المحتويات
بيت الذاكرة.. تاريخه وإعادة تدشينه
تَعود أصول البناية التي تحتضن اليوم مقر “بيت الذاكرة” بحاضرة الصويرة إلى مرحلة توطُّن المكوّن اليهودي المغربي بمدينة الصويرة[1] إثْـر بنائها على يد السلطان سيدي محمد بن عبد الله (تــ 1790م)، وتوسِعتها من بَعد على عهد خَلفه المولى سليمان ثم المولى عبد الرحمن بن هشام (تــ 1859م)، ولا سيما الحي اليهودي المعروف بالملاّح، كانت في مِلكية أسرة يهودية ثَرية، استطاعت أن تَجعل من منزلها الفسيح مكانا للتعبد، حيث بَنت بِوَسْـطه كنيسا للصلاة، وحافَظت في زواياه على معروضات وتراث مادي نفيس. ويقع الكنيس اليوم في الطابق الأول، جهة اليمين، عند المدخل الرئيسي لبناية بيت الذاكرة.
بعد عقودٍ من الزمن؛ تَـحوّلت الدار بفضل جهود الترميم إلى مؤسّسة تُعنى بصيانة الذاكرة التاريخية المغربية اليهودية الـمُشتَرَكة، وتنتصب شاهدا على “فترةٍ عاش فيها الإسلام واليهودية في ظِلّ تقارُبٍ وانسجامٍ استِثْـنائيين”[2]، وتَعْرِض لمسار تاريخٍ طويل من الحضور اليهودي بمدينة الصويرة، وتُحافِظ على الإرث المادي واللامادي للمكوّن العِبري، وتُقدِّم خدمات علمية للثقافة اليهودية المغربية، وتَسْتَقطب مئات السياح والزوار من مختلف بقاع العالم، بَعـدَ أن دُشِّنَت من قِبل الملك محمد السادس يوم الأربعاء 17 يناير 2020 أثناء زيارته الرسمية إلى إقليم الصويرة.
مكونات بيت الذاكرة ومحتوياتها
عند المدخل الرئيسي لمؤسسة بيت الذاكرة التي أضحت اليوم خاضعة لتدبير شِبه رسمي من قِبل وزارة الثقافة؛ يُوفِّر مكتب الاستقبال للزوار بِطاقة مُصوَّرة عن مَسار بناء وإعادة تشييد فضاء بيت الذاكرة.
وعن اليمين تُوجَد قاعة الصلاة التي كانت تُسمّى “بيعة عطية”، صارت اليوم كَنيسياً صغيراً مفتوحاً للزوار، تَضمُّ رُخامةً كُتِبت عليها مُعطيات بيت الصلاة، ومجموعة من الكتب التراثية، ومَلاءات عَتيقة، ومصابيح زُجاجية، وقُبّعات أداء الصلوات[3]، وثُريا كبيرة عُلِّقت بسلسلة تَصِلها بالطابق الثالث، وتُحَفاً أخرى. وتنفتح القاعة على السماء، حيث يمكن مشاهَدة باحَتها ومحتوياتها من الطابق الثالث للمؤسَّسة.
حافَظ مُرَمـِّمو البناية على الباحة الوُسطى الكبيرة لبيت الذاكرة، حيثُ تُنظَّم بها حاليا الأنشطة العلمية والثقافية والفنية، وُضِعَت في مدخلها نُسخة من المصحف الشريف ونسخة من التوراة، وعلى جانِبــيْ المدخل إليها نُقِشت بالذَّهبي اللامع عبارة “السلام عليكم/شالوم عليكم)، وقد حافَظت البناية في شكلها الجديد على أعمدتها الحجرية العتيقة التي شُيِّدَت بها أول مرة من الحجر المنجور والجير[4] الذي كان يعتَمده السلطان محمد بن عبد الله في بناء وتشييد السقالات والحصون والأبواب التاريخية للمدينة ويأمُر البنّائين بضرورة اعتماده.
يضمُّ البهو الفسيح للدار صُوراً للسلطان الراحل محمد الخامس (تــوفي 1961م)، مرفوقةً بقُصاصات من جرائد صَدَرت في المرحلة الاستعمارية تتضمن رسائل الرعايا اليهود المغاربة إلى السلطان، ومقتطفات أخرى من التلموذ بنسختيه العربية والإنجليزية، كما عُلِّقت على حيطان البَـهو صُور كبيرة لشخصيات يهودية كانت ذات حُظوة عالمية، كــ(ديفيد يولي 1810م-1886م) الذي كان أوّل يهودي من الصويرة يُنتَخَب عضواً في الكونغرس الأمريكي، و(لــيسي بْـليشا 1893م-1957م) ابن الصويرة الذي تَولَّى حقيبة وزارتَـي المالية والدفاع في الحكومة البريطانية، و(حاييم بِـينتّو) الوليّ اليهودي ذي الكرامات، و(داود بن بْراوخ) الموسيقي الذي أبْدَع في الملحون الأندلسي، و(سْـتِـيلا قَرقوز) أوّل مديرة لأول مدرسة للبنات بمدينة الصويرة.
