المحتويات
بين يد الكتاب
كانت الكتابة التاريخية وما تزال آلية لحفظ وقائع الماضي وأحداثه، وبهذا النوع من الكتابة خلّدت أمم ومؤسسات وأفراد صفحات من ماضيها، ليحفظ في كتب تنشر وتقرأ. وقد نشط هذا النوع من الكتابة عند العرب منذ القرن الثالث الهجري بعد ازدهار الدولة العباسية، حين وُضعت الدواوين، وازدهرت الترجمة، وتطورت صناعة الورق، فتمّ تجاوز الرواية الشفوية والدخول إلى مرحلة التدوين. ثم ما فتئ موضوع الكتابة التاريخية بمناهج ونظريات يتطور ويزدهر ليبلغ مداه خلال القرنين الماضيين.
ومع تطور الثقافات والمناهج، كان حظ هذا النوع من الكتابة معتبرا، تحدو أصحابَها رغبةٌ أكيدةٌ في تخليد الأحداث والوقائع دون أن تكون معايشتها شرطا لهذه الكتابة، فجاءت المؤلفات والكتب تترى، ليكتسب بعضها مصداقية جعلت منها مصادر أساسية في مجال التاريخ، لا يمكن تجاوزها أو الاستغناء عنها. واستطاعت الكتابة التاريخية مع هذا التطور أن تتحرر وتتخلص من (عباءة المؤرخ) الذي كان اهتمامه منصبا على التاريخ السياسي والدبلوماسي والعسكري ودراسة الوقائع في علاقة مع النخب ومركز السلطة لا غير. ثم صنفت كتب كثيرة كان معظمها عبارة عن شهادة على عصر، أو مرحلة، أو منطقة، أو واقعة، أو حدث، بل إن بعضها جاء مزيجا من السيرة الذاتية للكاتب والتاريخ المسجل في فترة ما من الفترات. ويبدو أن كتاب “صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي” للأستاذ محمد بنسعيد آيت ايدر – موضوع هذا التقديم – يدخل ضمن هذا النوع الأخير من الكتابة.
تقديم الكاتب
ولد محمد بن سعيد آيت ايدر يوم1 يوليو 1925 بقرية تين منصور بإقليم شتوكة آيت باها، حفظ القرآن الكريم وعددا من المتون في اللغة والفقه، وتلقى تعليمه في عدد من المدارس العتيقة بمنطقة سوس بداية أربعينيات القرن الماضي منها مدرسة سيدي محمد الشيشاوي ومدرسة سيدي أبو عبد الله، لينتقل إلى مدينة مراكش لمتابعة تعليمه في جامع ابن يوسف. انخرط مبكرا في رفقة طلاب الجامع في نضالات واحتجاجات ضد سياسات الباشا التهامي لگـلاوي ليتمّ إبعاده إلى مسقط رأسه، ومن هناك واصل نضاله مساهما في تأسيس مجموعة من خلايا الكفاح الوطني المسلح، وفي سنة 1954م التجأ إلى سيدي إيفني ليواصل منها عمله النضالي، ثم انتقل إلى تطوان ليساهم في التحضير للقاء مدريد سنة 1956 لقيادة المقاومة وجيش التحرير. وفي سنة 1957 عاد إلى الجنوب ليتولى هناك منصب المسؤول السياسي لقيادة جيش التحرير، وشغل عضوية المجلس الوطني للمقاومة. تعرض للاعتقال سنوات 1960 و1963 مع عدد من القيادات الوطنية، وغادر المغرب سنة 1964 ليستقر أولا بالجزائر، وحوكم بالإعدام غيابيا. غادر الجزائر في اتجاه فرنسا، وبها أشرف مع عدد من اليساريين على تأسيس منظمة 23 مارس. عرف كأحد المعارضين للنظام المغربي، مما كلفه حكما غيابيا بالإعدام شمله مع مجموعة من رموز اليسار المغاربة.
عاد إلى المغرب يوم 8 مارس 1981م بعد عفو ملكي، ليشرف على تأسيس منظمة العمل الديمقراطي الشعبي سنة 1983م، وكان أول أمين عام لها. وخاض باسمها غمار الانتخابات البرلمانية، فانتخب نائبا برلمانيا عن إقليم شتوكة أيت باها. له إسهامات في توحيد صفوف اليسار المغربي ومازال إلى اليوم أكبر رموزه، أسس سنة 2002 حزب اليسار الاشتراكي الموحد وتولى مهمة رئاسته الشرفية. له حضور إعلامي وسياسي وجمعوي، نشر عددا من المقالات وأجرى كما هائلا من الحوارات، وله كتاب “صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي” موضوع هذا التقديم.
