِه إلى القُسطنطينية سنة 1556م.

السلطان عبد الله بين مطامح التَّغلب ومطامِع التوريث

بعد وفاة محمد الشيخ، كانَ حريا بأنْ يُتّبَع نظام التوريث الأُفُقي كما أرساه وأوصَى به السلطان الراحل، وهو ما تَـمّ _ مبدئياً _ بانتقال العرش إلى عبد الله الغالب، الذي استَنّ سياسة جديدة في إدارة الدولة، فَصَالَح العثمانيين، وقَدّم ضريبة سنوية، وفي نفس الوقت واصَل التحضير العسكري لمواجهة أيّ تدخّل عثماني ضد المغرب. أيضا؛ اهتَمّ بالمنشآت الدينية والعمرانية في مراكش وفاس، وضَمّ إليه منطقة شفشاون وتطوان بعْدَ أن قضى على آخِر أمراء الإمارة الراشدية محمد بن أبي الحسن سنة 1561م، وشَرع في التواصل والانفتاح السياسي والدبلوماسي على القوى الدولية.

لكن سُرعان ما ألْقَت مُشكلة التّوريث بظلالها على الدولة، فحدثَت خصومات بين عبد الله وأخويه عبد الملك وأحمد، اللذان لم يُوافِقا على بيعة محمد الـمتوكّل، واعترضا على سياسته التي أدّت إلى التفريط في إرْث السلاطين السابقين، وتفويت بعض الموانئ للأعداء، والتحالف مع الإسبان، فضلاً عن ضعفه في تحقيق الاستقرار للبلاد، والتّعرّض لغضب العلماء، وتقديمه مدينة العرائش هدية للإسبانيين، وهي الاختلالات التي رأى عبد الملك ضرورة التصدي لها بالمطالَبة بعزْل ابن أخيه.

استَـثْمَر الأميرانِ عبد الملك وأحمد فيما تَعلّماه مِن فنون الحربية وحياة الجُندية بالإيالة العثمانية، واطّلاعهما على جديد التعبئة والتحشيد والعُدّة القتالية في ذلكم العصر، كما استَفاد أحمد من حملاته التّأديبية ضد الخَونة وأتباع المتوكّل في منطقة سوس. وخَدَمَتْهُمَا فِراسَتُهُما السياسية ومراقَبتُهما للأوضاع في المنطقة والبَحر الأبيض المتوسّط، دون أنْ يَتَمَكَّنَا مِنْ اسْتِكمال طموحات أبيهما (محمد الشيخ) في الجهة الشّرقية واستغلال “الفوضى السّائدة في المنطقة المغاربية التابعة للعثمانيين”[2] واستغلال النّصر الحاسم الذي سَبَق لأخيهما عبد الله الغالِب أنْ أحْرَزَه ضدّ القُوّات العُـثمانية حوالي العام 1558م؛ ولكنّهما نجحا إلى حَدٍّ بَعيد في وضْعِ ثِقْلِهِما السّياسي والعسكري في مواجَهة الإيبِيريين، وعَقْد معاهدات سِلم وصَداقة مع إنجلترا وفرنسا لتَحْيِيدهِما مِن النزاع، فَصَوّبَا جُهودَهما للنِّزال الكَبير ضد البرتغال في الواقعة الشهيرة بمعركة وادي الـمَخازن التي تحضّرا لها، حيثُ جَرَت يوم الإثنين 30 جمادى الأولى سنة 986 هجرية الـموافق لـ 4 غشت 1578م وقائع معركة وادي المخازن، التي تُوفيَ فيها السلطان “الخائن” محمد المتوكل، والملك البرتغالي دون سيبستيان والسلطان عبد الملك السعدي. وفي عَشية اليوم ذاتُه بُويِع أحمد بن محمد الشيخ خليفةً، وتَلَقّبَ بـ”المنصور” افتخاراً وتخليدا للنّصر التاريخي للقوات الشريفية السّعدية في وادي المخازن.

الفترة المنصورية؛ تجديد حُلم الخلافة الإسلامية

آلَ أمْرُ المغربِ والأشرافِ السّعديينَ إلى أحمد الـمنصور، فَصَارَ بالنّصر التاريخي والإنجاز العسكري إلى حيث يَنبغي أنْ تَكون نتائجه؛ سُلطانٌ قَوي وذكي وحازم، وسلطة مُستقِرّة، ونُظُم جديدة، وتطوير كبير للعاصمة مراكش، وشُرُوعٌ في بناء القُصور وتشييد الحصونِ والجسُور، ودِبلوماسية دولية مقرونة بهيْبَة الانتصار في وادي المخازن على القوتين الصَّلِيبِيَتَين في البحر المتوسّط، وجَلْب الاستثمارات الاقتصادية للمغرب، ورَفْع كِفاية الخدمات الاجتماعية للدّولة، وتَنشيط الحركة العلمية والفكرية والأدبية، وإعادة تنظيم المخزن، وترتيب الجيش الشريفي الجديد؛ إلى غيرها مِن النتائج التي يَعرفها القَاصي والدّاني مِن مصادر المرحلة ووثائق وكُتب المؤرّخين والإخباريين عن فترة حُـكم أحمد المنصور الذَّهَـبِي الذي “ذَهَب وحْدَه بـفَخْر اليومِ جَلاداً وصبْراً وثباتا وإقْـداما” حَسَب عبارة الفشتالي في “مناهِل الصّفا”.

