المحتويات
مقدمة
كانت مدينة “الغربية” من أهم العواصم القديمة لدكالة، وقد شبهها أحد المؤرخين بمدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم[i]، وقيل أنها كانت من أكبر القبائل “البربرية” الدكالية في القرن السادس عشر[ii]، إلا أنها انقرضت واندرست، بعد تعرضها للتدمير مرات عديدة. ولعل سبب دمارها يرجع إلى الحروب والمعارك التي توالت عليها، بسبب طمع الغزاة في خيراتها، لذلك لم يعد لها أثر سوى بقايا أسوار وحجارة بناء مبعثرة هنا وهناك، وقلب هذه المدينة حاليا هو مركز جماعة الغربية التابع لإقليم سيدي بنور بالمغرب.
مدينة الغربية.. الأسماء والموقع
سميت مدينة الغربية قديما بأسماء مختلفة، منها : “مشتراءة” و “مشنزاءة” و”مشتراية”، وقد كان كثير العلماء الذين لهم أصول من هذه المدينة تنتهي أسماؤهم بـ “المشترائي” و”المشنزائي” (كما سنأتي على ذكر بعضهم)، بل مازال بعض سكان الغربية حاليا يحملون كنية “المشتراي”.
وتقع مدينة الغربية في قلب منطقة دكالة، على نحو 20 كيلومترا من مدينة الوليدية قبلة منها في بسيط من الأرض مربعة الشكل متسعة الأرجاء واسعة المساحة، وكان لها ثلاثة أبواب: باب مراكش، باب آسفي، باب الوليدية، وكان على كل باب منها برج، وفي كل ربع ثلاثة أبراج، أي أن جميعها كان 18 برجا.[iii]
تأسيس مدينة الغربية (مشتراءة)
تأسست الغربية على يد قبائل دكالة قبل الإسلام أو في صدره، ثم خربت سنة 667هـ، فأسسها أبو عنان المريني ثم خربت سنة 921هـ، ثم عمرت ثم خربت الخراب الأخير إلى الآن. فقد ذكر مرمول كربخال أن “الأفارقة الأقدمون هم من بنوا هذه المدينة، في بسيط من الأرض أفيح حسن المنظر ما بين آسفي وأزمور، وقد كان لها سور وأبراج، كما أنها كانت ذات رفاهية وعمران، وهي عاصمة تلك الناحية، ولم يكن في مدن المغرب أخصب من ناحيتها”[iv]. وكانت الغربية عاصمة دكالة والنواحي المجاورة لها، وكانت هي المدينة الوحيدة في هذه الناحية يحيط بها سور مبني على الطريقة المتبعة في البلاد.[v]
ويذكر أحد المؤرخين أن الغربية (مشتراية) كانت في القرن السادس عشر أكبر قبيلة بربرية دكالية مصمودية، وكانت النصوص تنعتها بـ “.. برابرة ما بين أزمور والمدينة الغربية …” نظرا لوصولها آنذاك إلى منطقة الجرف الأصفر، إذ كانت قرى (سايس) و (تاتير) و(دار الفارس) تابعات لها.[vi] كما تذكر بعض كتب التاريخ أن الغربية تنتمي إلى قبيلة أولاد عمرو، وهي إحدى القبائل العربية المعروفة، والتي تنقسم إلى قسمين؛ أولاد عمرو الشرقية؛ وتضم: بني يخلف، العتامنة، بني امداسن، الغنادرة، الزمامرة، أولاد ربيعة، أولاد بوزيد، أولاد تيمة. ثم أولاد عمرو الغربية؛ وإليها تنسب مدينة الغربية تحديدا، وتضم: أولاد اعروس، الدهاهجة، أولاد بن يفو، البكاكشة، أولاد سبيطة، أولاد عليان، زاوية بن يفو، الوليدية. وهذه القرى ما تزال من أشهر القرى المحيطة بمركز جماعة الغربية حاليا، إلى جانب قرى أخرى؛ كالطيور، أولاد الحيطي، الغرابة، أولاد زبير، أولاد بوعشة، زرك، الجعافرة، المناصرة وغيرها.
أما سكان الغربية فقد جاء في وصفهم؛ أنهم كانوا قوما أصحاب شجاعة وإقدام وولوع بركوب الخيل وكسبها، وقد كانوا معروفين بلبس الصوف، وكانت نساؤهم تتحلى بكثير من حلي الفضة والعقيق الأحمر.[vii]
أشهر علماء مدينة الغربية
لقد اشتهرت دكالة بكونها مهدا للعلماء الأفذاذ، الذين جمعوا بين العلم والصلاح، وقد كان لعاصمتها القديمة “مدينة الغربية” النصيب الأوفر، إذ شهدت بروز نخبة من الأعلام الذين نبغوا في العلوم الإسلامية وعملوا على نشرها وتبليغها للناس.
