مقدمة

اتجهت كوكبة من الأكاديميين المغاربة في السنوات الأخيرة نحو إبراز ما يعطي المغاربة شخصيتهم وهويتهم، وذلك عن طريق مؤلفات موّحدة الموضوع متنوّعة المناهج، إذ انبرى الروائي عبد الكريم جويطي إلى تقديم نظرته لخصائص الشعب المغربي عن طريق عمل روائي بديع أطلق عليه عنوان: “المغاربة”، وكتب الأستاذ حسن طارق المتخصص في العلوم السياسية عن: “الوطنية المغربية..تحولات الأمة والهوية”، فيما اختار الأستاذ سعيد بنيس أن يقدم مقاربة عالم الاجتماع لهذه القضية عن طريق كتاب: “تمغربيت..محاولة لفهم اليقينيات المحليّة”، وهكذا أبى المؤرّخ الطيّب بياض إلا أن ينخرط في هذا النقاش معددّا لزوايا النظر في المسألة عن طريق تقديم عمله الموسوم ب: “الشخصية المغربية.. تأصيل وتأويل”.

النَسَبْ التاريخي للكتاب

يصل كتاب “الشخصية المغربية” القرّاء برحم كتابات تناولت الخصائص التي يتفرّد بها الإنسان المغربي، تلك البصمات التاريخية الناتجة عن تفاعله مع موطن استقراره وما يحيط به من جغرافيا طبيعية وسياسية وحضارية، كما كانت هذه الميزات سجلا حيّا لمسار زاخر بالتحولات التاريخية منذ إنسان جبل إيغود إلى إنسان المغرب القطري.

حاول الأستاذ الطيب بياض أن يختزل هذه الرحلة الطويلة في كتاب صغير الحجم (91 صفحة)، تضمنت فصوله الخمسة (في تقديم الإشكالية وعُدة معالجتها – ولادة مبكرة وتشكل الزمن الطويل – بصمة الإسلام وصدمة الحداثة – عصر الازدواجية أو مغرب الثنائيات – استشراف أفق أو في معنى أن تكون مغربيا) قبسات من الأعمال التي سبق لها أن حاولت الإجابة عن سؤال كيف تشكّلت هوية المغاربة؟ إما في إطار دراسات عامة كما فعل الفرنسيين شارل أندري جوليان ودانييل ريفي إلى جانب المؤرّخ المغربي إبراهيم بوطالب، أو بإنجاز دراسات أكثر مجهرية ودقة انصبت على تتبّع مسألة تشكّل الوطنية والهوية تحديدا، على رأسها أطروحة عبد الله العروي: “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية”.

لقد أكّدت كلّ هذه الأعمال السابقة خصائص مشتركة للشعب المغربي تشكّلت في الزمن الطويل، وعبّرت عنها بألفاظ ومفاهيم مختلفة: طباع، نفسانية، شخصية المغرب..، هذا التأكيد المبني على استنتاج تاريخي يعضّد فرضية رالف لينتون التي تفيد بوجود شخصية أساسية لكلّ مجتمع تختلف بشكل أو بآخر عما يمكن أن نجده لدى مجتمعات أخرى[1].

قادت هذه المقدمات الأستاذ بياض إلى تحديد مسعى كتابه في “البحث عن بنية ذهنية تشكلت من طبقات متراكمة أنتجت هابيتوس [طِباع] شارح لنوعية الشخصية المغربية، وسمها بميسم خاص، وضمن لها تميزها داخل محيطها”[2]، فاستعان المؤلّف بعُدة مفاهيمية تنتمي إلى التاريخ الجديد كالزمن الطويل والذهنيات، ما مكّنه من تجاوز تاريخ الأحداث إلى الوقوف عند التحولات الكبرى المسجّلة في أرشيف شعب يغطي عشرات آلاف السنين.

وإنها لرحلة شاقة ومشوّقة حينما تتبع مسيرة هذا التجمع البشري من الحضارة الموستيرية والحضارة العاترية، إلى التاريخ الراهن والآني، فتقف عند تشكّل ملامح شخصية مغربية “خضعت لمجموعة من العوامل تقاطع فيها الجغرافي بالديموغرافي والمحلي بالأجنبي، فنحتت آلاف الطوابق من الترسبات الحضارية التي انصهرت في الزمن الطويل لتصقل تركيبة بشرية استقرت في هذا المجال”[3].

رحلة تشكّل الشخصية المغربية

مرّت عملية بلورة شخصية هذا التجمع البشري الذي استوطن المغرب بأطوار عديدة؛ ابتداء من إطلاق لفظ “موري” على سكان أقصى الشمال الغربي لإفريقيا[4]، وهو تعبير يفيد بوجود كيان يعبّر عن ثقافة وشخصية، مرورا بالتأثيرات الخارجية الفينيقية والقرطاجية، قبل أن يوقف الاستعمار الروماني هذا “التطوّر العضوي التلقائي”، ثم استأنف هذا الكيان البشري عملية تشكيل “ذاته في علاقتها بمحيطها الجغرافي” فأدى هذا إلى انبثاق مملكة قوية ومستقلّة[5].

