تقديم

في محاولة لتجاوز الفكر السائد عند البعض، من أن السابق لم يترك للاحق أمرا يضيفه حول مسألة ما، يقدم المؤلف مراجعات فقهية وأصولية لبعض القضايا المعاصرة، في ضوء مقاصد النصوص الشرعية. فما الهدف من الكتاب؟ وما المنهج / المناهج التي اعتمدها؟ وما أهم مضامينه؟ وهل من مزايا تفرد بها الكتاب؟ وما هي أهم الملاحظات حوله؟.

والكتاب الذي بين أيدينا والذي يحمل عنوان ” مراجعات فقهية وأصولية ” ـ سلسلة الأعمال الكاملة ـ لمؤلفه الدكتور أحمد الريسوني، نُشرَ ضمن إصدارات الدار المغربية للنشر والتوزيع ـ المغرب، الطبعة الأولى 1445ه/ 2024م، يقع الإصدار في حوالي 173 صفحة، ويتضمن في محتواه تقديما ومجموعة من عناوين بحوث مصغرة، ثم فهرست للمحتويات.

محتوى الكتاب

تجدر الإشارة إلى أن محتوى الكتاب هو عبارة عن أبحاث ومقالات علمية للمؤلف، جُمعت وطُبعت في كتاب جامع.

  • تقديم[1]: وفيه بيان لطبيعة الكتاب، فهو عبارة عن أبحاث ومقالات علمية متنوعة، والهدف منه، وكذا تَصور الكاتب لما ينبغي أن يكون عليه علمَا الفقه الإسلامي وأصوله، حيث أكد على الحاجة إلى تجديدهما بما يخدم حال المكلفين في كل عصر. أو بعبارة أخرى أن يكونا في خدمة قضايا الزمان، وأن يكون الزمان قريبا منهما كذلك. ويليه جملة من المقالات والأبحاث العلمية المتنوعة.
  • البحث الأول: العبادات المطلقة والعبادات المقيدة

ضمن هذا العنوان تمييز بين العبادات المطلقة والعبادات المقيدة. وفيه ضرب المؤلف مثالا على العبادات المطلقة، بقراءة القرآن وخاصة القراءة الجماعية، وبين مكانة القرآن الكريم ووظيفته، كما حث على تلاوته وتدبره، ثم عرض ما قيل حول هذا الموضوع من الآراء المختلفة خاصة تلك المنكرة لهذا النوع من القراءة، وناقش ما عرضه من الآراء مناقشة علمية رصينة، هذا ويتضح من خلال المناقشة التي أجراها المؤلف أنه يدعو إلى إعمال القراءة الجماعية للقرآن الكريم على كل حال. وعدم إهمالها.

  • البحث الثاني: “هل يجوز إقراض الفقراء من مال الزكاة لتمويل مشاريعهم الاستثمارية؟”

هذا البحث أصله سؤال وجه إلى فضيلة الدكتور أحمد الريسوني، من قبل إحدى الجهات العاملة على جمع أموال الزكاة.

سلك المؤلف طريقا في الجواب عن السؤال، حيث وقف عند الآية الكريمة، أية مصارف الزكاة[2]، مبينا أن أهل العلم من الفقهاء لا خلاف بينهم حول كون الآية تحصر الزكاة في الأصناف المذكورة فيها، لكن ـ وحسب نظره ـ فإن الآية لا تحدد الكيفيات، التي تصرف بها الزكاة إلى هؤلاء الأصناف، مما يفتح مجال الاجتهاد في تحديد وبيان تلك الكيفيات، ومن ذلك الحكم الشرعي المناسب لحالة السؤال. ثم عمد إلى مزيد تحقيق في مقتضى آية مصارف الزكاة، حيث سلك المسلك الآتي: الوقوف على مسألة التمليك في ارتباطها بدلالة اللام، وهنا توقف الكاتب عند جملة من أقوال الفقهاء التي تجتمع على كلمة أن دلالة اللام في الآية تدل على التمليك، ومن هؤلاء نذكر علاء الدين الكاساني (الحنفي)وابن العربي، والقرطبي، ثم قول الدكتور وهبة الزحيلي الذي جمع بعض الأحكام الفقهية المترتبة على القول بدلالة اللام على التمليك.

  • البحث الثالث: إثبات الشهور القمرية بالحسابات الفلكية

مسألة أخرى بسط القول فيها صاحب الكتاب، وهي إثبات الشهور القمرية بالحسابات الفلكية”. وفي هذه المسألة تناول الكاتب ما يلي:

ـ الإشارة إلى كون هذه المسألة من المسائل الفقهية الخلافية الشهيرة.

ـ طرحَ مجموعة من الأسئلة منها: هل تثبت رؤية الشهور القمرية بالعين؟ أم يمكن إثباتها بالحسابات الفلكية؟

ـ عرضَ الكاتب موقف المتقدمين من الفقهاء، والذي يُجْمَلُ في رفضهم للحساب الفلكي في اعتبار الرؤية نظرا لما كان عليه حال هذا العلم من الخرافة واللاعلمية.