وتجدر الإشارة إلى أن أهل دكالة عموما كانوا ممن أحبوا العلوم الشرعية وأهلها، فكان لكل قبيلة شيخها وزاويتها العلمية العتيقة ومحاضرها القرآنية لتعليم القرآن وأداء الصلوات الخمس، وقد عرفت بها قبائل بالعلم والقرآن حتى أنه لا يخلو بيت من بيوتها من فقيه أو حامل لكتاب الله تعالى، ولربما البيت برجاله ونسائه وصبيانه حملة لكتاب الله تعالى.[viii]
ومن أبرز العلماء الأفذاذ الصالحين الذين اشتهرت بهم حاضرة دكالة “مدينة الغربية”، وكذا الذين نسبوا إليها، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
- أبو ينور عبد الله بن واكريس الدغوغي (ت 613هـ): اشتهر الشيخ أبو ينور بزهده وابتعاده عن مباهج الحياة وزينتها، وكان من ورعه أنه كان يرفض تناول الطعام إذا رأى فيه أدنى شبهة من حرام، وكان فقيها يستفتيه الناس في أمورهم فيفتيهم بحسب اجتهاده، وقد تتلمذ بين يديه بعض كبار الفقهاء؛ ومنهم أبو شعيب أيوب بن سعيد الصنهاجي الذي تخلق بأخلاقه.[ix] وإليه تنسب مدينة سيدي بنور حاليا.
- أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الدكالي المشنزائي (القرن التاسع الهجري): وصفه محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني في “سلوة الأنفاس”، بالفقه والإمامة، وذكر أنه كان من العلماء الأعلام، وكان أول من قدم إلى حاضرة فاس من أولاد ابن إبراهيم المشنزائيين بداية القرن التاسع الهجري. وكان الغرض من زيارته المدينة أن تكون محطة ضمن محطات أخرى في طريقه لأداء مناسك الحج، إلا أنه قوبل بالمنع من السلطان المريني أبي سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق (ت731هـ) بعد ما لمسه فيه من رسوخ في العلم، فبالغ في إكرامه وتعظيم مكانته، وقد عرف عن هذا السلطان أنه كان من أهل الحلم والعلم وقد كثرت في عهده المدارس العلمية خاصة بفاس ومنها مدرسة العطارين.[x] وقد دفن أبو إسحاق بعد وفاته بالجبل الأخضر بدكالة، وهو الجبل الذي يقع شرق سيدي بنور.[xi]
- محمد بن محمد بن إبراهيم الدكالي المشنزائي (925هـ): هو من أهل العلم والفقه والتفنن في العلوم، وقد ُعرف ب”البحر”، أخذ عن ابن غازي المكناسي، وأجاز له أن يروي فهرسته، توفي عام ( ت 925هـ).[xii]
- أحمد بن عبد الله بن أحمد الغربي الرباطي الدكالي (ت 1178هـ): هو أحد العلماء المشترائيين الذين ذاع صيتهم وانتشر في الآفاق رغم أن مسقط رأسه كان بالرباط، يعد من علماء الفقه والأصول والحديث، يذكر الحضيكي في “طبقاته” أنه كان عالما متفننا فقيها صوفيا محدثا، عارفا بالبلاغة وبالفقه وأصوله، ويعتبر من كبار البلاغيين بالمغرب الأقصى.[xiii] صحب كبار مشايخ عصره، وظهرت عليه سمات الصالحين، وقد زاره الكثير من طلبة العلم من أبعد البلدان طلبا لعلو سنده، وقد كان الحضيكي واحد ممن استفاد من إجازته كتابة.[xiv]
- أبو عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم المشترائي الدكالي الفاسي (ت1241ه): هو أحد كبار الأسرة المشترائية التي كانت لها بصمة علمية واضحة في العاصمة العلمية، وقد كان مرجعا في النوازل والأحكام، اشتهر بيته بالعلم والصلاح بمدينة فاس، وقد كان من أشهر قضاتها، وصفه الكتاني بقاضي الجماعة بالحضرة الإدريسية، ومفتي الديار المغربية.[xv]
هؤلاء الأعلام ما هم إلا فيض من غيض، وإلا فإن منطقة الغربية تزخر بنخبة من العلماء الذين اشتهروا بالأدب والحكمة والزهد والصلاح والتقوى.
