مقدمة

سطع نجم الفقيه أحمد الرهوني في سماء الحاضرة الشمالية تطوان خلال النصف الأول من القرن الماضي، كعالم متمكّن وقاضي ذو سُمعة وهيبة، ثم ما لبث اسمه أن ازداد شيوعا مخترقا آفاق المغرب بعد وفاته، حينما طُبع كتابه الموسوعي “عُمدة الراوين في تاريخ تطاوين”.

موطن النشأة ومحطات طلب العلم

ولد أحمد الرهوني يوم الأربعاء 2 جمادى الثانية 1288ه/ غشت 1871م، بحي العيون في قلب المدينة العتيقة تطوان[1]، حيث كانت تعيش أسرته التي تنحدر من قبيلة الأخماس الجبلية الهبطيّة، وهي أسرة متوسطة الغنى، قدمت إلى تطوان بعدما استقرّ والد أحمد بها حيث اختص في تجارة الصوف المغزول[2]، أما نسبته الرهونية، فترجعها المصادر إلى إقامة أجداده زمنا في قبيلة رهونة الجبلية، القريبة من مدينة وزان[3].

نشأ الرهوني في بيئة يسودها التهديد الإسباني الآتي من سبتة، خصوصا بعد أن كانت مدينته تطوان قدّ مرّت قُبيل ازدياده باستعمار غاشم وإن كان قصيرا في مدّته، لكن هذا التخوّف من التهديد إضافة إلى محاولات الإصلاح التي قادها السلطانين الحسن الأول وابنه عبد العزيز لم يكنا كافيين وقادرين على جبر الكسور التي أصابت البنى الثقافية والاقتصادية والعسكرية في المغرب.

انعكس هذا الواقع على مسار نشأة أحمد الرهوني الذي تلقّى تكوينا علميا بمنهج متوارث منذ قرون، حيث أتمّ في طفولته حفظ القرآن برواية ورش و16 حزبا برواية قالون، كما حفظ مقدمة ابن آجرّوم وألفية ابن مالك ولامية الأفعال ولامية الجمل لابن المِجراد والمرشد المعين لابن عاشر[4].

ولمّا كان التدريس يرتكز في عصره على الدراسة عند الشيوخ، فقد ذكر في ثنايا ترجمته لنفسه عددا من شيوخه الذين أخذ عنهم مبادئ العلم في مدينة تطوان على رأسهم: أحمد شابّو، والمامون ابن عبود العمراني، عبد الله لوقش، ومحمد بن علي عزيمان..، وبعد انتقاله إلى فاس وتحديدا إلى المنارة العلمية القرويين ليزداد تعمّقا في العلوم الدينية أخذ عن أحمد بن محمد ابن الخيّاط الزكاري (ت 1343ه)، والتهامي أفيلال (ت 1339ه)، ومحمد ابن جعفر الكتاني..[5].

عاد إلى مدينته تطوان سنة 1315ه/1897م، “عامر الوفاض، ريان من العلوم المتداولة والآداب”[6]، بعد ست سنوات من المكابدة والاجتهاد في طلب العلم بفاس، فكانت هذه المسيرة كفيلة بأن تجعل من أحمد الرهوني الشاب شخصا مؤهلا لمزاولة وظيفة داخل الهيكلة الإدارية المخزنية، فضلا عن استكماله لشروط التدريس.

كان هذا التكوين حريا بإبعاد الرهوني عن طريق التجارة أو ممارسة حرفة من حرف الصناعة، لكن تكوينه الفقهي لم يكن مانعا للانتماء إلى طائفة من طوائف التصوف، وهو في ذلك على نهج أبيه الذي جمع بين التدين والانتساب إلى التصوّف[7]، وكذلك الابن مال إلى التصوف في شبابه، واختار الطريقة التجانية التي أخذها عن شيخه محمد بن جعفر الكتاني بطنجة، وشيوخ آخرين، بعد تخلّيه عن الطريقة الدرقاوية[8].

