
المحتويات
تمهيد
يمكن إدراج كتاب: “ويعلو صوت الأذان من جحيم تزمامرت (مذكرات المعتقل المفضل المغوتي)” -منشورات التجديد-، ضمن أصناف مختلفة من الكتابات، فهو بداية سيرة ذاتية تقدم تجربة إنسانية لرجل مغربي عاش مرحلة ما بعد استقلال المغرب، كما أنه نموذجا لكتب أدب السجون، لما ينقله من قصة اعتقال استمرت قرابة 20 سنة، في أحد أسوأ المعتقلات بالتاريخ المغربي المعاصر، إضافة إلى ذلك يقدم هذا العمل إسهاما تاريخيا مفيدا يلقي الضوء على حقبة تاريخية ذات أهمية في تاريخ المغرب المستقل.
ولا يعد هذا الكتاب الأول أو الأخير في قضيته ونوعيته، بل سبقته ولحقته أعمالا أخرى تتشاطر معه قضية معتقل تازمامرت، قدمت روايتها بطريقتها مثل عمل أحمد المرزوقي: “الزنزانة رقم 10″، ومؤلف محمد الرايس: “من الصخيرات إلى تزمامرت (تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم)”، وكتاب كَبزال “مذكرات عياد وصالح حشاد عن تزمامرت” لعبد الحق سرحان، وحدائق الملك لفاطمة أوفقير.
تأليف الكتاب ومحتوياته
طبع هذا العمل على هيئة كتاب متوسط الحجم، يتوزع على فصول عديدة مقسمة حسب محطات أساسية في حياة الراوي (المفضل المغوتي)، وسجّلت تفاصيل هذه المحطات بقلم أدبي رفيع، وصيغة بطريقة فنيّة جذابة من غير إخلال بجوهر الحوادث، كما أن تطور الأحداث يسير في نسق كرونولوجي يتقدم بالقارئ من الأقدم إلى الأحدث، في إطار زمني يتراوح بين السنوات الأخيرة للاستعمار الإسباني بشمال المغرب إلى حدود بداية الألفية الثالثة وتولي الملك محمد السادس للحكم.
وقد لعب تكوين الكاتب الذي صاغ هذه المذكرات بشكل كبير في إخراج هذا العمل، حيث يعد د. بلال التليدي من الأساتذة المتمكنين الذين اشتغلوا على قضايا هامة في تاريخ المغرب المعاصر، إذ ساهم في كتابة تاريخ الحركة الإسلامية المغربية بناء على وثائق وشهادات شفوية، كما ساعدته ممارسته للكتابة الصحفية على صياغة أسئلة عميقة ومناسبة، تأخذ بعين الاعتبار أبعادا متعددة في رواية الأحداث وأخذ المعلومات، انطلاقا من الواقع الاجتماعي والتطورات السياسية والتحولات الفكرية والثقافية، إضافة إلى الواقع الاقتصادي.
مضمون الكتاب
يتدرج هذا الكتاب في سرد أحداث سيرة المفضل المغوتي من الطفولة إلى ما بعد تجربة اعتقاله في الجحيم تزمامرت، المفضل ذلك الطفل الذي نشأ في منطقة نائية بقلب قبيلة الاخماس الجبلية، وتحديدا بمدشر “مغو” بالقرب من مركز باب تازة، فنبغ في الدراسة، وحفظ معظم أجزاء القرآن الكريم، ثم انتقل إلى مدينة تطوان ليستكمل دراسته، وساقه هذا المسار ليكون من المتفوقين ثم ليعمل داخل الثانوية التي درس فيها.
ستقود المغوتي شخصيته الطموحة إلى اجتياز مباراة انتقاء طيارين جدد، ليجد نفسه بعد مسار استثنائي مقبولا داخل القاعدة الجوية بمراكش وهو يتدرب على الطيران، لقد كان هذا الانتقال كبيرا في حياة المفضل الشاب، وألقى بظلاله على طبيعة حياته وواقعه الاجتماعي والاقتصادي، إلا أن استقامة هذا الشاب وتعلقه بالقرآن الكريم لم تترنح نتيجة هذه التحولات، بل ظلّ ثابتا على مبادئه في ظل هذا التحول الجارف، خصوصا داخل وسط يغلب عليه نمط الحياة الغربية المنسلخة من مظاهر الالتزام بالدين الإسلامي.
يكشف هذا المسار بعض ملامح المغرب عقب الاستقلال، حيث سادت فرص الارتقاء الاجتماعي والانتقال الطبقي بيسر، فالمفضل كان شابا عاديا ينحدر من أسرة فقيرة تعيش في منطقة نائية، رغم ذلك، استطاع أن يلج إلى وظيفة راقية بعد أن تيسرت له الظروف وبالاعتماد على كفاءته العلمية.
