
المحتويات
توطئة
وُلد الدكتور فريد الأنصاري بإقليم الرشيدية جنوب شرق المغرب سنة 1960 وتوفي رحمه الله في الخامس من نونبر من سنة 2009 عن عمر يناهز 49 سنة في إحدى مستشفيات مدينة إستنبول التركية بين أكناف أصدقائه ومحبيه من “طلاب النّور” أتباع مدرسة الإمام بديع الزمان النورسي وتلاميذ أحد وارثي سرّه الداعية فتح الله كولن. توفي العلامة الأنصاري بعد حياة قصيرة قضاها رحمه الله في العطاء العلمي والحيوية الحركية والمراجعة الفكرية التي نقلته من عضوية المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح والإشراف على قطاعها الطلابي؛ إلى رحاب التَّصوف النّورسي ثم الانتظام ضمن النخبة الدينية الرسمية في المجلس العلمي الأعلى ورئاسة المجلس العلمي بمكناس.
التكوين المتين والتمكّن الرصين
انطلق مسار الأستاذ الأنصاري الجامعي في التكوين الفقهي والعلوم الشرعية بحصوله على الإجازة في الدراسات الإسلامية من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، ثم تخصّص بعد ذلك في أصول الفقه والمصطلحات الأصولية، تحت إشراف أستاذه الشاهد البوشيخي، وفي سنة 1990 نال دبلوم الدراسات العليا (الماجستير) في أصول الفقه ببحثه حول موضوع “مصطلحات أصولية في كتاب الموافقات”، من جامعة محمد الخامس بالرباط، وختم مساره العلمي النِّظامي سنة 1998 بحصوله على شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية بأطروحة جامعية موضوعها “المصطلح الأصولي عند الشاطبي”، وذلك بكلية الآداب بجامعة الحسن الثاني بمدينة المحمدية.
وعلاوة على إنتاجه الأكاديمي الذي تأثر فيه بشكل كبير بمشرفه الشاهد البوشيخي رائد الدراسات المصطلحية بالمغرب، أنتج الراحل فريد الأنصاري أعمالا فكرية كان لها صدى وتأثير واسع في التأطير الشرعي لإسلاميِّي حركة التوحيد والإصلاح، كما عبّرت عناوين مكتوباته عن أولويات الرجل باعتباره عالما للشريعة، احتل مكانة قيادية مهمة في تنظيمه الحركي قبل استقالته منه، كما أرّخت لمسار تحوله الكبير من “الإسلام الحركي” إلى ” الإسلام الرسمي” ثم انخراطه في سلك “التصوف النورسي”، وهذا ما يفسِّر نعيه مِن قبل كلّ من الملك محمد السادس ببرقية تعزية، وكذا المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح وجماعة الخدمة بتركيا.
غزارة في التأليف خدمةً للمعرفة الدينية
طوال حياته العامرة؛ انكبَّ الدكتور فريد الأنصاري على قضايا الفكر الإسلامي والحركي والدعوة والتربية والتأمل في القرآن والاشتغال بالعلوم الشرعية، فخلّفَ لنا إرْثا علميا نافعا ما يزالَ محطّ تداول ومدارسة في المشرق والمغرب.
ومن أهمّ مؤلّفاته العلمية الرصينة؛ نذكر:
- “التوحيد والوساطة في التربية الدعوية”، ضمن سلسة كتاب الأمة، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية سنة 1995.
- “سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة”، منشورات ألوان مغربية، الطبعة الأولى، طوب بريس، الرباط سنة 2003.
- “مفاتيح النور: دراسة للمصطلحات المفتاحية لكليات رسائل النور لبديع الزمان النورسي”، منشورات مركز النور للدراسات والبحوث بإستنبول بشراكة مع مهمة الدراسات المصطلحية بفاس، مطبعة نسيل، اسطنبول الطبعة الأولى سنة 2004.
- “مفهوم العالمية“، مطبعة الكلمة، الطبعة الأولى، مكناس، 2009.
- “قناديل الصلاة؛ مُشاهدات في منازل الجمال”، دار السلام، القاهرة، 2009.
- “بلاغ الرسالة القرآنية؛ من أجل إبصار آيات الطريق”، دار السلام، القاهرة 2009.
- “مجالس القراَن، مدارسات في رسالات الهدي النبوي في القراَن الكريم، من التلقي إلى البلاغ” عن دار السلام، القاهرة، 2009.
- “الفطرية بعثة التجديد المقبلة؛ من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام”، منشورات دار السلام، القاهرة، 2009.
- “جمالية الدين، معارج القلب إلى حياة الروح”،دار السلام، القاهرة، 2009.
- “البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي”، دار السلام القاهرة سنة 2009.
العمل الروائي والنقد الذاتي للتنظيم الإسلامي
لم تقتصر الجهود التأليفية للأنصاري على المجال الشرعي والفكري والتربوي، بل تعدّاه الراحل إلى العناية بالعمل الإسلامي في المغرب نقداً وتقويماً ومُراجَعةً، فأصدَر عملَيْه الشهيرين:
- “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب” مطبعة الكلمة، مكناس2007.