أما من ناحية الفكر فقد انصبت مساعي مترجمنا في مرحلة الطلب على العلوم الشرعية واللغوية التقليدية، ولم يكن له ميل إلى الفكر الإسلامي الذي شهد بروز مفكرين كبار في عصره كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو ورشيد رضا هؤلاء الذين حاولوا تجديد المناهج وتقديم قراءات اجتهادية تأخذ بعين الاعتبار متغيرات الزمن.

المهام والمناصب الرسميّة

تقلّد أحمد الرهوني مناصب متعددة داخل الهيكلة الإدارية المخزنية قبل فرض الحماية على المغرب وبعد فرضها، كان من أوائلها الاشتغال بالتدريس والعدالة في تطوان، ثم تقلّد وظيفة عدل في مرسى الجديدة، كما عمل في الكتابة بدار النيابة بطنجة، ثم مدرّسا بعدد من المساجد والزوايا في نفس المدينة[9]. وبعد السيطرة الاستعمارية الإسبانية على شمال المغرب عيّن وزيرا للعدلية في أوّل حكومة ألّفها الخليفة مولاي المهدي بن إسماعيل 1923-1913، ثم عُزل سنة 1923، من منصبه لمدة 10 أشهر، مع الإحالة على المحكمة العسكرية، بسبب خطبة ألقاها عن الجهاد في جامع الباشا، وذلك في سياق محاصرة المجاهدين الريفيين والجبليين لمدينة تطوان[10].

سيعود الرهوني في صيف 1924 إلى كنف الحكومة الخليفية -التي كانت تعمل تحت رقابة السلطة الاستعمارية- ولكن هذه المرّة تحت مسمّى قاضي قضاة المنطقة[11]، وبعد سنوات من العمل في ميدان القضاء أنهى مسيرته المهنية في مناصب لها علاقة بالتعليم الإسلامي حيث شغل منصب مفتش للتعليم الإسلامي ورئيس للمجلس الأعلى للتعليم الإسلامي.

لا شك أن مواقف الرهوني المهادنة للاستعمار الإسباني بل والمجاملة له أحيانا والمتحاشية لأنشطة الحركة الوطنية سواء السياسية أو الثقافية[12]؛ قد ساهمت في تمهيد الطريق نحو هذه المناصب والتكاليف الرسمية؛ فقد حج على سبيل المثال مرتيّن رئيسا لوفد الحجاج من المنطقة الخليفية.

الإسهام الفكري والثقافي

تواترت شهادات معاصري أحمد الرهوني واتفقت على أنه كان أكثر مجايليه من علماء تطوان تمكنا وضبطا للعلوم الفقهية، فقد عدّه العلامة علي بن عبد السلام التسولي من “الطبقة الأولى من بين علماء العصر بالمغرب”[13]، وكذلك شهد تلميذه ورفيقه محمد داود بأنه “الرجل العالم المشارك الذي هو أستاذي الأول في مختلف العلوم، خصوصا في هذا التاريخ الذي أعد الفضل الأول فيه راجعا إليه وإلى إرشاداته وتوجيهاته وإفاداته”[14].

ووصفه عبد القادر بن سودة الفاسي ب”الواعية، البارع المطّلع، الوزير الشهير، الدرّاكة النحرير، أعجوبة الدهر في التحرير والإتقان علامة تطوان”[15].

أما الفقيه ابن هشام الطنجي فقد شبّه علم الرهوني بالبحر المحيط لسعة اطلاعه:

“هو المولى الرهوني ذو المزايا***  سليل المجد، محمود الفِعال

هو البحر المحيط بكلّ علم***  ومخرج الجواهر واللآلي

فريد العصر، من ساس البرايا***  بلين وانتظام واعتدال”[16].

أما الأديب محمد الشنقيطي الذي مدحه في قصيدة همزية كان من بين ما جاء فيها:

“له الطلاب تأتي في اختلاف *** فيمنحهم، ويعلم ما أساءوا

فتيهوا، يا أهل تطوان، سكرا *** لمرءاه، فقد حمل الضّياء”[17].