ـ ذكرَ بعض المحاولات الاستشرافية في الأخذ بالحساب الفلكي في الرؤية لدى المتقدمين من الفقهاء.

ـ أكدَ على أن الكلام في هذا المقال عن المعاصرين الرافضين لاعتماد الحساب الفلكي مع صار إليه من الدقة العلمية اليوم، وأن رفضهم هذا ليس مبنيا على التشكيك في دقة وعلمية الحساب الفلكي، وإنما مرد رأيهم إلى السنة النبوية التي يرون أنها “عينت الرؤية البصرية وسيلة لإثبات الهلال، فهي بذلك وسيلتنا الشرعية، لا نحيد عنها..”، كما اعتمد بعضهم على حديث:” إنا أمة أمية لانكتب ولا نحسب ” في رفضهم الاعتماد على الحساب الفلكي. وبينَ الكاتب وجه الغلط في رفض الحساب الفلكي وفي الاستدلال، في سببين ذكرهما. (الكتاب ص 35)

ـ ذهبَ الكاتب إلى أن الفهم السليم للنصوص الشرعية في هذا الصدد يتوقف على معرفة الأدلة الشرعية وهي نوعان:” أدلة تشريعية، وأخرى تنفيذية”، ثم قرر أن الجمع بينهما في فهم مقصود الشرع أمر مطلوب من أهل العلم.

ـ رجحَ المؤلف الاعتماد على الحساب الفلكي، بحيث يرى أن العمل به أولى من إهماله.

  • البحث الرابع: منهج التسيير في الفتوى عند العلامة القرضاوي

من القضايا العلمية التي جادت بها قريحة المؤلف، مسألة “منهج التسيير في الفتوى عند العلامة القرضاوي” وضمنها تم التركيز على أن الطابع المميز لهذه الشخصية العلمية هو نهج التيسير، سواء من خلال الفتاوى التي تصدر عنه، وأوضح الكاتب أن خير دليل على مكانة التيسير في نهج الشيخ القرضاوي، تلك الانتقادات التي تلقاها من قبل خصومه حينما وصفوا كتابه الحلال والحرام في الإسلام بأن في الحقيقة حقه أم يسمى الحلال والحلال في الإسلام.

كما نجد أن التيسير ليس مجرد ميل نفسي أو منحى فكري حبب إليه، بل هو منهج وفطرة في الإنسان، ومؤسس على قواعد وضوابط علمية، وعلى هدى الشريعة ومقاصدها. تناول الكاتب منهج التيسير عند العلامة القرضاوي من خلال أربعة مباحث.

  • البحث الخامس: توظيف مقاصد الشريعة: آفات وملاحظات

عمل علمي آخر تضمنه الكتاب، عنون ب: “توظيف مقاصد الشريعة: آفات وملاحظات”. وفيه أكد الكاتب على مركزية إعمال مقاصد الشريعة الإسلامية في حياة المسلم وفي اجتهاد العلماء، وبين طبيعة الزلل الذي ينتج عن إهمالها من قبل المجتهدين، كما حذر من توظيف المقاصد للإجهاز عليها. ثم تناول بعض الآفات الشائعة في سياق توظيف المقاصد.

  • البحث السادس: قضايا الأعيان دلالاتها، صفاتها، مقاصدها

محور آخر من محاور هذا الكتاب، والذي عنونه المؤلف ب: قضايا الأعيان دلالاتها، صفاتها، مقاصدها. وضمن هذا المحور تطرق الكاتب وفي مقدمته إشارة مهمة تتعلق بكون موضوع قضايا الأعيان، من المواضيع الأصولية المرتبطة بفهم السنة وكيفية تنزيلها.. ثم ذكر مصطلحات ـ لها نفس معنى قضايا الأعيان ـ وهي: وقائع الأعيان، حكايات الأعيان، وقضايا الأعيان.

وحول تعريف قضايا الأعيان، يقول الكاتب: “هي حالات فردية خاصة، أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم حكمها الاستثنائي الذي يصلح لها ولا يصلح لغيرها.” (الكتاب ص 112)

تساءل الكاتب جملة من الأسئلة في هذا الصدد، نذكر منها: “ما الفوائد العلمية والتشريعية لوجود قضايا الاعيان، ولتمييزها عن غيرها؟”.

  • البحث السابع: الخلافة الراشدة مطلوبة وممكنة في كل زمان ومكان، قراءة جديدة في حديث الخلافة والملك

محور آخر من محاور الكتاب وهو” الخلافة الراشدة مطلوبة وممكنة في كل زمان ومكان، قراءة جديدة في حديث الخلافة والملك”.

يتضح من خلال العنوان أن هذا البحث عبارة عن قراءة جديدة في حديث الخلافة والملك، وقد عرض الكاتب حديث الخلافة والملك عرضا كاملا.

بين الكاتب طبيعة الاعتقاد السائد حول هذا الحديث، وهو أن الخلافة والملك سيمر بمراحل من الملك الجبري والعاض، بعد مرحلة النبوة والخلافة الراشدة، ثم ترجع في آخر الزمن خلافة راشدة من جديد.

