توطئة

وصف العديد من الباحثين والمهتمين، كتاب “كنت اتحاديا- سيرة ذاتية” لعبد الجليل باحدو، بالجرأة والإثارة، والمختلف. لأنه لا يكتفي بسرد الذكريات، بل يقتحم مناطق مسكوت عنها داخل تاريخ الاتحاد الاشتراكي، ويكشف برؤية نقدية صريحة عن أسرار وتفاصيل مسار الحزب وبعض قياداته السابقة والحالية.

وقد عمل المؤلف على التحليل بالصدق والجرأة، أثناء سرد روايته والمحطات النضالية التي عايشها. وبهذا جاءت شهادته من الداخل، ووضعت القارئ والمهتم أمام أسئلة جوهرية حول الفكرة الاتحادية، ومسارها، وما آلت إليه من تحولات فكرية وتنظيمية.

كتاب “كنت اتحاديا” ليس فقط سيرة ذاتية، بل وثيقة فكرية وسياسية تستحق القراءة والتأمل، خصوصا لكل من يهمه تاريخ اليسار المغربي وتطور الحركة الاتحادية. والكتاب من تأليف عبد الجليل باحدو، أحد مؤسسي الحركة الاتحادية وأحد الوجوه البارزة في تاريخ اليسار المغربي، يُعد من بين أبرز الإصدارات السياسية والفكرية التي رأت النور خلال أكتوبر 2025م. ويقع في 494.

مضامين الكتاب

يؤكد المؤلف من خلال هذا العمل أن الكتابة عن الذات ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لفهم تجربة جماعية ساهمت في تشكيل الوعي السياسي الحديث بالمغرب. مشدداً على أن كثيراً من الصفحات التي تُروى عادة من الخارج، جاء هذا الكتاب ليحكيها من الداخل، بصدق من عاش التجربة لا من سمع عنها.

لم يكن يدور في خلده يوما، أن يكتب مذكرات أو سيرة ذاتية اعتقادا منه، على أن حياته كانت عادية لم تعرف أحداثا ذات قيمة تاريخية، أو سياسية أو اجتماعية، يمكن أن تفيد أو تثير اهتمام المؤرخين، أو الشباب الذين لم تعد لهم علاقة بالسياسة ولا بالقراءة؛ حتى إذا كان شهر فبراير 2013م، اتصل به ابن الصديق حسن العلوي -رحمه الله، الذي اشتغل معه ضمن طاقم التحرير جريدة “المحرر”، في سبعينات القرن الماضي ليسأله عما إذا كان اطلع على الحوارات التي أجرتها جريدة “الأيام” الأسبوعية في باب “ذاكرة الصحافة المغربية”، مع المرحوم عبد الله بوهلال، الذي ارتبط بصحافة الاتحاد كموظف حزبي. فكان ذلك منطلقا لكتابة عدد من المقالات، صحح فيها ما شاب ذاكرة بوهلال من تناقضات وادعاءات. وتحدث فيها عن تجربته في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد الاشتراكي، وممارسته للنشاط الصحافي بجريدة “المحرر”. وعندما جمع المقالات التي لم يعد يتذكر عددها، ألح عليه عدد من الأصدقاء في مقدمتهم إبراهيم الباعمراني لنشرها في كتيب، إلا أنه تلكأ وتردد معللا ذلك أنه ليس باحثا ولا مؤرخا ولا منظرا، ولا حتى أديبا يكتب الرواية. (تمهيد الكتاب، ص: 6)

وقد اختار في كتابته البساطة والتواضع والكتابة التي تتجه رأسا إلى الغرض والموضوع. فما يسرده المؤلف، لا يخلو من أحكام ذاتية، قد يتفق أو يختلف معها كثير من أعضاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد الاشتراكي ونقابة الكونفيدرالية الديمقراطية للشغل (ك د ش) من جيله، الذين لا يزالون على قيد الحياة أو ممن توفوا وبقي على صلة بأولادهم. لقد حاول أن يكون موضوعيا جهد ما استطاع، وحاول أن يتجرد من الذاتية وأحكامها، وبقدر ما يسمح به تكوينه ونفسيته.