وتتدلَّى من الجدار العلوي بالطابق الثاني صَوب البهـو لافِتَــتان سودَاوِيتان عُلِّقَتا عموديا، كُتِبت عليهما عبارات “بيت الذاكرة” باللغة العربية، وBayt Dakira بالأحرف اللاتينية، و”السلام عليكم” باللغة العربية وShalom Alaykom بالعِـبرية.
فضلا عن هذا البهو؛ يتكون الطابق الأرضي من ثلاثة غُرَفٍ:
– الأولى: خاصة بــ”مَسارات صويرية” تؤرْشِفُ لمسار مدينة الصويرة وحياة الـمكوّن العِبري فيها منذ عُقود من الزمن، من خلال صُورِ الشخصيات اليهودية التي عاصَرت سلاطين المغرب وكانت لها مكانة في القصر، مِن شامويل سمبل 1768م إلى أندري أزولاي 1991م، وصولاً إلى مرحلة حكم الملك الحسن الثاني (تــوفي 1999)، ولقطات من لحظة تدشين العاهل المغربي محمد السادس لمتحف بيت الذاكرة في يناير 2020، تُعْرَض في شاشة ضخمة على مدار وقت العمل، فضلاً عن أرشيف آخَر صُوري سَمعي-بَصري، مصحوب بموسيقى أندلسية وعبرية، وباقة صُور بالأبيض والأسود تؤرِّخ لمدينة موكادور-الصويرة عبر تاريخها.
– الثانية: خاصة بــ”الأزياء اليهودية المغربية”، تَجمَع تُحَفاً نادرة مِن ألبِسة اليهود المغاربة وإبداعات الصَّاغَة اليهود، والأدوات التي استَعمَلوها في مختلف مناحي حياتهم الاجتماعية والثقافية والـمَعِيشية، وعُلِّقت على الجدران كِتاباتٌ وصورُ عقود زواج مكتوبة بالمداد والصِّباغة المائية على وَرق الرّق مُزَيّنةٍ بالدُّهْن الذّهبي والفضي تعود في أغلبها لسنة 1887م، ووُضِعت في زجاجاتٍ أنيقة أقمشةٌ ذاتُ صِلة بالمجال الديني والروحي، وألبسة الرِّبِّـيين المشهورين عند الجماعة اليهودية الصويرية، وقَفاطين النساء والرجال، وكُرسي كبير مُذهَّبٍ أسْفَل منه وُضِعَ كُرسي أحمر صغير يُسمّونه كُرسي النبي إلياهو، أو كرسي الـخِـتان أو كُرسي الطّهارة،[5] ومعروضات خاصةٍ بفنِّ الشِّعر اليهودي، وقِطعة من التلموذ مكتوبةٍ على جِلْدٍ مِساحته 10 أمتار[6]، موضوعة في صندوق خاص.
– الثالثة: خاصة بــ”الموسيقى العِبرية واليهودية” الـممتزِجة بالبُعدين الأندلسي والمغربي، تَضمُّ شاشةَ تِلفاز من الحجم المتوسِّط، وسبّورة حائطية بها صُور لموسيقيين يهود، وآلات وكلمات ومقاطِع موسيقية، وصور فوتوغرافية أخرى لأهمّ العائلات اليهودية المغربية التي اعتَنت بمجال الموسيقى وخَدَمَـتْهُ بالمال والإمكانات والمواهب.
كما تَـمَّ تَـخصيص جناح للزوار يَستَريحون فيه من التجول بمرافق الدار، مُنْـصِتين إلى عَبق الموسيقى الروحية والترانيم الـعِبرية، ومُشاهِدين مَقاطع أرشيفية من تاريخ الصويرة والذاكرة الاجتماعية التي جسّدت _ ذات زمنٍ _ قيم التآخي والتعاون والتعارف بين المكوِّن العِـبري المغربي والمجتمع الصويري بمختلف تشكيلاته.
