المحتويات
توطئة
يُقرأ المؤرخ في سياقه التاريخي، وهو في ذلك يشابه الحوادث التي لا تفهم في معزل عن زمن حدوثها، فكاتب التاريخ مرآة زمانه، سواء كتب عن حاضره أم عن فترات سابقة، من هذا المنظور يمكن استقراء تجربة المؤرخ ابن عزوز حكيم واستنطاق إرثه الثري، ولعلّ في مساره تجسيد مختزل لجيل النهضة في الإستوغرافية المغربية، تلك الزمرة من المؤرخين التي اعتمدت على الوثيقة في بناء السردية التاريخية، كما أعادت النظر في الإرث التاريخي على ضوء دراسات مقارنة مع المصادر الأجنبية، ناهيكم عن حفظ ذاكرة المقاومة المغربية تأريخا متحيزا للوطنية في ظلّ طرح كولونيالي موازي.
من شفشاون إلى مدريد .. مغربي ذو تكوين إسباني
ولد محمد ابن عزوز حكيم يوم 28 شتنبر 1924م، بمدينة تطوان، وهو ينحدر من عائلة ذات أصول أندلسية وجدت خلف أسوار مدينة المنظري (قائد عسكري أندلسي قاد عملية تأسيس تطوان الحديثة أواخر القرن الخامس عشر الميلادي ) أمانا بعد هجرتها من شبه الجزيرة الإيبيرية. كان على محمد أن يدشّن طفولته باتخاذ طريق العلم مسلكا كابن أي عائلة متوسطة الغنى، وبحكم انتقال عائلته إلى مدينة شفشاون بسبب عمل والده درس مرحلة الابتدائي بالمدرسة الإسبانية “رامون كاخال” التي تحوّل اسمها إلى الحسن أبي جمعة[1]، ثم استعادته مدينته تطوان ليلتحق بثانوية “أكاديمية لا خنرال”.
كان المسار الذي ذهب فيه الشاب ابن عزوز حكيم يفضي بالضرورة إلى إسبانيا، على عكس من درسوا في التعليم الحرّ وتوجهوا بعد ذلك إلى المشرق لمتابعة دراساتهم العليا، فثابر في بلاد المهجر حتى ظفر بشهادة الباكالوريا من جامعة غرناطة سنة 1941م، ودوّن هذه التجربة في أول كتاب له: «رحلة إلى الأندلس بالإسبانية» الذي صدر سنة 1942م.
قاده شغفه العلمي إلى ولوج كلية الفلسفة والآداب التابعة لجامعة غرناطة، ومنها انتقل سنة 1943م إلى جامعة مدريد حيث حصل على إجازة في الفلسفة والآداب «قسم التاريخ»[2]، فجعلته هذه الشهادة من بين النخبة المغربية “المتأسبنة” ثقافيا من حيث التكوين، وخوّلت له الولوج إلى مناصب إدارية كانت حِكرا على المعمّرين الإسبان.
سيظفر ابن عزوز حكيم بمنحة أكاديمية سنة 1948م، لإنجاز بحث حول “العلاقات المغربية الإسبانية عبر التاريخ” ما سنح له بجمع كم هائل من المادة التاريخية الموجودة بمختلف دول أوربا الغربية – خصوصا بإسبانيا وفرنسا- تمكن بتوظيفها في دراساته بشكل دقيق.
العمل بمصالح الإدارة الاستعمارية الإسبانية
اقتحم الشاب محمد ابن عزوز حكيم عالَم الوظائف قبل أن يُتمّ تكوينه الجامعي، وكان ذلك بعد أن حصل على ترخيص يسمح له بمزاولة وظيفة في السلك الإداري الإسباني العام خلال فترة الحماية 1941م، برتبة كاتب من الدرجة الثانية[3]، رغم ذلك تشبث بفرصته لمواصلة الدراسة[4].
ويبدو من المسار الإداري لمحمد أنه كان مجتهدا ومتقنا لمهامه، إذ ترقى في درجات إدارية مختلفة إلى أن بلغ رتبة ضابط إداري من الدرجة الثالثة، ثم عيّن رئيسا لمصلحة الموظفين بمديرية الصحة العمومية التابعة للإدارة الاستعمارية الإسبانية، كما ظفر برتبة ضابط من الدرجة الثانية، ما أتاح له التوجّه إلى مجال شغفه ليعيّن أستاذا محاضرا في تاريخ وجغرافية المغرب بمعهد الدراسات المغربية سنة 1950م، وفي أكاديمية المراقبين، وكلاهما في مدينة تطوان، بعد ذلك بفترة وجيزة أصبح رئيسا لخزانة الصحف العربية بنيابة التربية والثقافة سنة 1951[5].
وإبان هذا التميز المهني حرص على بذل مجهوداته علمية في التعريف بجوانب مختلفة من تاريخ المغرب والأندلس ما أثمر حصوله على جائزة إفريقيا للصحافة التي تمنحها مديرية المغرب والمستعمرات سنة 1951م، وفي السنة الموالية وشّحه الخليفة السلطاني الحسن بن المهدي بوسام المهدوية برتبة ضابط من الدرجة الممتازة[6].