  • البحث الثامن: العلامات الفارقة بين الحكم الراشد والحكم الفاسد

من مقالات الكتاب موضوع ” العلامات الفارقة بين الحكم الراشد والحكم الفاسد”

ويعتبر موضوع الحكم المشار إليه في المقال من المواضيع المهمة، فهو سيف ذو حدين، إما أن يكون طريقا لجلب المصالح للخلق ودفع المفاسد عنهم، وإما أن يكون طريقا إلى جلب المفاسد ودفع المصالح عن الخلق، ومن هنا كانت الحاجة ماسة أولا إلى تحرير مفهومي للفظ ” الحكم” ودراسته دراسة مصطلحية تتحقق من المفهوم لغة واصطلاحا وتتقصى استعمالات في القرآن والسنة، مع التأكيد على حاكمية الدلالة الشرعية على باقي الدلالات الأخرى، فالمعنى الشرعي هو الأصل المؤسس لدلالة المصطلح، وإن من شأن استيعاب هذا المفهوم انضباط الحكم وسيره على هدى من الله، ويكون الحاكم بهذا المعنى قريبا من الله بعيدا عما يخالف الشرع والدين، على الأقل، والعكس بالعكس يعرف، فغير السائر على مقتضيات الدلالة القرآنية يكون في الغالب بعيدا عن هدي الله فيما يتصرف فيه من الحكم ويعمل فيه.

  • البحث التاسع: ولاية المتغلب بين الفقه والتاريخ

مقال آخر من مقالات الكتاب بعنوان “ولاية المتغلب بين الفقه والتاريخ”. وغَرضُ الكاتب من المقال هو تفكيك وتحليل لقضية القول بشرعية الحكم القائم على القوة والغلبة.

بدأ المناقشة بعبارة سماها: “ليست من الإسلام ” وهو يقصد بذلك أن إمامة المتغلب لم ينص على مشروعيتها لا الكتاب ولا السنة ولا هي من عمل الصحابة الكرام. بل الطريق الشرعي لتولي الحكم هو الشورى التي نص عليها الشرع في الآيات والأحاديث، وكانت عمل الصحابة لاختيار أبي بكر بعد وفاة النبي عليه السلام.

وفي عنوان فرعي آخر اصطلح عليه الكاتب: “بين الفقه والتاريخ” ومما جاء فيه أن الفقهاء وجدوا أنفسهم أمام واقعة إمامة المتغلب التي ذهبوا إلى شرعيتها والقول بنفاد أحكامها. وإذا كان من السهل اتهام العلماء بتهم مخالفة أمر الشرع في قضية الحكم والإمامة هاته. فإن للفقهاء مستندات واعتبارات حكمت آراءهم واجتهاداتهم تلك، وهي كما أجملها الكاتب خمسة كبرى (الكتاب ص 168-169)، من بينها أن الواقعة ضرورة والضرورات تبيح المحظورات، ومع هذه الاعتبارات فقد أحاط الفقهاء قبولهم إمامة المتغلب بشروط جمعها الكاتب في أربع كبرى منها: “أن يكون تغلبه واقعا ضد حاكم متغلب …” (الكتاب ص 168)

خاتمة

صفوة القول، لقد أبرز الكاتب هدفه من الكتاب، وبسط أهم محتوياته وفق منهجية قائمة على المراجعة الفقهية والأصولية لبعض القضايا المعاصرة.

أكد الكتاب على أن كل مسألة لا تبقى مشكلة لا حل لها، وبذل جهده لتأكيد ذلك، يدل لذلك مجمل الخلاصات العلمية الجديدة ـ أحيانا ـ التي توصل إليها في معالجته للقضايا المطروحة في الكتاب، ولكي يتحقق المزيد من الإجابات عن القضايا المعاصرة ـ خاصة ـ

لا بد من مواصلة طرح الأسئلة وتعميق البحث وتقليب النظر في نصوص الشريعة الإسلامية وفق منهجية تقوم على توليد الأفكار والإجابات من داخل تلك النصوص الشرعية.

وعموما، فإن أفكار وقضايا الكتاب العلمية، هي من قبيل المقدمات والمداخل لمشاريع بحوث علمية مستقلة بذاتها. ذلك أن الكتاب ـ في نظري ـ سار على طريق رسم منهجية في تحليل القضايا العلمية أكثر منه قدم المعارف ذات الصلة بكل قضية. فبإعمال منهج الكاتب يمكن الوصول إلى نتائج علمية جديدة لم يتطرق إليها الكتاب الذي بين أيدينا.

المراجع
[1]  الريسوني أحمد، مراجعات فقهية وأصولية، ـسلسلة الأعمال الكاملةـ الدار المغربية للنشر والتوزيع ـ المغرب، الطبعة الأولى 1445ه/ 2024م ، ص 5ـ 6.
[2] قال تعالى:"إِنَّمَا اَ۬لصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُوَ۬لَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِے اِ۬لرِّقَابِ وَالْغَٰرِمِينَ وَفِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ وَابْنِ اِ۬لسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ اَ۬للَّهِۖ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ " (التوبة، 60)