والذي آلمه ما قام به المتاجرون بالنضال والثورة، ودفعوا بالعديد من المناضلين المؤمنين الأبرياء إلى مراكز التعذيب السرية منها والعلنية، وإلى السجون وحتى إلى حائط الإعدام، ليصبحوا في ما بعد قضاة في لجنة الإنصاف والمصالحة، فتصالحوا مع المخزن ومع أنفسهم، وأنصفوا جيوبهم بالتعويضات المجزية عن المنفى الاختياري في الجزائر و دمشق وطرابلس وبراغ وباريس.

إن ما حرضه على الكتابة، هو قول الحقيقة في أحداث ووقائع عاشها في مسيرته الحزبية والنقابية والصحفية والجمعوية، بمنتهى الجرأة والصدق والبساطة والوضوح بعيدا عن أي تصفية حسابات أو مزايدات، لم يعد السن أو المرحلة يقتضيانها. (تمهيد الكتاب، ص: 7)

عايش الكاتب أحداثا، ولحظات مشرقة ومظلمة، ويصعب المحافظة على الجزئيات والتفاصيل، خاصة التاريخ وتحديد الأشخاص الحاضرينز لقد عاصر ثلاثة ملوك، وهي مرحلة حبلى بأحداث وتطورات الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري في المغرب. مرحلة اتسمت بالنضال من أجل الاستقلال، وعودة محمد الخامس من المنفى. مرحلة خاب فيها أمل شعب في الاستقلال. فترة شهدت عنفا دمويا رهيبا لتركيز حكم أوتوقراطي فردي… وعايش مؤامرة 1963، وانتفاضة مارس 1965 ومجزرتها واعتقالاتها، وإعلان حالة الاستثناء، واختطاف المهدي بن بركة، واغتياله، وتسلسلت الأحداث بهزيمة العرب سنة 1967م، واعتقال المحجوب من الصديق الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، ومبادرة عبد الرحيم بوعبيد لإعادة اللحمة إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فمحاولة انقلاب الصخيرات، واجتماع 30 يوليوز 1972، ومؤامرة الطائرة الملكية، وأحداث مارس 1973 ومحاكماتها، والمؤتمر الاستثنائى للاتحاد 1975، وإنشاء الكنفدرالية الديمقراطية للشغل 1979، وإضراب 20 يونيه 1981م، وغيرها من الأحداث. (تمهيد الكتاب، ص: 8)

كان ارتباط المؤلف بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كجيل آمن بالتغيير، وعقد كل الأمل على المبادئ الثورية والاشتراكية، وبناء مجتمع العدالة والديمقراطية والحداثة. كان مع ثلة من رفاقه متشبعين بأحلام الحزب وشعاراته عن الحرية والديمقراطية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وبناء مجتمع جديد. وانتقد ما آل إليه الاتحاد الذي أصبح حزيبا مخزنيا. أما البديل النقابي، فصار إقطاعية يتوارثها أعضاء قبيلة القائد، الذي اضطره المرض للتخلي عن التحكم فيها إلى أن رحل إلى دار البقاء.

إن ما يعيشه جيلنا من خيبات وانكسارات هو ما يحمل بعض المناضلين على استرجاع الماضي ليس بغاية؛ تقديم نقد ذاتي، لم يعد له مجال ولا أهمية، وإنما بغاية التأمل والجهر بما يعتمل في النفس، عله يكون بلسما ودواء للجرح العميق الذي حمله… فحديثه عن الاتحاد هو حديث عن جيل كامل. (تمهيد الكتاب، ص: 9\10)

خاتمة

يؤكد المؤلف من خلال هذا العمل أن الكتابة عن الذات ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لفهم تجربة جماعية ساهمت في تشكيل الوعي السياسي الحديث بالمغرب، مشدداً على أن كثيراً من الصفحات التي تُروى عادة من الخارج. وقد جاء هذا الكتاب ليحكيها من الداخل، بصدق من عاش التجربة لا من سمع عنها.

ويُعد “كنت اتحاديا” وثيقة فكرية وسياسية تستحق القراءة والتأمل، ليس فقط لرمزية كاتبها، بل لما تحمله من رؤية نقدية جريئة تسائل الماضي وتستشرف المستقبل، وتفتح النقاش حول معنى الالتزام السياسي في سياق مغربي متحوّل.