تقديم الكتاب
صدر الكتاب في طبعته الأولى سنة 2001 عن مطبعة صوماگـرام في 299 صفحة من القطع المتوسط، وهو من تقديم المرحوم الأستاذ عبد الله إبراهيم الذي اعتبر الكتاب مبادرة طيبة “حاول الرفيق الأخ محمد بن سعيد آيت ايدر أن يسجل بها شهادته على التاريخ من خلال فترة صعبة ومعقدة من فترات تاريخنا الوطني المعاصر”[1]، ثم قدم سردا تاريخيا سريعا لأول مبادرة استعمارية للشواطئ المغربية انطلاقا من الساقية الحمراء ووادي الذهب وجزر الكناري وما صاحب ذلك من وقائع وأحداث… أمّا إبراهيم ياسين فكتب تحت عنوان “شهادة” أن ” الكتاب يدخل ضمن صنف المذكرات التاريخية التي يهتم كاتبها ليس بسرد أطوار حياته الشخصية، بل بالقضايا والوقائع التاريخية التي شارك في صنعها أو عايشها عن كتب كشاهد رئيسي عليها”[2] ، معتبرا أن الكتاب جاء “ليساهم بقوة في سد فراغ تعاني منه المكتبة التاريخية المعاصرة المغربية” منوّها بــ “حرص المؤلف على التقيّد بالموضوعية والابتعاد عن لغة التحامل على أي طرف من أطراف الصراع دون السقوط في المحاباة أو المجاملة”[3].
أما عمل الكاتب محمد بنسعيد آيت ايدر فيبدأ بالمقدمة التي حرص من أول سطر فيها، أن يحدد الإطار المكاني لموضوع الكتاب، ألا وهو قبيلة آيت باعمران والصحراء المغربية، ليبني مقدمته على مفاوضات “إكس ليبان”سنة 1955م التي أكد أنها “لم تكن مريحة لكل الأطراف الوطنية المغربية” والتي كان من نتائجها “ما عرفته الأوضاع السياسية بالمغرب غداة الاستقلال من تطورات”. مما سهّل التحالف بين الاستعمارين الإسباني والفرنسي في معركة اكوفيون بتاريخ 10 فبراير 1958، والتي لم تستطع إيقاف عزيمة جيش التحرير وكفاحه من أجل استكمال وحدة البلاد، مما شكل ملحمة حاول آيت ايدر أن يجمع فصولها في هذا الكتاب الذي يعتبره “خطوة أولى ستتلوها خطوات أخرى عن جيش التحرير في الشمال، وكذا عن المقاومة المغربية وفصائلها”[4].
وما تبقى من صفحات الكتاب فقسمة بين:
- مدخل تمهيدي وهو من 30 صفحة ألقى فيه الكاتب الضوء على المحطات الأساسية في معركة التحرير المغربية إلى ظهور بوادر التوجه نحو العنف والعمل المسلح، وذلك في شكل فقرات مختصرة وتحت عناوين قاصدة تقدّم صورة مكتملة الأركان عن مرحلة تمتد لأكثر من نصف قرن.
- الفصل لأول: ظروف انطلاقة جيش التحرير في الجنوب المغربي (ص 47-80).
- الفصل الثاني: جيش التحرير في مواجهة الفرنسية بموريطانيا والصحراء الشرقية (ص 81-122).
- الفصل الثالث: مواجهة التحالف الفرنسي الإسباني – خلاصة المعارك معهما (ص 129-191) وهي فصول غنية بالمعطيات والوقائع وتفسير أحداث والكشف عن أسماء إلخ، إنها مادة تاريخية خطها رجل لم يعتمد الرواية الشفهية، وإنما كان أحد الفاعلين الحقيقيين وأحد صناع القرار في محطات حاسمة من تاريخ هذه المرحلة. يذكر أن الكتاب معزز بملحقين اثنين: الأول خاص بوثائق تاريخية عبارة عن تقارير لاجتماعات قيادة جيش التحرير، ومشاريع أوراق تنظيمية، وتغطيات صحفية، وتقارير مالية، ونداءات وبيانات ورسائل… أما الثاني فيضمّ صورا فردية وجماعية توثق لمراحل مختلفة لهذه المرحلة.
على سبيل الختم
الكتاب يسلط الضوء على مرحلة حساسة من تاريخ المغرب المعاصر، تعددت فيها زوايا النظر، ومناهج البحث تبعا للانتماء السياسي والخلفية الفكرية والثقافية، وتبدو شهادة آيت ايدر واحدة من الشهادات الوازنة لكونه أحد الفاعلين الأساسيين في عملية تأسيس جيش التحرير بالجنوب، وأحد المواكبين لكل الوقائع والأحداث ذات الصلة بالموضوع.
وقبل ختم هذا التقديم نأسف لالتحاق المناضل محمد بنسعيد آيت ايدر بالرفيق الأعلى قبل أن يكمل الإدلاء بشهادته على هذه المرحلة -كما وعد-، وأن يسلط مزيدا من الضوء على بعض الخفايا، وخاصة ما له علاقة بفصائل جيش التحرير في مناطق أخرى من المغرب وما خفي من أسرار التأسيس والحل والإدماج.
رحمه الله تعالى رحمة واسعة[5].
المراجع
[1] محمد بن سعيد آيت ايدر: صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي، صوماكرام 2001، ص 5[2] محمد بن سعيد آيت ايدر: صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي، مرجع سابق، ص 9.
[3] محمد بن سعيد آيت ايدر: صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي، مرجع سابق، ص 9.
[4] محمد بن سعيد آيت ايدر: صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي، مرجع سابق، ص 14.
[5] سأحضر عصر هذا اليوم الأربعاء7 فبراير 2024 جنازته بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء.