المحتويات
تمهيد
يرنو تقديمنا هذا للكتاب[1] إلى أن يتَّخِذَ من الدعوة إلى ضرورة فهم تاريخ مدينة تطوان وماضيها التليد وديمومة اتّصال شواهد التاريخ بوقائع الزمن الراهن، وإعادة ترميم تصدّعات الاستيعاب التاريخي التخصّصي الذي أحدثَته المقرّرات المنقوصة والمُعطيات المبتورة والمُدد الزمنية التدريسية غير الكافية على التحصيل المتوازن للأجيال لحِفظ ذاكرتهم وذاكرة مدينتهم وتاريخ بلدهم؛ (تتخذُ) مدخلاً مُقتَضباً لضبط إحداثيات جملةٍ من التحولات التاريخية المهمّة التي حفَرت عميقاً في جِدار تاريخ المدينة وبِنية مُجتمعها الثّـقافي والسّياسي والحضاري.
سياق الكتاب
بالنّظر إلى الوظيفة العلمية التي يُؤدّيها الكتاب للقراء عموما، وللمتخصصين خصوصا، ولطلبة شعبة التاريخ والحضارة على وجه أخصّ؛ فإنَّ سياقات كتابتِــهِ يحتفظ المؤلِّف بإيرادها كاملة، إلا أنّنا نرى أنّ سياق توفير كتاب يهتمُّ بما هو محلي، والسّعي لتمكين طلبة التاريخ من مادة معرفية تاريخية تخصصية رهنَ إشارتهم كانَ من وراء إعداد وتخريج هذا الكتاب الهام.
الموضوع الأساسي للكتاب
تحاوِل مائتان وأربعون صفحة أنْ تُقدِّم للقارئ مادّة تاريخية تحتفي بالتّاريخ المحلّي، وتبْسُطَ لمحات عن صفحات تاريخية مُضيئة عن مدينة تطوان المغربية الأندلسية، وتسعى إلى تخصيص حيِّزٍ أكبَر للمدينة التي عَدَّها المُؤلٍّف أختَ غرناطة وحاضِنة الحضارة المغربية الأندلسية.
نُتابِع تتالي الأوراق والأبحاث العِلمية ضمن دفَّتَي الكتاب، والتي سَلَّطت الضوء على مُختلف الأوضاع والأحوال والأبعاد السياسية والثقافية والعُمرانية والاجتماعية والعِلمية لمدينة تطوان، وركَّزَت جُهودها على تِبيان التلاقحُ الحضاري العريق الذي جَعَل من المدينة مَنارةً حضارية وتراثاً إنسانياً عالميا، اشترك فيه المكوّن الإسلامي (المغربي والأندلسي) بالمكوِّن المسيحي واليهودي و”البربري” والتّركي.
المنهَج المُتَّبَع في عرض الكتاب
لا نكونُ مجازِفين إذا اعتبرنا أنّ التوصيف السليم من وجهة نظرنا للمنهج المُتّبَع في تقديم الكتاب وعَرض مضامينه؛ هو المنهج الوصفي التحليلي، الذي اعتمَده الكاتِب بغَرض معايَنة مضامين مجموعة من الأبحاث والدّراسات والمخطوطات، وتتبُّعِ معالِم إضافاتها النوعية في مسار التأليف أو الحديث عن حضارة تطوان وتاريخها. فرغم وجود الوحدة الموضوعية للكتاب، ومحاولاتِ الوقوف على الإصدارات التاريخية والتّنقيب من داخلها على ما يخدم الفكرة العامة للكتاب؛ إلاّ أنّه يُلاحَظُ غياب أدوات الربط والتّحيين بين محاور وأوراق الكتاب في كثير من الأحيان، كما يحضُر ويغيبُ البُعد التحليلي للمُــؤلِّف وحضوره الذاتي ومناقشته لمضامين ما عمِل على تقديمه ضمن فقرات كتابه.
تقسيمات الكتاب ومضامينه
حَرِصَ المؤلِّف على تقسيم كتابه إلى مقدِّمة ومحورين أساسيين وخاتمة.
إنّ الكتاب الذي يُعدُّ في الأصل عبارة عن مجموعة من الدراسات التاريخية والمُلحقات البحثِية التي أعِدَّت على فتراتٍ زمنية متباعِدة، وفي إطار سياقاتِ متعددة، ركّزها الكاتِبُ في كتابٍ متوسِّط الحجم، ليقدِّم للقرّاء باقةً من الأبحاث التاريخية الجادّة التي ترشُف من رحيق تطوان الحضاري، الغنيِّ والمتنوِّع الروافد على حدّ تعبيره. ولرَفْدِ المكتبة المغربية بمُنتَجٍ علمي يُقارِب الموضوع بعُمقٍ مغربي أندلسيٍّ، يُقدِّم الظاهرة المحلية ويَدرسها، ويُسلّط الضوء عليها.
المحور الأوّل: تطوان؛ حاضنة الحضارة المغربية الأندلسية.. وأبحاثٌ أخرى:
خَصّصه الدكتور الشّريف لدراسة كل ما يتعلّق بالمدينة المغربية تطوان في إطار “ميكرو تاريخ”، أخْضَع فيه المدينة لمِجهر الدِّراسات التاريخية والعِلمية الأجنبية والمغربية، حيثُ اتّخذ للمحور اسماً دالاًّ (تطوانيات) ليندَرِج بعد ذلكَ تحت هذا المُسمّى كل ما له ارتباطٌ بخِدمة مَسعى الكتاب وفكرته الأساسية. فتطوان مدينة مغربية الأصل والموقِع، عالمية التشكُّل والتطوّر، إنسانية الامتداد في الزمن الماضي والحاضر، ومتوجِّهة نحو المُستَقبل، يَبرز فيها ذلكم التلاقح الثقافي والحضاري الذي راكَمَتْهُ منذ زمنِ بعيد، وتتجلَّى في مِعمارها وعمرانها مظاهِر وأمارات المشْتَرَك الإنساني، إذ يُطالعك عُمرانها بحضور الإرث الأندلسي والإضافات التركية واللّمسة اليهودية والخُصوصية المغربية الفريدة، مما يدلُّ على تجذُّر التواصل الحضاري فيها وقُدرتها الكبيرة على استيعاب كل التّشكيلات الأخرى[2] وانفتاحها على مُختلف الأطياف والتّعبيرات المُجتمعية والثقافية والسياسية التي قَبِلت بها في حدود احترام الهوية العامة للمدينة وخصوصية سكّانها وطِباعِهم.
يحرِص الكاتب على إبراز التأثير الأندلسي في الميدانَين العُمراني والمِعماري، وذلك برصْدِهِ لديناميات الهجرات الأندلسية إلى المغرب، وبالأخص أدوار الأندلسيين في بناء وتجديد مدينة تطوان، وتَجْلِية مظاهِر تأثيراتهم في الميادين المعمارية والثقافية والهندسية والعِلمية، ومَقدُراتهم العالية على طَبْعِ حياة أهل البلد بطِـباع قاطِني غرناطة الضّائعة، لا من حيث المأكل والمَشرب والمَعيشة وطقوس الأفراح والأتراح، ولا من ناحية البُعد الجمالي في الحياة الخاصّة بالدُّورِ والمنازِل؛ إلى ما غير ذلك من الطِباع والخصال التي أضحت مع الزمن ميزة المُجتمع التطواني الكبير.
كما لم يُفوِّت الكاتب ضِمنَ هذا المحور أنْ يَـلِج إلى التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمدينة المغربية الأندلسية، مُذكّراً إيّانا بأهمّ مكوّنات الثقافة الأندلسية بتطوان، مِن ذِكر أسماء العائلات التي توالَت على المدينة منذ أُولى الهجرات الموريسكية الأليمة، وتَفرُّد المدينة دون سِواها من مدن البلد بخصائص همَـّت كُلاًّ من مجال الطبخ واللباس والجمال والطَّرز التقليدي واللغة والعادات والاحتياط والاقتصاد وعوائد المعاش وأحوال أخرى للمجتمع الذي انصهر في بوتقة واحدة شكّلت كُتلة مجتمعية أندلسية – مغربية.
ولكيْ يُضفي الكاتب مزيداً من الأكاديمية والتخصصية لكتابه؛ قام بإدراج دراسة في كتاب مغربيٍّ خالص يُعنى بشؤون التاريخ المحلِّي ويقوِّي القضية المركزية للكتاب، وذلك بتقديم قراءةٍ مُركَّزةٍ في كتاب “اللّسان المُعرِب عن تاريخ وسياسة مُلوك المغرب”[3] لصاحبه الفقيه محمد المُرير التطواني رحمه الله، بما يُشكّله من لبنة مهمّة في صرح الإنتاجات العلمية التي انصرَفت إلى دراسةِ التاريخ المحلي لمدينة تطوان في تفاعُله مع ما هو قُطْري وعالمي. وقد حرص الدكتور محمد الشريف على إيرادِ محتويات الكتاب كما وضعَها الفقيه المرير، وذكَّر بظروف تأليف الكتاب وسياقاته، وموقِع مدينة تطوان في تاريخ الشيخ المرير.