وبعد وصول الدعوة الإسلامية إلى المغرب تجلّت ميزة هذه الشخصية في اعتناق “البربر” للإسلام دون التنازل عن حريتهم حسب دانييل ريفي[6]، الشيء الذي انعكس في استقلالية المغرب عن الخلافة في المشرق، ثم وطّد ظهور الإمبراطوريات الإسلامية الكبرى (الدولة المرابطية والدولة الموحدية) قناعة استقلالية المغرب عن المشرق. لا يُفهم من هذا الكلام أن المغرب كان في حلٍّ من التأثيرات المشرقية، لأن هذا الموضع من شمال إفريقيا كان طيلة العصرين الوسيط والحديث جزءا لا يتجزّأ من دار الإسلام، “ومن قلب هذا البناء الذهني بدأ الوطن الترابي بخصوصياته المحليّة يرسم ملامح وجوده تدريجيا من داخل الانتماء إلى وطن روحي كبير وممتد عاصمته مكة”[7].

وبعد انقلاب كفّة ميزان القوى بين ضفتي المتوسط، وانطلاق التهديد الإيبيري للمغرب، واجه المغاربة هذا التهديد لمدة ليست بقصيرة، كان لها وقع كبير في تشكيل مزيج روحي بالتراب أطلق عليه الكاتب “خميرة وطن”[8]، إذ عبّرت الحركات السياسية والمواقف الثقافية والدينية من هذا الغزو عن ارتباط قوي بالأرض ورغبة جامحة في الدفاع عنها.

أتاح هذا التطور إضافة أسس جديدة للشخصية المغربية انصهر فيها ما هو سياسي بما هو ديني وسوسيو-اقتصادي، فاتخذ النظام السياسي اسم المخزن الذي يحمل في طيّات معانيه آليات وهياكل وأدوار سياسية، كما حظي العلماء بمكانة رفيعة داخل المجتمع، فيما كان للشرف درجة أسمى من أي فعل مادي[9]، وفي جانب آخر أدى اقتصاد الكفاف الذي كان سائدا إلى استدعاء تدخلّ المخزن في تدبير الإنتاج والتخزين والتوزيع، وتجلت نتائجه في تشبّع المجتمع بقيم التضامن والتآزر، وسيادة أشكال تديّن تنزع إلى التصوّف والزهد.

سيلج المغرب عصر الازدواجية والثنائيات المتناقضة عقب التدخلاّت الأوربية التي بدأت خلال القرن 19م، وتعزّزت بتوقيع معاهدة الحماية 1912م، لقد كان لهذه الحيرة الحضارية بالغ الأثر على الذات والشخصية المغربية التي انطبعت بثنائية التقليد والتحديث، القديم والجديد، الأصالة والحداثة، وتكمن خطورة هذه الثنائية في ترسيخ ثقافة التردد في حسم المواقف أو صناعة القرارات[10].

آفاق الكتاب

في ختام هذا التقديم تظهر لنا أهمية موضوع الكتاب كمجال خصب للدراسات التاريخية، إذ تحتاج الشعوب أن تعيد تعريف ذاتها بعد كلّ تحوّل، ولمّا تسارعت التحولات الثقافية والسياسية والاقتصادية في القرن العشرين ومطلع هذا القرن، ازدادت هذه الحاجة، وأصبحت الشخصية والهوية المغربية موضع تساؤلات، وتنامت الرغبة في وصف ملامحها من جديد حتى تكون الذات مستوعبة للمتغيرات التي طرأت عليها، وتبني أحكاما عن نفسها وعن الآخرين من منطلق الراهن والمستقبل لا بالاعتماد على صورة ذهب جوهرها وبقي أثرها شاهدا على ماض مضى وانقضى.

المراجع
[1] الطيب بياض، الشخصية المغربية..تأصيل وتأويل، منشورات باب الحكمة، الطبعة الأولى، 2024، ص، 29.
[2] الطيب بياض، الشخصية المغربية..تأصيل وتأويل، مرجع سابق، ص 33.
[3] الطيب بياض، الشخصية المغربية..تأصيل وتأويل، مرجع سابق، ص، 40.
[4] الطيب بياض، الشخصية المغربية..تأصيل وتأويل، مرجع سابق، ص، 44
[5] الطيب بياض، الشخصية المغربية..تأصيل وتأويل، مرجع سابق، ص، 47.
[6] الطيب بياض، الشخصية المغربية..تأصيل وتأويل، مرجع سابق، ص، 48.
[7] الطيب بياض، الشخصية المغربية..تأصيل وتأويل، مرجع سابق، ص، 53.
[8] الطيب بياض، الشخصية المغربية..تأصيل وتأويل، مرجع سابق، ص، 53.
[9] الطيب بياض، الشخصية المغربية..تأصيل وتأويل، مرجع سابق، ص، 55.
[10] الطيب بياض، الشخصية المغربية..تأصيل وتأويل، مرجع سابق، ص، 65.