إن ترجمة السيد أحمد الرهوني تزدحم بكثرة من أثنوا على مكانته العلمية المرموقة، وهذا إنما يرجع إلى إسهاماته الوفيرة تدريسا وتأليفا خصوصا في حقل العلوم الشرعية واللغوية والكتابة التاريخية.

وتتجلى في سيرة الرهوني تلك العلاقة الوثيقة بين التدريس والتأليف، إذ لا يمكن فصل ما درّسه عما ألفّه، وما ألّفه عما درّسه، فقد كان حريصا على “كتابة دروسه فإذا أتم متنا تدريسا يكون أنهاه تأليفا”[18]، وهو الأمر الذي يفسر كثرة الشروحات التي ألّفها في حياته، كما انعكست موسوعيته العلمية في القدرة على التأليف في علوم مختلفة.

لكن رغم غزارة المؤلفات الرهونية التي قارب عددها ستين مؤلفا بين مطبوع ومخطوط، إلا أن العمل الذي شكّل إسهاما معرفيا نوعيا في مجمل إرثه المعرفي هو كتابه “عمدة الراوين في تاريخ تطاوين الذي ألّفه بين سنتي 1340ه/1921م و1350ه/1931م. وهو يعد ثاني مؤلّف أرّخ لماضي تطوان بعد كتاب:”نزهة الإخوان وسلوة الأحزان في الأخبار الواردة في بناء تطوان ومن حكم فيها من الأعيان” لصاحبه عبد السلام بن أحمد السكيرج (ت 1250ه).

ويختلف كتاب الرهوني عن كتاب السكيرج في عدة جوانب، سواء في حجمه أو فصوله أو أسلوبه، وقد وصفه محمد داود الذي سار على نهج المؤرخين المذكورين في الـتأريخ لتطوان قائلا: “موسوعة جمع فيها المؤلف ما وقف عليه من تاريخ تطوان وسكانها وكل ما له علاقة بذلك وحياته العلمية، ومعلوماته التاريخية (…) ولا أعرف أحدا تكلّم بتوسّع على مدينة من مدن المغرب كما تكلّم شيخنا الرهوني رحمه الله على مدينة تطوان وسكانها”[19].

ورغم أن الطريقة التقليدية التي اعتمدها الرهوني في كتابة “عمدة الراوين…” أهملت التوثيق ومالت إلى التوسع في الأخبار دون تدقيق، وتحاشى المؤلّف أن يدلو بدلوه في تحليل الأخبار، إلا أن هذا العمل الموسوعي كان درجة جديدة في سلم ارتقاء الكتابة التاريخية في المغرب، وذلك لما اشتمل عليه من معطيات حول التاريخ المعماري والاجتماعي والسياسي لتطوان خاصة ولشمال المغرب بشكل عام، إضافة إلى تراجم شخصيات علمية ودينية مغربية، ونتف أدبية فريدة.

إلى جانب التأليف وإلقاء الدروس خاض القاضي والفقيه المتصوف أحمد الرهوني سجالات فكرية وفقهية دفاعا عن الطرق المتصوفة خصوصا التجانية التي كان يعد شيخها الأكبر في تطوان، كما جادل في إثبات بعض الاجتهادات الفقهية المنسوبة إلى المذهب المالكي. وكانت هذه السجالات تروم الردّ على رموز السلفية الوهابية خصوصا د. تقي الدين الهلالي، الذي استقرّ بتطوان عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحاول في دروسه أن يهاجم الطرقيين ويعارض بعض الأحكام الفقهية المعمول بها آنذاك[20].

الإرث المعرفي للرهوني

بلغ عدد الكتب المطبوعة التي ألّفها أحمد الرهوني 21 كتابا، أما المخطوطات التي خلّفها فيبلغ عددها 38 مخطوطا، وتندرج معظم مؤلفاته ضمن صنف شروحات لمتون فقهية أو لغوية، إضافة إلى أعمال تتعلّق بالتاريخ وأدب الرحلة.

  • عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، 11 جزءا (تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية -تطوان/ جمعية تطوان أسمير).
  • تقريب الأقصا من كتاب الاستقصا (مطبعة إديطوريال إسبانو أفريكانا، تطوان، 1346ه).
  • تسهيل الفهوم لمقدمة ابن أجروم (مطبعة المهدية، تطوان، 1350ه).
  • حادي الرفاق، إلى شرح لامية الزقّاق، ستة أجزاء (مطبعة إديطوريال إسبانو أفريكانا 1346-1347ه / مطبعة المهدية 1348-1349ه).
  • منهل الورّاد في شرح لامية المِجراد (مطبعة المهدية، تطوان، 1350ه).
  • فضل الكريم المنان على قارئ القرآن (تطوان، 1933م).
  • نتائج الأحكام في النوازل والأحكام،3 أجزاء، (مطبعة الأحرار، تطوان، 1942م).
  • تحفة الإخوان بسيرة سيد الأكوان (مطبعة المهدية، تطوان، د.ت).
  • الراحة الإنسانية في الرحلة الإسبانية، أو الحلّة السندسية في الرحلة الإسبانية (جريدة الإصلاح، ابتداء من ع 364، 1348ه).
  • الرحلة المكيّة (منشورا معهد الجنرال فرنكو للأبحاث العربية الإسبانية، مطبعة الأحرار، تطوان، 1941م)[21].

الوفاة

في ختام حياة حافلة بالعطاء العلمي الزاخر وتقلّد مناصب مرموقة لقي المؤرّخ والعلامة أحمد الرهوني إدبارا من ذوي الشأن والوجاهة، وقضى آخر أيامه مدينا وقد فقد ثروته، وبلغت به الحاجة إلى أن اضطر إلى بيع نسخته الوحيدة من كتاب عمدة الراوين[22]، وظلّ على هذا الوضع منزويا في بستان له قريب من مدينة تطوان إلى أن توفاه المولى يوم 14 ربيع الثاني 1373ه/ 21 دجنبر 1953م، ودفن بحي العيون الذي ولد به داخل الزاوية العيساوية.

المراجع
[1] محمد داود، تاريخ تطوان، المجلد الأول، معهد مولاي الحسن، 1379-1959، تطوان، ص 50.
[2] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج8، كلية الآداب والعلوم الإنسانية -تطوان/ جمعية تطوان أسمير، الطبعة الأولى، 2011، ص 131.
[3] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج1، كلية الآداب والعلوم الإنسانية -تطوان/ جمعية تطوان أسمير، الطبعة الأولى، 1998، ص 21.
[4] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج8، مرجع سابق، ص 135.
[5] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج1، مرجع سابق، ص 22.
[6] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج1، مرجع سابق، ص 22-23.
[7] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج1، مرجع سابق، ص 21.
[8] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج1، مرجع سابق، ص 26.
[9] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج1، مرجع سابق، ص 17.
[10] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج1، كلية مرجع سابق، ص 23.
[11] مادة: الرهوني، أحمد، معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، 1422/ 2001، ص 4455.
[12] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج1، مرجع سابق، ص 25.
[13] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج1، مرجع سابق، ص 17.
[14] محمد داود، تاريخ تطوان، المجلد الأول، مرجع سابق، ص 57.
[15] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج8، مرجع سابق، ص 220.
[16]- أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج8، مرجع سابق، ص 207.
[17] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج8، مرجع سابق، ص 210.
[18] مادة: أحمد الرهوني، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4454.
[19] محمد داود، تاريخ تطوان، المجلد الأول، مرجع سابق، ص 50 و55.
[20] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج1، مرجع سابق، ص 24.
[21] أبو العباس أحمد الرهوني، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج1، مرجع سابق ص 27-29.
[22] محمد داود، تاريخ تطوان، المجلد الأول، مرجع سابق، ص 58.