تَوَقَّفَ الباحِث بتأنِّ على الجانب المنهجي فيه ونزوعات الفقيه المرير نحو الإصلاح في الكتابة التاريخية المغربية، حيثُ اعُتبِر من قِبل المؤلِّف رجُلاً ميّالاً إلى كتابةِ تاريخٍ متجاوِزٍ للحوليات الموجودة وللمأثورات التاريخية التي دَرَج على تدبيجها نخبةٌ من الكَتَبة والمؤلِّفين في حقل التاريخ المغربي، حيث يَستلهم الفقيه المرير الماضي ويَستوعب الحاضر ويَنخرط في دينامية التَّفكير العلمي والمعرفي في المُستقبل، بحدَس المؤرِّخ وأدواته ومنهجياته وطرائقه. وقد كان الهدف من اتخاذ كتاب “اللسان المُعرب..” موضوعاً للدراسة والبحث؛ التعريف بأهمّ إسهامات أحد علماء تطوان في عهد الحماية، أكثر منه هدفاً يَبتغي القيام بنقْد علمي أو تحليل منهجي ومضموني مُسهِب للكتاب.
استطرَد الدكتور الشريف في تعزيز كتابه بضمِّ مجموعة من الرسائل الهامّة التي غطّت فترة زمنية امتدّت من 1929 إلى سنة 1962، بَين عَلَمين وطنيين من عُلماء المغرب، الأستاذ محمد داود والفقيه الكبير محمد المختار السوسي رحمة الله عليهما، والتي استَهدف من خلالهما المؤلِّف التعريف بأدوار المثقّفين والمؤرخين المغاربة في فهْم طبيعة المرحلة التاريخية، ورصْد أوجُه التبادل الثقافي والتّعاون العلمي والمعرفي بينهما في سبيل الوطن وتاريخه وحاضره. وتكتسي أهمية تلك الرسائل غير المنشورة بين الطّرفين؛ كَون أحدهما ابن بارٌّ من أبناء مدينة تطوان، وعلَمٌ من أعلامها، وقلمٌ من الأقلام المتميِّزة التي كتبت عن تاريخ تطوان في مجلّداتٍ لها من القيمة المعرفية والعلمية والسياسية والثقافية ما يشهد له القريب والبعيد.
ولم يَـتعجّل الكاتب طيّ صفحات المحور الأوّل دون أنْ يَدلف بنا رأساً إلى تاريخٍ آخرَ من تواريخ المدينة، إنه تاريخها التجاري والاقتصادي، لنتعرَّف من خلال “مُستَفاد مرسى تطوان لسنة 1797″، و”مُستفاد الزاوية القادرية لتطوان مطلع القرن العشرين” على بعض المُعطيات الاقتصادية والإدارية والاجتماعية لمدينة تطوان، ولمعرفة طرائق عمَل موانِئها وطبيعة تجارتها الخارجية، وأوْجُه المنافسة في ذات الميدان مع مدن مغربية أخرى. حيث تُوحي جملة من المِبيانات والجداول على ذلكم الترابط المثير بين العمل التجاري للمدينة والإشعاع الثقافي والديني والحضاري لها، وللإحاطة عِلماً كذلك بالبنيات السياسية والهرمية السلطوية التي كانت تعرفها تطوان، وفهْم طبيعة نظام الزوايا الإداري وطُرق مداخيلها وصوائرها، ولقطاع الأوقاف من خلال الحوالات الحَبسية وكناش الحسابات.
وقد كان للطُّرف والنَّوادِر حضور بيّنٌ إلى جانب الحوليات والوثائق والمراسلات والمخطوطات، فقد أَوْرَدَهَا لنا الكاتِب في الشِّق المتعلِّق بأحوال الطَّريق، وظروف السَّفْرَة بين تطوان وفاس العالِمة، وذلكَ من خلال يوميات الطلاب التطوانيين التي قدّموا فيها صورة عن الوضع الدّاخلي للمسالِك والطّرق الرابطة بين شمال المغرب ووسطه وغربه، وقرّبوا من خلالها للقرّاء مشاهِد غرائبية عن عوائد وأحوال ما ومَن لاقَوه في طريقهم، في صورةٍ تجعل القارئ يعي جيّداً ذلكم التــغيُّر الواضح الذي شهدته البلاد بين تاريخها القريب وواقعها الراهن.