سيخوض المغوتي غمار تجربة الطيران، وبعد أن أثبت أنه جدير بهذه الوظيفة، تلقى تكوينات احترافية داخل المغرب، وبفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن يعود إلى المغرب، ويستقر بالقاعدة الجوية بالقنيطرة، كطيّار حربي، لكن الأقدار ستسوق المفضل إلى ما لم يكن في حُسبانه، إذ سيجد نفسه متورطا في حدث سياسي جلل، لا دخل له في تدبيره أو التخطيط له حسب إفادته في الكتاب، وهو ما أطلق عليه انقلاب الطائرة، حيث سيجري قصف طائرة الملك الحسن الثاني داخل الأجواء المغربية وهو عائد من زيارة لفرنسا، في محاولة لاغتياله وقلب نظام الحكم في المغرب سنة 1972.
كانت هذه المحاولة الانقلابية هي الثانية في ظرف سنتين بعد محاولة انقلاب قصر الصخيرات سنة 1971، التي قادتها مدرسة هرممو العسكرية، فأفضت هذه الصدمة السياسية إلى ردود فعل قوية، تمثلت في إعدام 11 من قادة انقلاب الطائرة، فيما وجد المغوتي نفسه محكوما بـ20 سنة سجنا، قابعا وسط زنزانة انفرادية لا ضوء فيها، ولا رفيق.
أتاح المفضل المغوتي -رحمة الله عليه- لنفسه في هذه المذكرات ما لم تتح له قاعات المحاكم، حيث عبّر بحُريّة عن براءته، وأفكاره، ومبادئه التي لم تكن لتسمح له بالمشاركة في هذا الانقلاب، كما صوّر في هذه الشهادة التاريخية أطوار تجربة اعتقال مريرة، انتزعت منه ومن رفاقه في تازمامرت أثمن سنين حياتهم، واقتطفت منهم زهرة شبابهم، لكنها لم تنل من عزيمة الكثير منهم الذين استطاعوا أن يحافظوا على قدراتهم العقلية، وعاطفتهم الإنسانية، وعقيدتهم الإسلامية.
تحققت معجزة المفضل المغوتي وبعض من رفاقه في العنبر بالحفاظ على حياتهم بعد أن اتفقوا على تنظيم وقتهم داخل السجن، بحيث وضعوا برنامجا صارما، يشمل عدة فقرات في اليوم، كان بمثابة قانون داخلي، يضمن الهدوء، ويحدد آليات التواصل، كما أنه يتيح للمعتقلين إنعاش ذاكرتهم، والاستفادة المتبادلة في جوانب مختلفة، وكل هذا كان يحدث من وراء أبواب الزنزانات الفردية.
تمثل دور السي المفضل في هذا البرنامج في: التذكير بأوقات الصلاة، وتحفيظ المعتقلين لسور القرآن الكريم، خصوصا وأنه قد حصل على مصحف من أحد الحراس، واهتدى إلى طريقة لقراءة آياته وسط عتمة الزنزانة، فضلا عن ذلك كان رفاق المعتقل يلجئون إلى فقيه تازمامرت للاستفسار عن بعض الأحكام الشرعية فكان يجتهد في الإجابة عنها بقدر معرفته.
ويتضمن هذا الكتاب أحداثا عديدة داخل الجحيم تازمامرت؛ ترسم ملامح الحياة داخل هذا المعتقل الرهيب، وتقدّم صورة مقرّبة للمعاناة، ومعاني التشبث بالحياة، والخوف من الموت، وقيم الأخوة والتضامن في ظلّ الحاجة، وكيف تدفع الحاجة إلى اختراع الوسيلة، وكيف يحافظ الإنسان على إنسانيته في ظل وضع لا إنساني.
اختتمت هذه الشهادة التاريخية بالانفراج الذي وقع سنة 1991، بإغلاق هذا المعتقل وإطلاق سراح من ظل على قيد الحياة، ومن بينهم المفضل المغوتي، ليطوي هذا الرجل الاستثنائي صفحة مؤلمة من حياته، ويفتح صفحة أخرى تتضمن محاولة التأقلم مع الحياة الطبيعية بعدما تجاوزه العصر بعشرين سنة.
خاتمة
إن قيمة هذا الكتاب تكمن في أخذ القارئ إلى رحلة واقعية لكنها غير متوقعة، تجعله يكتشف المستوى الذي يبلغه عنف الدولة الحديثة تجاه أفراد معزولين، سواء كانوا مدانين أو بريئين، بغاية تحقيق الزجر السياسي. كما أن شهادة السيد المفضل المغوتي تعدّ شهادة تاريخية، وإسهاما في رسم صورة بشاعة القمع والظلم، وأثرهما على حياة الإنسان، وتدفع في اتجاه إنهاء مثل هذه المسالك المظلمة التي لا تثمر إلا الأحقاد، ولا تسهم إلا في عرقلة مسار الازدهار والتنمية.