- “الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب، دراسة في التدافع الاجتماعي”، منشورات الفرقان، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 2000.
وعبّرَ عن ذائقته الأدبية الرّفيعة في مجال الأدب الروائي، بتأليف ثلاث روايات ماتعة، أقدَمُهما في الزمن “كَشْف المحجوب”، وأحدَثُهما “آخِر الفُرسان”[1] و”عودة الفرسان”[2].
يَتّضح لنا من خلال القراءة الموضوعاتية (Thématique) لهذه القائمة البيبليوغرافية الغنية التي تركها الراحل فريد الأنصاري أنّ الحياة العامة والفكرية للرجل تنقسم إلى مرحلتين: مرحلة “فريد القديم” ومرحلة “فريد الجديد” بتعبير الكاتب الصحفي رشيد شريت، وذلك على منوال ما عاشه الإمام سعيد النورسي من شخصية “سعيد القديم” الذي قاوم مشروع التغريب الأتاتوركي من داخل مجلس المبعوثان (البرلمان التركي)، ثم “سعيد الجديد” أي سعيد ما بعد السياسة، مؤسس جماعة النور، سعيد رسائل النور، هذه الرسائل التي أعادت مجرى الإيمان في تركيا بعدما كاد أن يُقْتَلَع الإيمان قلعا وتُغرس بَدَلَه نَبتة التغريب المطلق والطمس التام للهوية الإسلامية بتركيا. وتشاء أقدار الله تعالى أن يموت فريد في أرض العم الأكبر سعيد النورسي وبين أحضان تلامذته. بل الأعجب مِن ذلك أن السنة التي ولد فيها فريد 1960 هي السنة نفسها التي توفي فيها الشيخ سعيد النورسي[3]!
مِن تَجربة العمل التنظيمي الحركي
تميزت المرحلة الأولى من حياة فريد الأنصاري بانتمائه التنظيمي لحركة التوحيد والإصلاح وحيويته في الكتابة تنظيرا للتجربة الفكرية والسياسية الحركية، فأصدر أول كتبه سنة 1995 بعنوان “التوحيد والوساطة في التربية الدعوية” ونُشر هذا الكتاب في أوج حدة التنافس الفكري والتنظيمي بين الحركة وجماعة مع العدل والإحسان، وقد عكف فيه الأنصاري على نزع الشرعية الإسلامية عن مسألة صحبة الشيخ المربي التي تحضر بشكل رئيس في الأدبيات التربوية لجماعة العدل والإحسان، وأصبح هذا الكتاب بجزأيه مرجعا للحركة في رؤيتها التربوية لمدة من الزمن إلى أن نسختها المستجدات السياسية والمراجعات الفكرية بخصوص مسألة التصوف، وبالضبط بعد الضغوط القوية للسلطة السياسية على الحركة بعد أحداث 16 ماي 2003.
كما تميزت هذه المرحلة من حياة الرجل، بتفرغه للكتابة لمواجهة ما كانت تصفه أدبيات التوحيد والإصلاح وقتئذ بالتحديات العلمانية الفرنكوفونية التي تتهدّد الهوية الإسلامية للمغرب، ففي هذا السياق ألّف الأنصاري كتيبَهُ “الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب: دراسة في التدافع الاجتماعي”، وكتيب “سيماء المرأة بين النفس والصورة”. وكانت لمقالاته المنشورة بجريدة “التجديد” في موضوع الفجور السياسي وقضية المرأة وغيرها من قضايا “الفقه الحركي” دورا إيديولوجيا كبيرا في التنشئة السياسية لقواعد الحركة والحزب، في تكامل مع محاضرات المقرئ أبو زيد الإدريسي في ربوع الوطن ومرافعات المصطفى الرميد في مجلس النواب، فاعتبر فريد الأنصاري في سلسلة مقالاته هاته-المنشورة في أواخر عهد الملك الحسن الثاني (تــ 1999)- على “أن المغرب يعيش حالة فجور سياسي تسهر عليها الجهات الرسمية في الدّولة والطبقة العلمانية المتحالفة معها، من أجل محاصرة التدين والحركة الإسلامية والذوق السليم في المجتمع المغربي المسلم ولبنته الأساسية الأسرة، وذلك من خلال الإعلام والفن والتعليم والاقتصاد”.
في رحاب تجربة المجالس العلمية الرسمية
تميزت المرحلة الأخيرة من حياة “فريد الجديد” بمزاوجتها بين الانتظام في العمل الديني الرسمي، والانتساب الروحي مع جماعة الخدْمة في صحبة شيخها فتح الله كولن (تــ 2024).
