تقديم كتاب “نقد القراءة الحداثية للدين والتراث”

توطئة

اهتم العديد من الباحثين بالقراءة الحداثية للتراث، وهي الأنماط الفكرية التي ظهرت في عالمنا العربي والإسلامي محاوِلةً خَلقَ وِئَام بين الثقافة الإسلامية الدينية وبين الطرح الغربي الحديث؛ لتنتج خطابا دينيا متماهيا مع الثقافة الغربية في نظرتها للكون والحياة. والقارئ للمنتج الثقافي الحداثي يرى الخلفية العلمانية الدافعة للطرح الحداثي من خلال عدة تشكلات في الخطاب الحداثي، أهمها: الموقف من الدين والأخلاق: فالعلمانية في أسسها الفلسفية تستبعد اعتبار الدين والأخلاق والإيمان محرِّكًا للتاريخ، بل تعتبر التاريخ محكوما بدوافع غريزية محضة ذات بعد سياسي مادي، والخطاب الديني والأخلاقي مجرد غطاء فوقي لإخفاء الدوافع الحقيقية للأحداث، وتركز العلمانية في خطابها على الحاضر واستبعاد الماضي، كما تدعو للتشكيك في الكتب المقدسة وفي كل ما هو ديني. وكتاب “نقد القراءة الحداثية للدين والتراث” لمصطفى الجباري، محاولة جادة تنطلق من فكرة مركزية مضمرة أساسها أنه: لا نجاح لأي مشروع نهضة جاد، ما لم يحسم بدون مواربة، في الموقف من التراث، بنظرة تجمع بين النقد والتبني، وهو حسم يستلزم بالضرورة موقفا حاسما من الحداثة يقوم على الآلية المزدوجة نفسها .

وكتاب “نقد القراءة الحداثية للدين والتراث” صادر عن مؤسسة الإدريسي الفكرية للأبحاث والدراسات، يقع في 325 صفحة، لرجل خبر الرواية والأدب واطلع على الفكر الفلسفي الغربي والإسلامي، وله كتابات قيمة منها: “الدين والفلسفة العدمية: تأملات في الفن والأخلاق والحضارة”، وفي مجال الرواية نذكر له: “صراخ بلا ضجيج”، و رواية “الشيخ والجبل”، والعديد من المقالات.

إشكالية الكتاب

حاول المؤلف، وفي قراءة متأنية، استنطاق النصوص دون أن تحاكم النوايا، ولا تسوي بين عناصر الطيف الحداثي العربي المعاصر، بل تتلمس بإنصاف وتبصر الفروق الدقيقة بين الألوان المتقاربة داخل هذا المشروع الفكري، الممتد بطول القرن العشرين وعرض العالم العربي، من أقصى يمين رواد المراجعة المنصفة للتراث (الجابري) إلى أقصى يسار طليعة الارثذوكسية المتعلمنة (أدونيس)، مرورا بجعيط وحنفي وأومليل وأركون والعروي وحامدوأبو زيد، وذلك عبر مساءلات مدققة وجذرية لهؤلاء الرواد، لا تغفل الأصول الفكرية لنصوصهم، متمثلة في الاستشراق (نولدكه)، كاشفة عن العلاقة الملتبسة بين الضفتين.

وتساءل كيف تتصور الحداثة العربية المعطوبة بموقفها من الدين والمربكة بموقفها من التراث العلاقة بين مكونات النهضة: العقل، والاجتهاد الوحي، والواقع التراث والغرب؟ هذا ما يواصل الروائي والباحث مصطفى الجباري، ضمن مشروعه الإبداعي والفكري، عرضه على أرضية الهوية والانتماء، وبآلية المساءلة والتحليل، إيمانا منه أن عملية إعادة التوازن للمشروع النهضوي العربي لا يمكن أن تتم إلا عبر نقد مزدوج للتراث والحداثة معا.