عنايته بالوثائق التاريخية
شبّه الباحث الإسباني “مانويل كارسياراطو” (Manuel García Rato) علاقة ابن عزوز حكيم بالتاريخ بذلك «الحب القوي الذي نحسه ونحن في سن المراهقين تجاه المرأة الرزينة والذكية والجميلة التي تجعلنا أسرى فتنتها وتبهرنا بجمالها وتسيطر علينا بذكائها والتي نظل مخلصين لها طوال حياتنا»[7].
بدأت تنكشف معالم هذه العلاقة التي ولّدت إسهامات نوعية في تطور الكتابة التاريخية المغربية منذ التحاقه خلال أربعينيات القرن بالجامعة واختياره لشعبة التاريخ، ثم نمى هذا الشغف وذهب مذهبا غير معهود؛ وهو إيلاء الوثيقة مكانة مركزية في عملية كتابة التاريخ، أي نعم كانت الوثيقة من الشواهد التاريخية المعتمدة في التأريخ منذ القرن 19م بالمغرب، إلاّ أن ابن عزوز حكيم جعل منها مقصد المؤرخ الأوّل ورأسماله الأكبر.
إن الوثيقة المكتوبة بالنسبة للمؤرخ المغربي المعاصر هي مبتدأ عمله ومنتهاه بالنسبة لابن عزوز حكيم فهو لا يؤمن بشهادة أخرى إن لم تكن موثّقة[8]، حاليا، يبدو هذا الرأي متطرف من الناحية المنهجية، خصوصا بعد تطور مدرسة الحوليات وبروز مناهج التاريخ الجديد التي انفتحت على مصادر متنوعة وعديدة لعملية التأريخ، إلا أن هذا الاختيار المنهجي بالنسبة لمؤرخنا كان ميزته ولبّ إسهامه في تطوير الكتابة التاريخية بالمغرب، كما جعل هذا التصور من صاحبه أحد الركائز التي شُيّد عليها أرشيف المغرب.
فالدولة المغربية -حسب محمد ابن عزوز حكيم- لم يكن لها أرشيف بالمعنى الصحيح، لسبب بسيط هو أن الوزراء والكتاب والعمال والباشوات والقواد كانوا يعتبرون الوثائق الصادرة عنهم أو الواردة عليهم ملك خاص لهم بحكم أنها تحمل توقيعاتهم أو أسماءهم الخاصة[9]، لذلك انبرى بهمّته وولعه بالوثائق إلى تجميع أرشيف خاص عن المغرب والأندلس، استثمرها في أغراض علمية تمثلت في مؤلفات ودراسات متعددة وكذلك في أغراض أخرى سياسية قامت على توظيف تلك الوثائق في معارك التدافع الثقافي مع المستعمر وفي الدفاع عن الوحدة الترابية.
لقد بلغ عدد الوثائق التي جمّعها مؤرخنا من مختلف الجهات -خصوصا الإسبانية- أرقاما أشبه ما تكون بالخيالية؛ إذ تحدث في حوار له عن خمسة ملايين وثيقة، اعتمد الكثير منها في تحضير الملف الخاص بالأقاليم الصحراوية المغربية في كل من هيئة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية[10]، كما نشر المصادر والمستندات الإسبانية المتعلقة بالحملات العسكرية منذ أحداث مليلية في خريف 1893م، ليستفيد منها مؤرخو المقاومة المسلحة، فضلا عن وضعه لوثائق الحركة الوطنية في الشمال خلال الثلاثينات بين أيدي الشباب[11].
استطاع الأستاذ ابن عزوز حكيم أن يُخرج جملة من هذه الوثائق إلى عموم القراء والباحثين بأساليب مختلفة، لكن جزء مهم منها ظلّ حبيس خزانته الخاصة، ما أثار الكثير من اللغط إبان حياته وبعد وفاته، علما أن السيدة إحسان المرزوقي ابن عزوز أصدرت بيانا باسم العائلة سنة 2017 أخبرت فيه بأن الوثائق والمستندات التي خلّفها المرحوم توجد بين أيدي آمنة لدى ورثته[12].
الإرث المعرفي لمحمد ابن عزوز حكيم
ودّع المؤرخ محمد ابن عزوز حكيم هذه الدنيا يوم 1 شتنبر 2014، وأورث الخزانة المغربية التاريخية ما يقرب 100مؤلّف بالعربية، وحوالي 155 ما بين مؤلف ودراسة بالإسبانية حول تاريخ المغرب[13]، كما كتب عشرات المقالات في موسوعة معلمة المغرب في أجزائها الأربعة الأولى، بالإضافة إلى ما يقارب 500 مقال بالصحافة الإسبانية بتطوان وطنجة مثل: Africa ،El Dia، Al Motamid…
وأودع كنزه الوثائقي في عدد من المجلات التي أسسها مثل: مجلة الوثائق الوطنية، مجلة تطاون، ومجلة الجيوب السليبة «تعنى بالمناطق المغربية المستعمرة» بالعربية والإسبانية[14]، كما استدعته جهات مختلفة من داخل المغرب وخارجه لتنهل من معين درايته بتاريخ المغرب والأندلس حتى بلغت المحاضرات التي ألقاها أكثر من 200 محاضرة.