اندثار واندراس مدينة الغربية
لقد كانت الغربية أو (مشتراءة) قريبة من مدينة أسفي، والتي كانت تعد منفذا بحريا مهما للمحتلين من أجل تهريب خيرات المنطقة؛ ولهذا سعى البرتغاليون للسيطرة على الغربية، ونتيجة للمقاومة الشديدة التي أبداها السكان؛ تعرضت مدينتهم للتخريب حوالي سنة 919هـ، ويقال أن الذي قام بترحيل السكان خوفا عليهم من تنكيل الاحتلال البرتغالي هو المولى الناصر أبو علي بن محمد الشيخ الوطاسي، وهو أخ ملك فاس محمد بن محمد الشيخ الوطاسي.[xvi]
ولم يبق منها إلا الآثار ورسوم الديار بالبلاد الغربية من وسط صقع بلاد دكالة، واتصل سكنى قبيلة مشتراءة بها، إلى أن اندرست عمارتها في المائة السابعة أوائل دول بني مرين، وبها مات الواثق المعروف بأبي دبوس آخر ملوك الموحدين 666هــ، فتفرقوا حينئذ في أقطار الأرض، وانتقل أكثرهم إلى مراكش وتحضروا بها ومازال بها الجم الغفير من أعيانها من العلماء والصلحاء والأولياء وأهل الخير رحمهم الله. ثم اختطها ثانيا السلطان أبو عنان المريني (ت 759هـ)، ثم خربت لما استولى عليها البرتغال في العاشر الهجري الموافق للقرن الخامس عشر المسيحي، ولم يعد إليها عمرانها ولا تزال بها أسوار وأطلال عادية، وبها دار القائد الشهير محمد بن حميدة الغربي قائد الغربية، مع جملة من السكان.[xvii]
ومما يشهد على تاريخ هذه المدينة؛ عظمة سورها، واتساع أرجائها ومساحتها، وهذا التاريخ المجيد الثري، لم يبق من أخباره في المصادر والمظان سوى مدونات ومشاهدات وشذرات محدودة ومتفرقة، تساوى في تلخيصها وإيجازها كل من الإخباريين المغاربة والأجانب.[xviii]
خاتمة
من خلال هذا البحث الذي حاولنا أن نتطرق فيه إلى لمحة من تاريخ مدينة الغربية، يمكننا القول بأن مدينة الغربية كانت من أهم العواصم القديمة لدكالة، وقد اشتهرت بأسماء أخرى كـ “مشتراءة” و”مشنزاءة”، وكانت ذات رفاهية وعمران، ولم يكن في مدن المغرب أخصب من ناحيتها، أما سكانها فكانوا قوما أصحاب شجاعة وإقدام وولوع بركوب الخيل وكسبها، وكانت تزخر بنخبة من الأعلام الذين اشتهروا بالعلم والحكمة الصلاح. كما تبين لنا من خلال هذا البحث، أن هذه المدينة تعرضت للتدمير مرات عديدة، حتى اندثرت، ولم يبق منها إلا بعض الآثار اليسيرة، ويعد حاليا مركز جماعة الغربية، قلب هذه المدينة المندرسة، وهو تابع لإقليم سيدي بنور بالمغرب.
المراجع
[i] آسفي وما إليه قديما وحديثا، محمد بن أحمد العبدي الكانوني، (دون معلومات حول الناشر)، ص43.[ii] دكالة والاستعمال البرتغالي إلى سنة إخلاء آسفي وأزمور، أحمد بوشرب، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1984، ط1، ص81.
[iii]آسفي وما إليه قديما وحديثا، محمد بن أحمد العبدي الكانوني، ص42.
[iv]آسفي وما إليه قديما وحديثا، محمد بن أحمد العبدي الكانوني، ص42.
[v]وصف افريقيا، الحسن بن محمد الوزان الفاسي، دار الغرب الإسلامي والشركة المغربية للناشرين المتحدين، 1983م، ط2، ص152.
[vi] دكالة والاستعمال البرتغالي إلى سنة إخلاء آسفي وأزمور، أحمد بوشرب، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1984، ط1، ص82.
[vii]وصف افريقيا، الحسن بن محمد الوزان الفاسي، ص152.
[viii] علائق آسفي ومنطقتها بملوك المغرب، محمد بن أحمد العبدي الكانوني، تحقيق: علال الركوك، الرحالي الرضواني، محمد الظريف، منشورات جمعية البحث والتوثيق والنشر، 2004، ط1، ص115.
[ix] معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، سلا، 1989م، 16/5382.
[x] الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 3/112.
[xi] سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، الكتاني محمد بن جعفر، تحقيق: عبد الله الكامل الكتاني ومن معه، دار الثقافة، الدارالبيضاء، 2004، 3/320.
[xii] الإعلام بتراجم علماء دكالة الأعلام، متفكر أحمد، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2019م، ط1، ص136.
[xiii] معجم البلاغيين والعروضيين بالمغرب الأقصى، الخطيب عزيز والحسين زروق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1441هـ، ط1، ص30.
[xiv] طبقات الحضيكي، محمد بن أحمد الحضيكي، تحقيق أحمد بومزكو، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 2006م، ط1، 1/110.
[xv] الشرب المحتضر والسر المنتظر من معين أهل القرن الثالث عشر، جعفر بن إدريس الكتاني، تحقيق محمد حمزة الكتاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م، ط1، ص52.
[xvi]تاريخ ناحية دكالة: دراسة جغرافية وتاريخية واجتماعية، وبيلير إيدمون ميشو، ترجمة محمد الشياظمي الحاجي السباعي، دار أبي رقراق، الرباط، 2010، ط1، 1/141.
[xvii]آسفي وما إليه قديما وحديثا، محمد بن أحمد العبدي الكانوني، ص42-43.
[xviii] مدينة الغربية حاضرة دكالة وعاصمتها، إبراهيم كريديه، مطبعة safigraphe، 2014، ط1، ص13.