
المحتويات
تمهيد
استقطبت حقبة الحماية في المغرب (1912-1956) عددا كبيرا من المؤرخين والباحثين، وجذبتهم قوة التحولات التي طرأت على المجتمع المغربي وأنظمته السياسية والاقتصادية، فغطوا بدراساتهم قضايا عديدة مرتبطة بمسألة الاستعمار، وسار هذا العمل التراكمي وفق منحى منهجي، ينطلق من الدراسات المونوغرافية التي تتعلّق إما ب: قضايا جزئية أو مناطق محددة أو مرحلة زمنية قصيرة داخل إطار زمني عام الذي هو حقبة الاستعمار، ويندرج العمل الذي نحن في صدد تقديمه ضمن كوكبة الأعمال المونوغرافية، إذ تتعلّق قضيته الأساس بمسألة مقاومة الاستعمار الإسباني (المقاومة المسلّحة والسياسية) في منطقة محدّدة هي شفشاون.
المؤلِّف والجوانب الشكلية للكتاب
الكتاب من تأليف د.محمد ياسين الهبطي، وهو متخصص في التاريخ المعاصر، يعمل كأستاذ في شعبة التاريخ والتراث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، وقد أصدر العديد من الدراسات والمقالات حول قضايا تتعلّق بحقبة الاستعمار الإسباني بشمال المغرب، وأيضا له مساهمات في تاريخ الأندلس، ويعد كتاب الحركة الوطنية بشفشاون 1936-1956 أول كتاب يصدر له (2002)، ثم تبعتها مساهمات أخرى سواء كانت كتبا جماعية أشرف على تنسيقها، أو شارك فيها، إضافة إلى الندوات والمؤتمرات المطبوعة والمسجّلة.
أما كتاب “مساهمة في دراسة تاريخ المقاومة المغربية للاستعمار الإسباني (مقاومة مدينة شفشاون نموذجا)” فصدر عن المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير سنة 2012، ثم أعيد طبعه مرة ثانية سنة 2016، وهو يقع في 339 صفحة، اختار الكاتب تصدريها بمقدمة تضع القارئ في السياق التاريخي للاحتلال الإسباني لشمال المغرب، ثم وزّع المادة الأساس للكتاب على قسمين:
- القسم الأول: يتناول مسألة الاحتلال الإسباني لشفشاون وتحريرها من المقاومة المسلّحة، وتندرج تحته أربعة فصول تتبعت أطوار تغلغل الاستعمار في منطقة شفشاون من قبيل الحماية إلى حدود سن 1926، حيث سيبدأ انحصار المقاومة التي قادها محمد بن الكريم الخطابي.
- أما القسم الثاني: فيتمحور حول الحركة الوطنية بشفشاون بين تكتيك المطالبة بالإصلاحات واستراتيجية تحقيق الاستقلال، ويتفرّع هذا القسم إلى خمسة فصول، ترصد سياق نشأة الحركة الوطنية في منطقة شفشاون بعد محاصرة المقاومة المسلحة التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي، كما يتتبع المؤلّف في فصول هذا القسم التحولات التي حدثت على مستوى اختيارات الحركة الوطنية بانتقالها من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة بالاستقلال، فضلا عن ذلك يسلّط الضوء على مظاهر المقاومة الشعبية في هذه المنطقة وإسهاماتها في التدافع مع السلطات الاستعمارية.
القضايا الرئيسة في الكتاب
ينطلق الأستاذ الهبطي في كتابه من الضغوطات الاستعمارية التي تعرّض لها المغرب إبان القرن 19م، وذلك في سياق التوسع الإمبريالي الذي قادته بعض الدول الأوربية الصناعية، واستهدف مجموعة من الدول كان المغرب أحدها، فاستغلت إسبانيا هذا الوضع محاولة إيجاد سبل للتدخل في شمال المغرب، خصوصا وأن الوضع الداخلي لم يكن على أحسن حال، بل إن الاضطراب كان سيد الموقف، متمثلا في صراعات قبلية، واحتجاجات على بعض العمال، وثورات مناطقية، ناهيك عن المشاكل الاقتصادية التي بدأت تبرز نتيجة التدخل الأوربي.
احتلال شفشاون ودور المقاومة المسلّحة في تحريرها:
يصف المؤلّف أحوال مدينة شفشاون قبل الاحتلال الإسباني، مسلطّا الضوء على وعورة التضاريس التي يتميز به موقعها، ومحدودية مساحتها وعدد سكانها، كما أن اقتصاد هذه المدينة التي تأسست بقلب جبال الشمال الغربي لا يختلف عن معظم المدن الصغيرة بالمغرب، فسكانها قامت معيشتهم بالأساس على الفلاحة، وبعض الحرف الصناعية التقليدية، إضافة إلى التجارة: الداخلية، والخارجية (مع باقي القبائل المجاورة)، هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي سمح بقابلية تأثّر المدينة بالتقلبات السياسية المركزية، وتجلى ذلك عقب وفاة السلطان الحسن الأول، حينما تسببت تحركات الملقب ب “بوحمارة” و القائد أحمد الريسوني في زعزعت استقرار المدينة، وتعرّضها لهجمات من القبائل المحيطة بها.