خُصِّصت في قاعةٍ صغيرةٍ صورة للعائلة اليهودية المشهورة باسم (أفْـرْياط)، مقْرونة بمعطياتٍ تاريخية عن مسار العائلة التي احتَرَفت بيع الشاي المعروف بــ”الشاي الصويري/أتاي أفرياط“، فيما وُضِع صندوق خَشبي من العرعار الرفيع منقوش ومرصَّع بخيوط فضية، ومُزَيَّن بالصَّدَف وسْط وعاء زجاجي. ويَعود تاريخ هذا الصندوق إلى شهر مارس من العام 1945م، أهداه التاجر كاتْـيا بْرامي أزولاي للسلطان محمد الخامس بمناسبة زيارته الرسمية إلى مدينة الصويرة.
أما الطابق العلوي للبناية؛ فإلى جانب مكاتب إدارية ومرافِق صحية؛ تَـزَيّنت الجدران ببعض الصور التاريخية، واحتَضَنت قاعة كبيرةٌ وثائق وسِجِلّات عِبرية، وزُجاجات مُستطيلة احتَوت كَمّاً وافراً من الأرشيفات الشخصية والمعروضات الجماعية، إضافةً لـمقَر “المركز الدولي للبحث حاييم الزّعفراني حول تاريخ العلاقات بين الإسلام والديانة اليهودية”.
وفي الجناح الأيمن للطابق فُتِحت مكتبة أنيقة وفسيحة _ إخراجا ومضموناً وتَرتيبًا _ في أوجه الزوار والباحثين، تحتوي على كُتب وإصدارات نوعية، منها ما يتعلَّق بالتاريخ اليهودي، والديانات الثلاث، ومنها ما يختصّ بالشأن الثقافي والعلمي والاجتماعي، ومجلَّدات تُشكِّل ذاكرة المكون العِبري بالمغرب.
في الطابق الثالث فضاءٌ للاسترواح والتواصل والـمطالَعة الحرة، مُسقَّف بخشب مغربي بديع، يَسمح بتسلُّل أشعة الشمس. يَتضمّن هذا الطابق قاعةً كبيرة للمحاضرات والعروض الموسيقية والدورات التكوينية، مُجهَّزة بالكراسي والوسائل اللوجيستية المساعِدة على القيام بمختلف الأنشطة والمهام، فضلا عن مجموعة من الصور، ورُكن خاص باستراحة الشاي تُخَصَّص على شرف ضيوف الندوات والفعاليات.
خاتمة
إنّ بيت الذاكرة بمدينة الصويرة العامرة جديرٌ بأن يُزارَ، لما يَحتويه من تراث مادي وغير مادي حَصيلةُ عناية أسَرٍ يهودية مغربية أباً عن جد لسنواتٍ عديدة، ولما يُسْهم به من إبراز للهوية والثقافة الروحية والدينية والاجتماعية لليهود المغاربة، ولدوره في تَثمين الذاكرة التاريخية المغربية اليهودية الـمشتَركَة والقائمة على أصول العلاقات المغربية وأخلاق الدين، ولما يُقدِّمه أيضا من معطياتٍ تاريخية وإصدارات نوعية وأرشيفات تُشكِّل مصدراً للبحث العلمي والجامعي عن مراحل حياة اليهود المغاربة والمكوِّن العِـبري الذي أضحى اليومَ رافِداً مهمًّا من روافد الهوية المغربية كما نصّ على ذلك دستور المملكة المغربية[7] لسنة 2011.
المراجع
[1] المغاري مينة، مدينة موكادور-السويرة؛ دراسة تاريخية وأثرية، تقديم عبد العزيز توري، منشورات دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، الطبعة الأولى 2006، ص 200.[2] تصريح المستشار أندري أزولاي لموقع يُـورونيوز، بتاريخ 21 يناير: 2020https://arabic.euronews.com/2020/01/20/memory-house-mixture-coexistence-between-jews-and-muslims-morocco.
[3] زيارة ميدانية قام بها الباحث عدنان بن صالح إلى بيت الذاكرة بتاريخ 13 أكتوبر 2021.
[4] GEORG HOST ; Nacrichten von Maroks und Fez , im land selbste gesammelt, in den Jahren 1760 bis, Copenhague, 1781.
[5] عدنان بن صالح، من زيارة ميدانية لمتحف بيت الذاكرة.
[6] لقاء حصري للباحث عدنان بن صالح مع السيدة غيثة الرابولي، المحافِظة السابقة لبيت الذاكرة، بتاريخ 13 أكتوبر 2021.
[7] دستور المملكة المغربية، إصدارات مركز الدراسات وأبحاث السياسة الجنائية بمديرية الشؤون الجنائية والعفو، سلسلة نصوص قانونية، شتنبر 2011، العدد 19.