
المحتويات
تمهيد
يشمخ مسجد الحسن الثاني على الساحل الأطلسي كعنوان بارز للهوية المغربية، بهيكله الضخم، وهندسته الفريدة، ورمزيته كمعلمة إسلامية في قلب العاصمة الاقتصادية للمملكة، حيث يبثّ هذا المسجد الروح في منطقة صناعية، مكسّرا رتابة المادة، ويعرج بالأرواح إلى مقامات الطمأنينة والسكينة المستمدة من قيم الإسلام السمحة.
السياق التاريخي لتشييد مسجد الحسن الثاني
ترجع فكرة تشييد هذا المسجد إلى حدث زيارة الملك الحسن الثاني (1961-1999م)، لمدينة الدار البيضاء بعد وفاة والده الملك محمد الخامس (1927-1961م)، فتعهّد بإقامة مسجد على ساحل المدينة في إشارة إلى الآية القرآنية {وكان عرشه على الماء}[1]، لكن يبدو أن الأحداث السياسية والاقتصادية أجّلت هذا الإنجاز إلى يوم 5 ذو القعدة 1406ه، الموافق 11 يوليوز 1986م[2].
بيّن الحسن الثاني في خطاب متلفز سنة 1986م، تصوّره للشكل العام الذي ستأخذه هذه المعلمة الإسلامية بعد بنائها قائلا: “أردت أن يكون المصلي فيه والداعي والذاكر والشاكر والراكع والساجد محمولا على الأرض ولكن أينما وضع عيناه يجد سماء ربّه وبحر ربّه”[3]، لذلك حرص على أن يتتبع الأشغال من رفع الأساسات إلى اختيار أنواع الزخارف كما يظهر من شهادات الحرفيين الذين عملوا في المسجد[4].
وحينما اختمرت فكرة تشييد المسجد واكتملت أركانها، وقع الاختيار على المهندس المعماري الفرنسي ميشيل بانسو (Michel Pinceau) (1924-1999) خريج المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة بباريس، إلا أن التوجه كان واضحا بإبراز الهوية المعمارية المغربية، وتلخيص عبقرية الحرف الأصيلة المتوارثة منذ عهد الموحدين في هذه المعلمة.
بعد انطلاق عملية البناء بسنتين تبيّن أن الأوراش الكُبرى تحتاج دائما إلى دعم كبير وإرادة جماعية؛ ما تطلّب من الملك الحسن الثاني تحويل هذا المشروع إلى ورش وطني، فأشرك عموم الشعب فيه عبر ربوع المملكة، مُطلقا عملية اكتتاب وطني لبناء المسجد الأكبر في المغرب وفي إفريقيا -آنذاك- يوم الأربعاء 5 ذي الحجة عام 1405 الموافق 21 يوليوز 1988، تطوع الملك الراحل ليكون أوّل المساهمين في هذا الاستكتاب بمبلغ 4 ملايين درهم، وكذلك عدة أفراد من الأسرة الملكية[5]، كما استجاب المغاربة بكل فئاتهم وأطيافهم إلى نداء المساهمة في بناء هذا الصرّح، فبلغ مجموع التبرعات العامة للمغاربة نحو 30 مليون درهم (3 ملايين دولار)، وصدر لكل متبرع إيصال بمبلغ اكتتابه، وشهادة تذكارية عليها صورة المسجد يكاد لا يخلو بيت مغربي منها.
أسرار مسجد الحسن الثاني
استغرقت عملية بناء مسجد الحسن الثاني 7 سنوات (بين 1986 و 1993)، وشارك فيها أكثر من 15 ألف عامل وصانع تقليدي من مدن مختلفة حتى يعكس معمار المسجد تنوع الحرف المغربية، من بينهم كمال بلامين (المعلم المسؤول عن نقش الخشب)، ومولاي حفيظ العلوي (المعلم المسؤول عن الزليج)، وحس لامان (المعلم المسؤول عن الزخرفة بالجبس) حرص هؤلاء جميعا على إتقان أدائهم تشييدا وهندسة وزخرفة، خلال مدة قدّرت ب 50 مليون ساعة من العمل. واُستعملت في عملية تشييد أساسات المسجد مواد بناء متنوعّة من حديد وإسمنت وصخور، وزيّنت واجهته بقطع زليج دقيقة الصنعة متناسقة الزخارف، فضلا عن الحجر الجيري والرخام و”الجرانيت” الذي اُستخرج من جنوب المغرب، فبلغت الكلفة المسجد الإجمالية لهذا المشروع الضخم 5 مليار درهم(500 مليون دولار أمريكي).
وتتسع المساحة التي شيّد عليها المسجد إلى 9 هكتارات، بطاقة استيعابية تبلغ 105000 مصل مقسّمة بين: 25 ألف مصل داخل قاعة الصلاة، و80 ألف في ساحة المسجد، كما تدخل ضمن هذه المساحة مرافق أخرى كالمكان الخاص بالوضوء، ومرائب، وحمامات، ثم أضيف إلى هذا الفضاء المكتبة الوسائطية وأكاديمية الفنون التقليدية ومتحف.
-
قاعة الصلاة:
تمتد على 20 ألف متر، ولها قدرة استيعاب 25 ألف مصل، حيث تضم إضافة إلى المحراب والطابق الأرضي المخصص للرجال؛ طابقين أوسطين معلقين على جانبي صحن المسجد المركزي بمساحة إجمالية تبلغ 3550 متر مربع مخصصين للنساء، كما تحتوي قاعة الصلاة على سقف متحرك يمكن فتحه في غضون دقائق لتحويل مركز هذه القاعة إلى فناء مشمس على غرار البنايات القديمة التي تميز الهندسة العربية الأندلسية، فضلا عن ذلك زوّدت هذه القاعة بنظام تدفئة متطور، يعتمد على كابل كهربائي مدفون تحت الأرض المغطاة بالرخام والجرانيت والحجر الجيري الذي يحاكي ديكور سجاد مغربي[6].