انطلقت هذه المرحلة بإلقائه في رمضان من سنة 2004 لدرس حسني بعنوان “القرآن الكريم، روح الكون ومعراج التعرف إلى الله تعالى”، ثمَّ تُوِّجَت بتعيينه رئيسا للمجلس العلمي بمكناس، وعضوا في المجلس العلمي الأعلى. فاهتمّ عقِبَ ذلكَ في مكتوباته بالنقد الشديد للحركة الإسلامية في المغرب بأطيافها كافة، معيبا عليها الوقوع في مطبّ التضخم السياسي على حساب ضمور اهتمامها بالتربية والدعوة، مع تسجيله على التيار السلفي مرضه بداء الاسْتِصنام بالمذهبية الحنبلية، ودَوّن كلّ ذلك في كتابه الشهير “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب”،كما تبنى في هذه المرحلة أطروحة الفعل التربوي والدعوي الحرّ، غير المقيد بضوابط التنظيم الحركي، ضمن ما أسماه بنظرية “الفِطْرية” و”مجالس القراَن”، ونافح عن طرحه هذا بقوة في كتبه مثل: “الفطرية بعثه التجديد المقبلة، من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام”، و”البيان الدعوي، ظاهرة التضخم السياسي”، ويبدو أن دعوته للعمل الدعوي غير المنظم تأثرت بأفكار المفكر الإسلامي جاسم سلطان الذي كان من قادة الإخوان المسلمين بقطر قبل أن يحلّوا تنظيمهم ويؤمنوا بخيار “الفطرية”.
ونظرا لتجربته الطويلة في الفعل الدعوي الحركي، وخبرته الميدانية المطلّعة على مختلف التجارب الدعوية بالمغرب، تحول فريد الأنصاري من كبار المنظرين للعمل الديني المؤسساتي في المجلس العلمي الأعلى بمعية كل من مصطفى بنحمزة، محمد الروكي، إدريس خليفة، وإدريس بن الضاوية، وتبدى ذلك للمهتمين بالشأن الديني من خلال بصماته الواضحة في الإشراف على تحرير وثيقة “دليل الخطيب والإمام والواعظ” الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب.
كما عرفت هذه المرحلة من حياة “فريد الجديد”، منعطفا مفصليا في شخصيته، تحوّل فيها من عالم حركي ذي نزعة سلفية في مسألة صحبة شيخ التربية، إلى رجل عرفان وسلوك. بلْه، ومريد متأثر بالتجربة الصوفية التركية المعاصرة برائديها الإمام الراحل بديع الزمان النورسي (1877-1960) والأستاذ فتح الله كولن (1938-2024) زعيم جماعة الخدمة، التي تعدّ من إحدى الامتدادات الروحية والفكرية للمدرسة النورسية. وقد عبّر الراحل فريد الأنصاري عن تلمذته الروحية والفكرية للرجلين في روايتيه الماتعتين: “اَخر الفرسان، مكابدات بديع الزمان سيعد النورسي”، و”عودة الفرسان، سيرة محمد فتح الله كولن رائد الفرسان القادمين من وراء الغيب”. وهما بحق، عملان أدبيان ماتعان من طراز الأدب الصوفي الرفيع، ختم بهما الراحل الأنصاري صفحات من حياته الفريدة، إذ كتب معظم فصولهما أثناء رحلته الشاقة للاستشفاء بالديار التركية صحبة أحبابه من تلاميذ فتح الله كولن، الذي اعتبره الأنصاري رحمه الله في رواية “عودة الفرسان” بوارث السرّ! وهي صفة تعني لدى أهل التصوف، أهلية المشيخة والدلالة على الله. وقد نسخت هذه الرواية العرفانية بكل بوضوح كل ّما كتبه فريد الأنصاري سابقا في موضوع الصحبة الروحية في كتابه “التوحيد والوساطة في التربية الدعوية”.
ختاما
يُعَبّر المسار الفكري والحركي والعلمي- التأليفي لفريد الأنصاري عن مخاض تأقلم “الفَقيه” و”عالم الشريعة” مع إكراهات الممارسة التّنظيمية والسياسية داخل الحركات الإسلامية باعتبارها بُنى مؤسساتية وسياسية حديثة، يجنح قادتها الماسِكين بزمام قرارها التّنظيمي إلى إعمال منطق الرّبح والخسارة في ضبط الفعل الدّعوي والمبادرة السياسية للتنظيم، بينما يميل “العالم الفقيه” خاصةً إن لم يكن له وزن تنظيمي وسياسي مؤثر في التنظيم، إلى خيار الانسحاب والركون إلى مثالية الوعظ والإفتاء، بعيدا عن حسابات التنظيم وإكراهات السياسة.
المراجع
[1] انظر: (الأنصاري) فريد: "آخِر الفرسان؛ مُكابَدات بديع الزمان سعيد النورسي"، منشورات دار النيل للطباعة والنّشر، جمهورية مصر، الطبعة الأولى 2006.[2] انظر: (الأنصاري) فريد: "عَودة الفُرسان؛ سيرة محمد فتح الله كولن رائد الفرسان القادمين من وراء الغيب"، دار النيل، الطبعة الأولى 2010.
[3] انظر: رشيد (شريت):"نظرية الفجور السياسي، المثقف والسلطة في المغرب المعاصر".