مضامين الكتاب

خلال مطارحته، أول ما لفت الكاتب النظر إليه، ونبه عليه، هو أنه لم يوسع دائرة الحوار، بحيث يشمل أكثر القضايا التي تتأطر في هذا المجال، وإنما اقتصر على قضايا أجملها في هذه المحاور: مدخل عام، فرعه على مقدمات ثم انتقل إلى مبحث أول، جعل إطاره إشكالية الوحي والعقل، بعد ذلك أفرد فصلا خاصا للكلام عن مسألة الاجتهاد، حدوده وضوابطه وصلته بقضية سلطة النص الشرعي، وعرج بعد ذلك إلى مبحث موضوعه الفقه والواقع الفضاء الذي يتنزل عليه مشروع الفكر الاجتهادي. ثم ختم هذه المطارحة بفصل جعل محوره ثنائية الديني والمدني وعلاقتهما بمفهوم الدولة كإطار يستوعب نظرية الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وفروعا أخرى تتكامل مع العناصر الأساسية التي يقوم عليها مفهوم الدولة.

هذه بالتحديد، هي المقاربات التي جعلها محور هذه المطارحة النقدية للفكر الحداثي. ووقف في مدخل أساسي عنونه ب”مقدمات وتنبيهات” واعتبرها تمهيدا لما سيأتي من المباحث المركزية، ولا يقصد بكلمة نقد، حمولة الرد الانفعالي، الرافض للكل، فأنتقل إلى المقدمة الأولى من مقدمات هذا المدخل، الرافض لكل ما أنتجه الفكر الحداثي، وإنما غايته من هذا المصطلح: الحوار والتفكيك والخلخلة قصد إبراز مكامن الإخفاق للفكر الاجتهادي من داخل نسق أطروحة التنظير الحداثي، المؤطر بأدوات الفلسفة الغربية، المحضن الأصلي لهذه النظرية التي تلقفها الفكر العربي من غير أن يلحظ ويراعي مسألة الخصوصية. وإلا فالحداثة، من حيث مطامحها إلى إنضاج أدوات العقل، وتنمية الشأن الحضاري، وتفعيل رهانات العصر بمقاربة التحديث، هي جوهر مقصدية النظرية الحضارية من داخل الرؤية الإسلامية.

كل نصوص المرجعية الإسلامية ناطقة بزخم الخلفية الإحسانية، التي هي أس نظرية الإتقان، وتفعيل الأداء الجيد لامتلاك عناصر القوة والجمال الأخلاقي في كل مظاهر الحياة.

من هذه الحيثية، لا سجال ولا رفض لنظرية الحداثة، وإنما لجانبها الذي يحفز العقل الشرعي أساسا على إفراز آليات الدفع التحصيني ضد ملحظها الفلسفي، القائم على فصل وزحزحة الشأن الميتافيزيقي، وإبعاده بالقهر السجالي، والضجيج الأيديولوجي، لينسحب مدحورا، يثقله يأس العودة إلى تأطير مفردات الواقع بكل مظاهره ومؤسساته. (الكتاب ص 12)

كما أكد أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا التنبيه الحط والنقيصة من شأن قواعد الأداء السياسي في بلورة رؤية إجرائية تهادن، وتناور قصد امتصاص شحنات التوتر في ساحة الخلاف الإيديولوجي، بكل تلويناته المتناقضة، بل إنه بارك الاجتهاد السياسي المغربي، الذي يحاول أن يحدث آليات تكتيكية تسعف في امتصاص معارك السجال العنيف بين الإسلاميين وتيار الأطروحة الحداثية العلمانية. (الكتاب ص 13)

التنبيه الثاني في هذه المقدمة الأولى، يتعلق بحدود التوظيف المنهجي لمصطلح التراث في هذه المطارحة، فحدد سلفا أنه  لا يجاوز فضاءه الدلالي المتعلق بالفكر الإسلامي، ولا يتعداه إلى المفهوم الشامل، الذي يستوعب كل قضايا الماضي، من فن وتاريخ وأنماط أخرى من التدافعات الحضارية من داخل الحضارة العربية الإسلامية.

