بين يدي التقديم

حظي مبحث (العقل والنقل) في التراث الإسلامي باهتمام بالغ، خاصة بعد انفتاح المسلمين على الثقافة الإغريقية والفلسفة اليونانية، لتتعدد الإشارة إليه – فيما بعد – بعناوين أخرى مثل: العقل والوحي، العلم والدين، الشريعة والحكمة، الفكر والعقيدة… وقد صنفت في هذه المباحث كتب ومؤلفات تعددت فيها زوايا النظر، ومناهج المعالجة، لتنتهي هذه المسألة إلى آراء ثلاثة:

رأي اعتمد العقل فقط، بدعوى أن دلالته قطعية، وأن الدليل النقلي ظني، وإذا ما تَعَارض عند أصحاب هذا الرأي دليلٌ سمعيٌ مع دليل عقلي، قدّموا العقل.

رأي مناقض ذم أصحابُه (المتصوفةُ) العقلَ، وادّعى بعضهم أن الغيب عن العقل شرط فيتحصيل العلوم والمعارف…

رأي ثالث أبدع أصحابه رأيا وسطا، وصرحوا بأن لا تعارض بين العقل والنقل، ومنهم ابن تيميّة صاحب كتاب “درء تعارض العقل والنقل”، وهو القائل: “العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاً بذلك”[1].

ثم إن هذا النقاش لم يُعلّق ولم يَتوقّف، بل إن مدارس فلسفية وكلامية جاءت فيما بعد، ألبسته لبوسا جديدا اقتضته تحولات العصر، فظهرت أفكار جديدة بلغت حد الغلو والتطرف في الاتجاهين معا، إما انتصارا للعقل أو انتصارا للنقل. وقد تجدد النقاش في عصر الفقيه العلامة الحجوي الثعالبي في صيغة جديدة، وتحت سؤال “لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون” وهل “سبب تقدم الغرب هو إعمالهم للعقل والعلم؟” و”تأخَّر المسلمون بسبب تقديمهم الدين؟” مما اضطره إلى الخوض في هذا النقاش، وليجمع أطرافه في ثلاثية بديعة في محاضرة تحت عنوان: “التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين” والتي تحولت إلى كتاب هو موضوع هذا التقديم.

تقديم الكاتب

العلامة الفقيه السفير الوزير محمد بن الحسن بن العربي بن محمد بن أبي يعزى بن عبد السلام بن الحجوي الثعالبي الجعفري الفاسي (1874-1956)، أحد أعلام المغرب المعاصرين، ووجه من وجوه التيار السلفي، نبغ في الفقه والتفسير، له مشروع إصلاحي قام على دعائم منها: إصلاح الاجتهاد الفقهي وتعليم المرأة ومحاربة التقليد وتحديث الدولة والمجتمع. التحق بجامع القرويين، فأخذ علوما وفنونا وآدابا على كبار أساتذتها أمثال: محمد بن التهامي الوزاني ومحمد بن عبد السلام كنون ومحمد القادري وأحمد بن الخياط وأحمد بن سودة وعبد السلام الهواري والكامل الأمراني وآخرين، وعندما أجيز جلس للتدريس بالجامع، فذاع صيته وشاع ذكره. ثم ما لبث أن تقلد وظائف رسمية منها: أمين بديوانة مدينة وجدة على الحدود المغربية- الجزائرية، ومفتش الجيش بالمغرب الشرقي، ونائب الوزارتين المالية والحربية، ورئيس مجلس الشريعة الأعلى، وسفير المغرب في الجزائر، ثم وزيرا للعدل فوزيرا للمعارف. عرف الحجوي بغزارة إنتاجه الذي ناهز المائة، فكان منه الكتاب والرسالة والمحاضرة والمقالة. ومن أشهر أعماله: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (في أربعة أجزاء) – ثلاث رسائل في الدين- المحاضرة الرباطية في إصلاح تعليم الفتيات في الديار المغربية – التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين – مستقبل تجارة المغرب – الفتح العربيّ لإفريقيا الشمالية – مختصر العروة الوثقى…

توفي رحمه الله سنة 1376ه / 1956م  بالرباط و دفن بفاس.

تقديم الكتاب

صدر الكتاب في 140 صفحة عن مركز التراث الثقافي العربي بالبيضاء ودار ابن حزم ببيروت سنة 2005م، وهو في الأصل محاضرة ألقاها الفقيه الحجوي بنادي الشبيبة المكناسية سنة 1939م، ثم طبعت فيما بعد بتونس سنة 1945م، لترى النور من جديد في حلة أجمل وأنفع، بعد أن اعتنى بها لاحقا الدكتور محمد بن عزوز. وقد اختار المحقق (إخراجا) بديعا للكتاب، حيث صدّره أولا ببيت من قصيدة للشاعر أحمد بن قاسم المكناسي الزياني يقول فيه منوها بالمحاضرة:

تعاضدك المتين بدا متينا *** وقطع من عدى الدين الوتينا

ثم أورد مقطعين داليْن من المحاضرة يلخصان موقف الفقيه الحجوي من مسألة العقل والعلم وعلاقتهما بالدين، الأول من الصفحة 41 من الكتاب يقول فيه: “… فالعقل والعلم كمّلا ما بدأه الدين، والعالِم بلا دين كسيارة ليس لها حصّار، فإنها تقرّب المسافة ولكنها الخطر كله”. والثاني من الصفحة 80 وفيه يقول: “… فالعقل والعلم رفيقان للدين، وهو ماش بينهما مستعينا بهما، وهما عضداه ونصيراه، والحكمة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة تجاذبتا بالطبع حتى اتحدتا بالعقل والسمع”. ثم أورد بن عزوز مقدمته التي ضمّنها سياق المحاضرة وبعض معالمها الكبرى، وعرض عمله في الكتاب، وقدّم ترجمة موجزة للفقيه الحجوي، وأورد بعدها نص الكلمة التي افتتح بها الحجوي محاضرته، وفيها بسط سياق الدعوة التي حملها إليه وفد من مكناس الذي فوّض إليه اختيار موضوع المحاضرة، يقول الحجوي: “وصادف أن وجد الوفد سؤالا رُفع إليّ فيها ذلك اليوم، وفكري مشغول بتأمّله، وذهني مقدم تارة ومحجم أخرى في جوابه… ففتح الله عليّ بروح الجواب ولبّه إذ ذاك وهم حاضرون، وأمليت ملخصه وهم سامعون، ثم بعد توسعت فيه موضوعا “[2].

أمّا نص المحاضرة المحقق فيبدأ من الصفحة 23، وسنختار منه مقاطع نرى أنها تشكل صلب المحاضرة، وأول ما يلفت النظر منها، المجال الذي اختار أن يؤطّر فيه الفقيه الحجوي محاضرته، يقول: “إن هذه المسألة من أهم مسائل الدين والاجتماع، بل من المشكلات التي يهم عموم المسلمين في سائر المعمورة حلها، وعنها وبها يحصل حلّ معضلة من المعضلات المدنية العصرية”[3]. ومهّد لمناقشة المسألة بعرض ما وقف عليه في مجلات وجرائد بالشرق والغرب والتي تتساءل كيف ضعف الإسلام وصار عالة على غيره، وكيف أن كثيرا من الكتّاب يرجعون سبب ذلك إلى “التمسك بالدين المخالف للعقل والعلم”. ثم يعرض نقطتين يرى أنهما صلب هذه الشبهة، الأولى: “كون الشريعة الإسلامية غير موافقة لمصلحة الأمة، ولا صالحة لعموم الأمم الإسلامية المختلفة الأقطار والأجواء والعادات والأفكار” والثانية: “كون الشريعة ضد العقل والعلم، وأنها تكلف الناس اعتقاد ما يضاد العقل، وأن يعملوا خلاف ما يقتضيه العلم العصري الحديث”.

وقبل الخوض في الرد على الشبه، فكك معنى الكلمات المفاتيح في عنوان محاضرته: الدين – العقل – العلم، ثم سرد ثلاثة وأربعين دليلا تبيّن جميعها أن الإسلام “دين موافق للعقل، معاضد له، وأنه دين العلم، دين مبني على تحرير الفكر من قيد التقليد، غير مضاد لشيء من قواعد العلم الصحيح الثابتة على أساس الامتحان العلمي”[4]. وينتهي إلى أن العلاقة بينهما ليست قائمة على التنافر ولا الاصطدام، بل على التوافق والتكامل، فالعقل والدين مؤيدان للدين، والدين ليس نابذا لهما، وأنه لم يقف على عقيدة من عقائد الدين تخالف براهين العقول، أو نظريات العلم الحديث المؤسس على المشاهدة، والتجربة الصحيحة، كما أنه استقرأ أصول الدين وأصول الفقه وفروعه وعلم التفسير، فلم يجدها مناقضة للعقل. ثم خصص جزءا معتبرا من المحاضرة في الرد على المستشرقين وبيّن أسباب غلطهم، وعاد مرة أخرى لمناقشة ما يوهم أن الشرع مبني على أن الدين فوق العقل، وأن الشرع مبني على أن العقل فوق الدين. ثم يختم محاضرته للإجابة على أسئلة أخرى ذات صلة بصلب المحاضرة منها: ما اختلفت فيه طوائف الإسلام كيف يعتقد؟ وهل الإسلام دين العقل؟ ثم يرد طعن مصطفى كمال على النبوات، ويبيّن خطر اللادينية على الإسلام، ثم يجيب عن أسئلة بعض الشبيبة ممن اعتبروا أن ردّه على مصطفى كمال في مسائل: السفور والإرث ونظام الزواج والطلاق وتعدد الزوجات ينافي اعتباره الإسلام دين حرية الاعتقاد.

على سبيل الختم

المحاضرة / الكتاب صورة قربتنا من موضوع قديم حديث، لم يخل منه عصر من عصور الإسلام، شأنه في ذلك شأن عصور غربية غابرة. ذلك أن العلاقة بين الدين والعقل والعلم إشكال ارتبط أساسا بالمدارس الفلسفية والكلامية، وقد تعددت الإشارات من قريب أو من بعيد لهذه المسألة في كتب فلاسفة وفقهاء مسلمين كابن رشد والغزالي والرازي وابن خلدون وابن حزم وغيرهم كثير. ولعل المسألة ستبقى حاضرة ما بقي في هذا الوجود دين وفلسفة وعلم وعقل..

المراجع
[1] ابن تيمية:، مجموع الفتاوى، 10/ 722.
[2] التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين، تحقيق محمد بن عزوز، مركز التراث الثقافي العربي بالبيضاء ودار ابن حزم ببيروت، ط 1 / 2005، ص 21.
[3]  التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين، مرجع سابق، ص 24.
[4]  التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين، مرجع سابق، ص 27.