تمحورت أعماله حول قضايا تاريخية محددّة ومختارة بعناية، إذ لم يبتعد قلم هذا المؤرخ عن المسائل التي يملك عنها وثائق ينهل منها النفائس، فكان من روّاد التعريف برموز الثقافة المغربية خصوصا في المنطقة الشمالية، كما تفرّد بنشر التراث النضالي في المنطقة الخليفية (الشريف الريسوني والمقاومة المسلحة في الشمال الغربي، ومضات مضيئة عن حرب الريف، يوميات زعيم الوحدة، زيارة شكيب أرسلان للمغرب…) مستفيدا من الوثائق التي حصل عليها من الأرشيف الإسباني، وكذلك ساعده تقرّبه من حزب الإصلاح الوطني على تجميع مستندات حول أهم المحطات النضالية للحركة الوطنية بالشمال.
بالإضافة إلى ما سبق حاول المؤرخ التطواني أن يوظّف التاريخ في معركة استكمال الوحدة الترابية، ويُخرج الوثائق من رفوف الأرشيف إلى ساحة الصراع الدبلوماسي والسياسي بين المغرب وإسبانيا، لذلك أسال الكثير من المداد في كشف خبايا تاريخ سبتة ومليلية والجزر المتوسطية، مطالبا باستعادتهم، كما خصّ قضية الصحراء المغربية بدراسات متعددة ونشر بعض الوثائق التي تتعلّق بها (الصحراء المغربية: وثائق وصور). إن هذه الجهود المكثّفة التي حاولت «بلورة سيادة الدولة المغربية من خلال الأرشيف التاريخي»[15] ستظل شاهدة على وطنية الرجل وتشبعه بروح المقاومة وانشغاله بغاية نبيلة بعد الاستقلال وهي تصفية الاستعمار الأجنبي وبناء دولة كاملة الحقوق السياسية والترابية.
خاتمة
بصم المؤرخ محمد ابن عزوز حكيم ميدان الكتابة التاريخية بالمغرب بتشبثه بالوثيقة وإعلاء مكانتها، وقدّم تاريخا محليا ووطنيا دقيقا وقويا في نصّه وتخريجه، لقد كان رجلا بمثابة مؤسسة قائمة الذات، حظي باحترام وتقدير كبيرين من مختلف الأوساط العلمية، كما وشّحه الملك محمد السادس بوسام الكفاءة الفكرية سنة 2011 كاعتراف بهذا المسار الزاخر بالعطاء العلمي، مع ذلك لم تحظ أعماله بالعناية اللازمة من حيث النقد والمُدارسة على كثرت توظيفها في الدراسات من طرف الباحثين، كما أن الفقيد لم يكوّن خَلَفاً له يرثه علميا ويستكمل مشاريعه البحثية.
المراجع
[1] حوار أجراه المؤرخ عبد العزيز السعود مع المؤرخ محمد ابن عزوز حكيم، سيميائيات، العدد 1، يوليوز 2008، ص 9.[2] محمد ابن عزوز حكيم، في ركاب زعيم الوحدة، ج1، تطوان، مكتبة النجاح هشام، 2000، ص 17.
[3] محمد ابن عزوز حكيم، في ركاب زعيم الوحدة، مرجع سابق، ص 15.
[4] حوار مع المؤرخ محمد ابن عزوز حكيم، سيميائيات، مرجع سابق، ص 9.
[5] محمد ابن عزوز حكيم، في ركاب زعيم الوحدة، مرجع سابق، ص17.
[6] عبد العزيز خلوق التمسماني، مقالات ووثائق حول تاريخ المغرب المعاصر، المحمدية، شركة سليكي إخوان للطباعة والنشر والإخراج، الطبعة الأولى، 1997، ص 43.
[7] فهرس مؤلفات وأبحاث المؤرخ الباحث محمد ابن عزوز حكيم، مطابع الشويخ، تطاون، 1997، ص 3.
[8] حوار مع المؤرخ محمد ابن عزوز حكيم، سيميائيات، العدد 1، يوليوز 2008، ص 19.
[9] حوار مع المؤرخ محمد ابن عزوز حكيم، سيميائيات، مرجع سابق، ص 11.
[10] حوار مع المؤرخ محمد ابن عزوز حكيم، سيميائيات، مرجع سابق، ص 10
[11] عبد العزيز خلوق التمسماني، مقالات ووثائق حول تاريخ المغرب المعاصر، مرجع سابق، ص 45.
[12] بيان أصدرته السيدة إحسان المرزوقي ابن عزوز بتاريخ 19/04/2017.
[13] عبد العزيز خلوق التمسماني، مقالات ووثائق حول تاريخ المغرب المعاصر، مرجع سابق، ص 47 – 52.
[14] فهرس مؤلفات وأبحاث المؤرخ الباحث محمد ابن عزوز حكيم، مرجع سابق، ص 10.
[15] فهرس مؤلفات وأبحاث المؤرخ الباحث محمد ابن عزوز حكيم، مرجع سابق، ص 43.