بعد فرض معاهدة الحماية على المغرب سنة 1912، واحتلال الجيش الإسباني لبعض المناطق في شمال المغرب بعد ذلك بسنة، ظلّت شفشاون المدينة الغامضة في منأى عن هذا الاحتلال، إذ خيّم على تفكير الإسبان في استعمارها تخوّف من قدسيتها عند المسلمين، ناهيك عن وعورة موقعها الجغرافي، إلا أن الأهمية الاستراتيجية لهذا المركز الحضري في قلب منطقة جبالة، سيدفع الإدارة الاستعمارية إلى احتلالها في أكتوبر 1920.
لم يكن تقدّم الجيش الإسباني لفرض سيطرته على المجال بالشمال الغربي سلسا، وإنما واجه مقاومة مسلّحة، يكشف الكتاب تفاصيلها، ابتداء من انتظام المجاهدين في رباط بن قريش تحت قيادة أحمد الريسوني، وانتهاء بتمكّن قوات محمد بن عبد الكريم الخطابي من محاصرة مدينة شفشاون، ما اضطر الجيش الاسباني للانسحاب منها بعد مفاوضات في نونبر 1924، ودخول المجاهدين الريفيين والجبليين، الذين نظموا سير الحياة فيها تحت قيادة امحمد الخطابي وهو أخ قائد المقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وظلّت هذه المدينة تحت سيطرتهم رغم توالي الغارات الإسبانية والفرنسية والأمريكية التي وإن أثّرت على طريقة العيش بالمدينة، إلا أنها لم تغيّر شيئا من الناحية العسكرية.
الحركة الوطنية في شفشاون نموذجا للنضال المحلي:
أفرد د. محمد ياسين الهبطي ما يزيد عن نصف الكتاب لإبراز مسار ووظائف ووسائل الحركة الوطنية بمدينة شفشاون، منطلقا من وسائل العمل الوطني في المدينة، بعد أن استعاد الإسبان السيطرة على المدينة في أعقاب استسلام قوات محمد بن عبد الكريم الخطابي في الريف سنة 1926، فانتهى العمل المسلّح، وفتحت صفحة جديدة في تاريخ المقاومة بوسائل أخرى.
لقد خصّصت الحركة الوطنية الشفشاونية عدّة وسائل على رأسها تنظيم تعليم وطني يعزّز الهوية والثقافة الوطنية، عبر تأسيس عدد من المدارس مثل مدرسة التعليم الديني (المعهد الديني) 1935، المدرسة الأهلية 1937، إضافة إلى الجمعيات الوطنية التي شكّلت امتدادا للجمعيات الوطنية بمدينة تطوان باعتبارها كانت عاصمة العمل الوطني ومستقر الإدارة الاستعمارية على حد سواء، كما تعزّز العمل الوطني في شفشاون بالصحافة التي شكّلت منفذا للأفكار الوطنية، وسبيلا للتعبير عن مشاكل المدينة وتطلعات أهاليها، ناهيك عن الإنتاجات الأدبية لشعراء وبلغاء المدينة الذين سخّروا أقلامهم لبثّ الفكر الوطني ومناهضة الاستعمار.
ويبيّن الكتاب كيف واكب وطنيو شفشاون التوجهات التنظيمية وساهموا فيها بشكل واضح، إذ شهدت المدينة تأسيس فروع لمختلف الهيئات التنظيمية التي قادت العمل الوطني بشمال المغرب (الهيئة الوطنية السرية، الهيئة الوطنية بشمال المغرب، حزب الإصلاح الوطني، حركة الوحدة المغربية)، كما شهد العمل الوطني بشفشاون مختلف التحولات والتقلّبات التي طرأت بمنطقة الاستعمار الإسباني شمال المغرب، فانخرطت في المطالبة بالإصلاحات على الصعيد المحلي، ثم انخرطت في التحوّل نحو المطالبة باستقلال المغرب، وأدى مناضلوها ضريبة هذا التحوّل ومسّهم ما مسّ غيرهم من المناضلين في باقي المدن من تضييق وقمع واعتقال.
خاتمة
يمكّننا هذا العمل التأريخي من استيعاب التجربة الاستعمارية في مستواها المحلي، كما يقدّم لنا كشفا موثّقا لمسار المقاومة المسلّحة في منطقة جبالة؛ والتي لا تخلوا من تعقيد بسبب طبيعة مكوناتها وتعدد أطراف الصراع بين الاستعمار وأتباع محمد بن عبد الكريم الخطابي وأتباع أحمد الريسوني، فضلا عن ذلك يقدّم هذا الكتاب صورة عن الحركة الوطنية بشمال المغرب خارج مركزها تطوان، وتحديدا في مدينة شفشاون، مؤكدا على شعبية العمل النضالي وقدرته على الانتشار، واعتماده على مناهضة الاستعمار الإسباني انطلاقا من مراكز ومدن مختلفة بالمنطقة الشمالية.