ومن الناحية الجمالية فإن هاذ الجزء الهام من المسجد قد تزين بأفاريز مزخرفة بآيات قرآنية منقوشة بالخط العربي، كما تغطي الأجزاء الثابتة من السقف قباب خشبية (القباب الستينية والقبة الحسنية الفريدة من نوعها) ذات ألوان متناسقة ومزخرفة بتقنيات مغربية أصيلة ك”التسطير والتوريق والمقربص”، أما الأقواس فزخرفت بالجص المنقوش، وجرى تبليط الجدران بألواح مصنوعة من الزليج ذات أشكال هندسية رائعة، ولهذه القاعة عدة أبواب يلج منها المصلون، وقد صُنعت من التيتانيوم والنحاس، مقابل أبواب أخرى زجاجية تطلّ على المحيط الأطلسي.
-
السقف أو باب السماء:
ينقسم السقف إلى قطع ثابتة مزخرفة بالخشب الملوّن، تتوسطها ثريات زجاجية، وقطعة كبيرة في وسط القاعة تمثل السقف المتحرّك، الذي صنع من إطار معدني خفيف ثلاثي الأبعاد، فيما يتكون جزءه السفلي من غلاف خشبي مقاوم للحريق، وله سطح مغطى بألواح عازلة ونحاس، ويتشكل من 300.000 وحدة من بلاط الألمنيوم، أما مساحته فتبلغ 4200 متر مربع، بوزن يبلغ 1100 طن، ويتم تحريكه في الظروف الملائمة عن طريق نظام دحرجة متسلسل، ويتم فتحه في غضون 5 دقائق.
الخصائص المعمارية لصومعة مسجد الحسن الثاني
ترتقي صومعة المسجد الحسن الثاني في سماء الدار البيضاء مشرفة على الأطلسي لتكون أطول صومعة بالمغرب، ومن أكثر منارات الإسلام ارتفاعا، حيث يبلغ ارتفاعها 210 مترا[7]، فيما يتسع عرضها إلى 25 متر، ويعلوها جامور ارتفاعه 15.5 متراً يتكون من ثلاث كرات ذهبية يشع منها شعاع ليزر يبلغ مداه 30 كيلومتراً باتجاه مكة المكرمة (القبلة). كما تبلغ مساحة قاعدة الصومعة 625 مترا مربعا، وهي بمثابة قاعة تؤدي إلى غرفة الوضوء.
وبالنسبة لواجهات الصومعة فقد زُيّنت بأشكال زخرفية من الحجر الجيري الروداني، وبعجينة زجاجية خضراء فسيفسائية الشكل[8]، ما جعل شكلها الخارجي يكون نظيرا لتصميم التوأم الثلاثي الموحدي: صومعة حسّان، صومعة الكتبيين، صومعة المسجد الكبير بإشبيلية “الخيرالدا”.
أما داخل المئذنة وبسبب علو الصومعة؛ صنع مصعد خاص يصل أسفلها بأعلاها يتّسع إلى 12 شخصا، ويشتغل هذا المصعد عن طريق أسلاك كهربائية بسرعة 2.5 متر في الثانية مما يسمح برحلة تستغرق حوالي دقيقة.
قيمة مسجد الحسن الثاني التراثية
عشّية ذكرى المولد النبوي وتحديدا يوم 11 ربيع الأول 1414 هجرية، الموافق 30 غشت 1993، جرى تدشين مسجد الحسن الثاني، أكبر مسجد في المغرب، وأحد عناوين الهوية المعمارية المغربية، هذه المعلمة التي تعبّر عن اتصال المغرب المعاصر بماضيه، وتستحضر مبدأ الموازنة بين الأصالة والمعاصرة في هندسة المبنى، كما تتمثّل مبدأ الانفتاح على الآخر مع الحفاظ على الخصوصية في التئام الحرف المغربية الأصيلة بحداثة الصناعة التكنولوجية.
لقد تحوّل هذا المسجد بعد افتتاحه إلى أهم معلمة بالعاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية، وإحدى أهم معالم المغرب المعاصر؛ الفاعلة بأداء أدوارها المتعددة، وأهمها استقبال المصلين في الصلوات الخمس، وفتح أبواب المسجد وساحته أمام مئات الآلاف من المغاربة في شهر رمضان الكريم وفي العيدين، كما يحظى المسجد بزيارات متواصلة من قِبل السيّاح المغاربة والأجانب الذين يقفون عن قرب على مكنونات العبقرية المعمارية المغربية. ويسهر-منذ سنة 2009- على تحقيق إشعاع هذه المعلمة مؤسسة فاعلة هي: مؤسّسة مسجد الحسن الثاني، وذلك عن طريق إدارتها للخدمات التي تقدمها مختلف المرافق التابعة للمسجد.
المراجع
[1] قرآن كريم، الآية 7، سورة هود.[2] موقع مؤسسة مسجد الحسن الثاني: https://www.fmh2.ma/ar.
[3] مقتطف من خطاب الملك الحسن الثاني سنة 1986.
[4] أنظر وثائقي قناة الأولى المغربية: مسجد الحسن الثاني.
[5] مجلة دعوة الحق، ع 271.
[6] موقع مؤسسة مسجد الحسن الثاني: https://www.fmh2.ma/ar.
[7] أشرف الحساني، مسجد الحسن الثاني: هندسة معمارية أندلسية تلامس السماء، مجلة العربي الجديد، ع 2702، يناير 2022، ص، 32.
[8] موقع مؤسسة مسجد الحسن الثاني: https://www.fmh2.ma/ar.