وخُــتِمَ المحور أو الفصل الأوّل من الكتاب بتخصيص حَيّز مِن أدب الرحلة لتسليط الضوء على التاريخ الاجتماعي لمدينة تطوان مطلع الحماية الإسبانية، وذلكَ من خلال اختياره لمشاهدات الرحالة الإسباني آنخيل كابْريرا مادّة للدراسة. كما أرْدَف المؤلِّف هذا المحور بانتقاء مجموعة من الدراسات التي قُدِّمت على شكل ندواتٍ دولية هَـمَّت دراسةَ تاريخ تطوان وذاكرتها وأهمَّ الوقائع التي مرّت بها، وحضورها في ذاكرة الآخر/المُستَعمِر، وفي أوراقه وأرشيفاته ووثائقه التي لا زالت تحتاج إلى مَن يَنفض عنها الغبار المتراكِم، ويُـنقِذها من الإهمال، ليُقدِّم جانباً آخر من تاريخ المدينة لمن يهمّهم الأمر.
المحور الثاني: أحمد الرّهوني وإسهاماته:
هَدَفَ مِن خلاله الكاتب إلى تعزيز غَلبَة الطَّابع العَملي أو التطبيقي للكتاب وإشكاليته، باتّخاذِه المؤرخَّ والعلّامة الرهوني أحمد وإسهاماته؛ مجالاً لتبريز التاريخ المتروك للمدينة وللمنطقة الخليفية عموماً. فمن خلال الأجزاء الثلاثة من موسوعة “عُمدة الراوين في تاريخ تطاوين” الحضارية الشّاملة؛ ومن خلال مُشاهدات الرجل الذي خبَّر تاريخ المدينة الكبير والصغير، وباستحضار رحلته الحجازية، ووثيقته الإصلاحية التي رام فيها وضْع مُخطَّطٍ إصلاحيٍّ للمدينة، يَستهدف قضايا السلطة والثروة والمُجتمع والعدل والتعليم والدِّين فيها إلى المقيم العام الإسباني؛ يُــقدِّم المؤلِّف للقرّاء تاريخ تطوان “مِن الداخل”، ويُجدّد اتصال الذاكرة الجماعية والفردية لأبناء المدينة مع نخبة مِن مثقّفيها الذين مَضوا، وقد تركوا بَصماتٍ مهمّة فيها؛ وأسهَموا بحظِّهم الوافر في تغطية علمية تاريخية لمراحل لا زالت تحتاج إلى مَن يستنطِقها ويُبرِز إلى السطح التاريخ الحضاري العريق لمدينة تطوان المغربية الأندلسية.
خلاصة
تنطوي مضامين الكتاب الذي قدَّمناه ولخَّصناه؛ على حِرص مُؤكَّدٍ لدى الكاتب لتقديم تاريخ خاصٍّ لمدينة تطوان من خلال استدعاء التاريخ المحلي والعالمي لها، يُبسًط المادّة العلمية بأبعاد أكاديمية لها القُدرة على الانتقال إلى مادّة معرفية وتاريخية مُدرَّسَة، تستهدف المَقدرات الذّهنية والإدراكية لطلبة التاريخ والحضارة، وتستحِثُّهم على استفراغ الوُسع وتعميق التخصّص لدراسة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي لمدينة تطوان، والإقدام على تمطيط الوثيقة التاريخية التي تُعنى بتاريخ المدينة لتشمل الدّراسات القادمة كل الميادين وللدخول في تجارب البحث عن التاريخ “المَنسِي” و “المتروك”، لسَبْـرِ أغوار الحالات الذّهنية للمجتمع التطواني في زمنٍ تاريخيٍّ مُعطى؛ حيثُ لا يمكن تفسير المُعطيات التي قَدَّمها المؤلِّف في كتابه _ وهي بالتأكيد لا زالت في حاجة إلى إجراء نقد علمي صارم في حقّها _، ولا يمكن تفسير أيّ ظواهر أو أحداث أو وقائع تاريخية إلى بواسطة “تاريخٍ إجمالي” مُستوعِبٍ ومتجدّد ومتجاوز.
المراجع
[1] الشريف محمد: "تطوان حاضنة الحضارة المغربية الأندلسية وأبحاث أخرى"، منشورات جمعية تطاون أسمير، مطبعة تطوان، طبعة 2013.[2] انظر: السَّعود عبد العزيز: "تطوان في القرن الثامن عشر؛ السلطة، المجتمع، الدين"، منشورات جمعية تطّاون أسمير، مطبعة الخليج العربي، الطبعة الأولى 2007.
[3] انظر: المُرير)محمد: "اللسان الـمُعرِب عن تاريخ وسياسة ملوك المغرب"، تخريج أحمد المرير، تحقيق جعفر بن الحاج السُّلَمي، تقديم محمد الشريف، منشورات مكتبة باب الحكمة، تطوان، 2020، عدد الصفحات 352.