مقدمة

المَلّاح، هو الإسم الذي يطلق على الفضاء المكاني والعمراني الذي يسكنه اليهود بالمغرب، وهي ظاهرة لا نجيد لها مثيلا في أي مكان آخر في العالم الإسلامي إلا في المغرب. وهو تجمع سكاني واقتصادي خاص بالجماعات اليهودية المغربية، ويكون في العادة محاط بسور وله باب أو عدة أبواب عدة تغلق ليلا. وقد يكون الملاح حيا داخل مدينة من المدن المغربية، أو عبارة عن دوار بين دواوير في المناطق الريفية سواء بالسهل أو الجبل. ورغم أن بناء الملاح يكون بمعزل عن أحياء المسلمين، وقريبا في الغالب من القصر السلطاني كما هو الشأن في مدن: فاس ومراكش ومكناس، فإن الخصائص العمرانية لبيوت الملاح لا تختلف عن بيوت المسلمين في هندستها ومواد بنائها[1].

الملاح.. أصول التسمية

من الشائعات المشهورة حول أصول معنى مصطلح “الملاح”، هو ربطها بعقوبة جز رؤوس الثوار والخارجين عن النظام، بحيث ترى هذه الشائعة أن أصل التسمية يرجع إلى كون اليهود كانت تسند لهم مهمة تمليح رؤوس المتمردين من أعداء المخزن والسلطان لتعليقها فوق أبواب المدن والأسواق الكبرى حتى تكون عبرة وردعا للثوار. وقد انتشرت هذه الشائعة بفضل شهادات وكتابات عدد من الكتاب والرحالة والدبلوماسيين الأوروبيين الذين حلوا بالمغرب في السنوات الممتدة ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر الميلاديين.[2] وقد تبنى عدد من الباحثين المغاربة هذا التفسير الغرائبي بالنظر إلى أن الجذر اللغوي للكلمة مشتق من جذر ثلاثي “ملح” بدلالة معجمية واحدة مطردة لا تختلف باختلاف الاشتقاق، وهي ما يطيب به الطعام.[3]

وتناقل اليهود المغاربة فرضية ثانية أقل شهرة حول أصول كلمة “الملاح” ومعناه، وهي رواية شفوية ترى أن تسمية الملاح مركبة من شطرين: “الماء” و”لاحْ”، وهذا الأخير لفظ بالدارجة المغربية يعني فعل رمى وألقى، فيكون المعنى هو “من رماهم الماء”. وتحيل هذه الرواية على ذكرى وصول أمواج اليهود الفارين من محاكم التفتيش بعد سقوط الأندلس سنة 1492م[4]. وجدير بالذكر أن هناك تفسير غير شائع كثيرا لدى الباحثين يربط معنى الملاح بكلمة “ميلاح” ومعناه الحرفي الكلمة والعهد، وهي جزء من العبارة العبرية “بريت ميلاح” التي يستعملها اليهود مجازا للدلالة على الختان الواجب على كل فرد ذكر من اليهود، تحديدا عند اليوم الثامن من ولادته.[5]

بعد استعراض هذه الفرضيات، يرى الباحث هشام الركَيكَ أن كلمة الملاح هي تسمية لموضع في “فاس الجديد” الذي بناه المرينيون، ولا صلة لها باليهود، بل اشتقت تسمية أول ملاح من موضع كان عام 763ه/1361م معسكرا لجند النصارى العاملين لدى سلاطين بني مرين، ثم حيا من أحياء فاس الجديد تحت مسمى “حمص”، محل أقامة الرماة الأندلسيين المنضوين هم أيضا تحت لواء الجيش المريني، وكان الموضع يسمى بالملاح قبل تأسيس أول حي مسور معزول وهو ملاح فاس الجديد.[6] أي أن اللفظ سابق عن مرحلة إطلاق الكلمة على الحي اليهودي، بحيث لم يشرع في إطلاق التسمية على أحيائهم السكنية كاملة إلا في عهد الدولة السعدية وما بعدها. وهذا يعني أن اسم الملاح كان في الأصل اسم لمحل يجمع فيه الملح ويخزن تمهيدا لتوزيعه على أسواق المدينة، خاصة وأن مدينة فاس كانت معروفة باستخراج وتجارة الملح خلال العصر الوسيط.[7]

تاريخ ملاحات حواضر المغرب

ظل اليهود في المغرب يعيشون جنبا إلى جنب المسلمين لقرون طويلة، يتبادلون المنافع ويخالطون بعضهم البعض في الحياة اليومية، وفي أحيان عدة يتجمع اليهود برغبة منهم أو بإيعاز من السلطة والفقهاء وأحبارهم أيضا، في أحياء كانت تحمل أسماء أخرى. وقد بدأت الوضعية تتغير بظهور معطيات جديدة استدعت نقل اليهود من أماكن سكناهم القديمة المختلطة بسكنى المسلمين إلى أحياء جديدة مسورة معزولة؛ الملاحات، وذلك في تواريخ محددة، وفي سبعة مدن، وهي على التوالي: فاس ومراكش ومكناس وتطوان والصويرة وسلا والرباط. وقد كان بناء ملاح فاس أول محطة في هذه العملية بعد تأسيس فاس الجديد من طرف يعقوب بن عبد الحق المريني (ت 685هـ/1286م) في النصف الثاني من القرن 13م، بعد أحداث 21 مارس 1276م/764هـ حين قيام العامة على اليهود في فاس، حيث صدر قرار تم بموجبه ترحيلهم من أماكن سكناهم بفاس البالي. وقد بني ملاح فاس بجانب قصور بني مرين في الفترة بين 726هـ /1326 و841ه/1437م.[8] وبعد فاس تأسس في سنة 1003هـ/1557م ملاح مراكش في عهد السلطان السعدي عبد الله الغالب (1517م-1574م). وفي مدينة مكناس تأسس ملاح المدينة عام 1682م/1093هـ في عهد السلكان المولى إسماعيل. ثم توالى تأسيس باقي الملاحات في مدن: سلا والرباط وتطوان والصويرة في عهد المولى سليمان (1792م-1822م) الذي أصدر قرارا بتأسيسها دفعة واحدة عام 1807م/1222هـ.[9] أما ملاح مدينة دمنات فلم يتأسس إلا في عام 1305هـ/1887م في زمن السلطان الحسن الأول (1873م-1894م).

خاتمة

ارتبط تناول موضوع الملاحات في المغرب، خاصة من قبل الكتابات الأوروبية، بسردية اضطهاد اليهود في البلاد الإسلامية، حيث غالبا ما يتم إسقاط نموذج الأحياء الخاصة باليهود الأوروبيين؛ أي “الكَيتوهات” على الملاحات المغربية، وكثيرا ما يتم إقرانه بصورة نمطية حول وضعية البؤس والاضطهاد التي كانت تعيش فيها ساكنة هذه الأحياء كما تزعم تلك الكتابات، على الرغم أن الملاحات تجسيد للإبداع المغربي في التعامل مع الأقليات اليهودية بشكل يحميها ويوفر لها الأمان، ويصون خصوصياتها الثقافية والدينية والإجتماعية في وسط تهيمن عليه الأغلبية المسلمة. فالملاح في حقيقية الأمر كما تأسس وتطور تاريخيا في المغرب يحقق ثلاث غايات أساسية: أولها: تفادي كل من شأنه أن يعكر أجوء الأمان والاستقرار داخل الحواضر المغربية، ثانيها حماية اليهود بمقتضى عقد أهل الذمة، وثالثها: تمكين الجماعات اليهودية المغربية من تدبير شؤون الدينية والإجتماعية والإقتصادية.

المراجع
[1] أحمد هوزالي، معلمة المغرب، الجزء 20، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، ص 7260.
[2] هشام الركَيكَ، الملاح: فضاء وعمران من وحي عقد الذمة، منشورات الجامعة الدولية بالرباط وأكاديمية المملكة المغربية بالرباط، ط1، 2023، ص 29-30.
[3] هشام الركَيكَ، الملاح: فضاء وعمران من وحي عقد الذمة، مرجع سابق، ص 29-30.
[4] هشام الركَيكَ، الملاح: فضاء وعمران من وحي عقد الذمة، مرجع سابق، ص 30.
[5] هشام الركَيكَ، الملاح: فضاء وعمران من وحي عقد الذمة، مرجع سابق، ص 33.
[6] هشام الركَيكَ، الملاح: فضاء وعمران من وحي عقد الذمة، مرجع سابق، ص 34-35.
[7] هشام الركَيكَ، الملاح: فضاء وعمران من وحي عقد الذمة، مرجع سابق، ص 36-37.
[8] هشام الركَيكَ، الملاح: فضاء وعمران من وحي عقد الذمة، مرجع سابق، ص 87-96.
[9] هشام الركَيكَ، الملاح: فضاء وعمران من وحي عقد الذمة، مرجع سابق، ص 96-108.