وختم هذه التنبيهات بتنبيه يتعلق بمسألة الاتكاء على نصوص أعلام الفكر الحداثي في مصادره الغربية، وفي مصادره العربية. وهو أنه لم يقصد من تلك النصوص تركيب رؤية نسقية، مستوعبة للخلفية العامة التي تؤطر نظرية هذا الباحث أو ذاك، وإنما قصد الاستدلال التبعيضي، الذي يرفع عن هذه الدراسة وصمة الادعاء، أو التجني على أقوال المخالف بالتدليس والمزايدة الأيديولوجية، وتفاديا لمزلقة الانخراط بهذه الدراسة إلى نقيض ما استهدفته من تأصيل حوار تفكيكي، يسائل العقل الحداثي بالنقد الموضوعي والتقويم المبرأ من شحنة الانفعال العاطفي والضغط الأيديولوجي. (الكتاب ص 14/15)

ومهد بالمقدمة الثانية لما سيأتي من محاور هذه الدراسة النقدية للقراءة الحداثية لشؤون المطالب الحضارية للوطن العربي الإسلامي، افتتحها بهذا التساؤل: يلاحظ على العقل الحداثي العربي عنف سجاله، واستنكاره القوي للظاهرة السلفية الجامدة على تجارب الماضي، واعتبارها أطروحات توقيفية مقدسة لا ينبغي هدم هوامشها المتجاوزة بالاجتهاد والإبداع البديل لماذا يستباح تيار السلفية بمعناه الواسع؟ (الكتاب ص 15)

ويدور إطار المقدمة الثالثة في سياق النظر إلى من تجرأ بالفحص النقدي، عاملا بآلة التفكيك، سابرا أغوار مصطلح الحداثة، مبرزا حدود دعاويه، وفشل مطامحه. واكتفى هنا بآلن تورين، من الفكر الغربي، وطه عبد الرحمن من الفكر العربي الإسلامي، لأنها مقدمة، وليست فصلا له مجال كاف للتفصيل والتعقيب التفريعي لنظرية هذا أو ذاك، بغية الاستيعاب والتقصي. (الكتاب ص 26)

وقد تعمد عدم إقحام المفاهيم المعجمية والمصطلحية في هذا المدخل إدراكا منه أن ذلك المسلك لا يفيد هذه الدراسة النقدية في شيء، لأنه نهج مقاربة استنطاق النصوص مستبعدا التعاريف النظرية، لأنها في الغالب يطرأ عليها التحوير والتجاوز عند التنزيل والممارسة. لذلك اختار تعريف المفهوم من خلال الرؤى والمقاصد، وهو مسلك عنده أنجح من التعاريف المعجمية.

في ختام هذه المقدمات أشار إلى أن مجالات الفكر الحداثي أوسع من القضايا التي أطرتها في فصول هذه الدراسة. وإنما اقتصر على هذه الفصول زعما منه بأنها ملاحظ أساسية، إذا تم فحص مكامن الانزلاق في رؤيتها المنهجية التي أطر بها الفكر الحداثي أهدافه ومقاصده، فإن الملاحظ الأخرى قد يسهل تبين مآلاتها السلبية إذا ما تنزل عليها مبدأ القياس الافتراضي والتصور النظري التجريدي.

خلاصة

يواصل الروائي والباحث مصطفى الجباري، ضمن مشروعه الإبداعي والفكري، عرضه على أرضية الهوية والانتماء، وبآلية المساءلة والتحليل، إيمانا منه أن عملية إعادة التوازن للمشروع النهضوي العربي لا يمكن أن تتم إلا عبر نقد مزدوج للتراث والحداثة معا.