وتجاوُزاً منه للكُمّاشة التي وجَدَ المغرب نفسه مُحاطا بها شمالاً وشَرقا؛ اتَّـجَهَت أنظار المنصور إلى إفريقيا؛ فَجَرّد حملة ضخمة صوب السودان بقيادة جَودر، الأندلسي المسلم، وذلك سنة 1589م، لتقوية موارد الدولة وتَعزيز الهيبة. ثُم ولّى المنصور لاحِقاً محمد باشا بن زرقون على رأس الجيش السعدي في الحملة، فاسْتَأصَل آل سَكِية عام 1591م، وأضحت الدولة السعدية تحكُم نيجريا والتشاد الحاليتين، ضِمن ما كان يُعرَف حينَها بـمملكة بُورْنُو.

أعطى المنصور ولاية العهد لابنة المأمون، أمَلاً في أنْ يَستأنف العرش السعدي استقراره وقوّته وتماسك وحدة البيت، غَيرَ أنّ وفاة أحمد المنصور سنة 1603م ستكون لحظة فاصلة في تاريخ الدولة، حيث دَبّ الخلاف بين الإخوة، وتنازَعوا وراثة العرش، وبايع أهل فاس زيدان سلطانا، بينما بايع أهل مراكش أبا فارس سلطانا، وقُتِلَ المامون لاحقا، ليستمِرّ الصراع بين الإخوة/الأعداء خمساً وعشرين سنة.

سَبَّبَت هذه العَداوات والنزاعات في فتْح شهية الغُزاة الإيبيريين لاحتلال الشواطئ المغربية من جديد، فاستَوْلَوا على المعمورة سنة 1613م، إضافة إلى العرائش منذ 1609م، وانتشرت السّيبة، واختَلّت نُظم الدولة، واستَمَر الصراع حتى في فترة الأحفاد، فأدّى ذلك إلى ظهور حركات محلية مَلَأَت فراغ السّلطة الهشّة المتصارِعة، نذكر مِن بينها:

حركة ابن أبي مَـحِلّي فيما بين 1611م – 1613م، الصوفي الذي ثارَ على زيدان ودخَل مراكش، وانتشر أتباعه وكثُرُوا، إلا أنه سرعان ما سيكون ضحية هذا الصعود السريع، بأن قُتِلَ على يد السلطان زيدان ومُعاونيه.

حركة المجاهد محمد العيّاشي (1614م-1641م) الذي كان والِيا في منطقة أزمور، فَقَاد إبّان الفتنة حركة الجهاد وتغيير المنكر بالبلاد، ففوّض إليه الناس حُكْم سَلا وتامسنا وتازة وسائر أقاليم الشمال، غير أنّ أندلُسِيّي سَلا غَدَروا به، وأشعلوا نار الفتنة بينه والدِّلائيين، فكانت نهايته بأنْ قَتَلَه عَرب الـخُلْط سنة 1641م.

حركة أبي زكريا الحاحي الذي هيمَن على القُطر السوسي إلى أن اغتيلَ سنة 1625م.

الزاوية الدّلائية فيما بين 1636م – 1668م، وهي الزاوية التربوية والروحية والمدرسة العلمية الأكثَر ذيوعا وشيوعاً في مغرب القرن السابع عشر، تأسّست حوالي العام 1566م، جابَهت السعديين في طور الفتنة، واستَوْلَت على زاوية الشيخ وفاس ومكناس وتادلة وملوية وشمال المغرب، ودخلَ قادَتُها سلجماسة بعد أنْ انتصَروا على الأمراء الأوائل للدولة العلوية، ثم صالَـحوهم واقتَسَموا النفوذ معهم. وظلّت الزاوية حركة نشيطة حابلة بالعلماء، إلى أن كانت نهايتهم الأليمة على يد المولى الرشيد بن الشريف العلوي سنة 1668م.

السّملاليون الذين ظهروا في سوس فيما بين 1613م – 1670م، وامتَدّ حُكمُهم إلى تارودانت ودرعة وسجلماسة، وبرزَ منهم قادة كبار، أمثال الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السّملالي (تــ 1659م)، ومحمد أبو عبد الله الذي كان مَصْرَعه على يد المولى الرشيد العلوي ونهاية أتباعه سنة 1670م في منطقة إيليغ.

الشّبانات في عُشرية 1658م – 1668م، وهي القبيلة العربية التي تَحَكّمت في مراكش عقِبَ وفاة أحمد بن محمد الشيخ، وظَلّت مُسيْطِرَة هناكَ تحت قيادة عبد الكريم الشّباني وولده من بَعْدِه أبو بكر الشّباني، إلى أن استسْلَمت وانهارت تحت ضربات جيش المولى الرّشيد العلوي سنة 1668م.

خاتمة

نتيجةً للصراعات التي عصفت بالبيت السعدي طيلة 57 سنة من الطّور الثالث من عُمْر الدولة؛ تفاقمت الأزمات، وكثُرت التّمردات، ودالَت كثير مِن المناطق والقبائل لـحُكْم بعض الإمارات المحلية، وطمع الأجانب في الشواطئ المغربية، وواجَه الخلفاء السعديون الضّعافَ زَحْف الشرفاء العَـلويين دونَ أن يتمكّنوا مِن صَدّهم ورَدّهم عن أهدافهم؛ فما إنْ هَلَّ الثلث الأول من القرن السابع عشر حتى آلَ أمر المغرب إلى الدّولة العلوية الشّريفة.

المراجع
[1] كنّون عبد الله: "النبوغ المغربي في الأدب العربي"، الجزء 1، الطبعة الثانية، 1960، ص: 233.
[2]  (ملين) نبيل: "السلطان الشّريف؛ الجذور الدينية والسياسية للدّولة المخزنية بالمغرب"، جامعة محمد الخامس، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، ترجمة عبد الحق الزموري وعادل بن عبد الله، الطبعة الأولى 2013، ص: 42.