مقدمة

عرفت الموسيقى الأندلسية على يد معلميها ومؤديها الأوائل، عزفا وغناء، نشاطا كبيرا في عدد من المدن المغربية كفاس ومكناس والرباط ومراكش وتطوان وشفشاون.. ويعد السيد العياشي بن السيد محمد الوراكلي الشفشاوني الأصل التطاوني الدار والقرار، من ألمع رجالات الموسيقى الأندلسية في القرن العشرين بمدينة تطوان، ومن أكبر الحفاظ لأشعارها وأوزانها، قام بأدوار مهمة في نشرها وتعليمها والمحافظة عليها، في هذه المدينة التي عرفت بأصالتها وعراقتها في مجال الموسيقى الأندلسية.

النشأة والتربية الموسيقية الأولى

ولد العياشي الوراكلي بمدينة شفشاون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبالضبط سنة 1870م. تعلم القرآن والعلوم كما هي عادة المغاربة في تلقين أبنائهم وتعليمهم، كما تلقى مبادئ الموسيقى بزاوية سيدي علي شقور بزنقة السويقة بمدينة شفشاون على غرار بعض الولوعين من أقرانه في تلك الفترة التي كانت الحركة الموسيقية بها في أوج نشاطها، وهناك  صيغت موهبته الموسيقية بالإضافة إلى التهذيب الروحي الصوفي المحض، حيث كان الموسيقيون يجتمعون كل جمعة لتسميع المديح من بردة وهمزية وفق الموازين المتعارف عليها، ومن ثم خالط الوراكلي رجالاتها من الحفاظ والعازفين ونهل من معارفهم. وكانت هذه الزاوية ملتقى للمادحين والمهتمين بتجليات الموسيقى الأندلسية؛ ومن بينهم مترجمنا المرحوم العياشي الوراكلي[1].

وكانت أسرة العياشي الوراكلي قد اضطرت للرحيل إلى مدينة تطوان والاستقرار بها، حيث امتهن بها تجارة الجلاليب والصوف بمدخل حي الخرازين بتطوان، وهي آنذاك تجارة مرموقة بهذه المدينة، إلى جانب غيرها من أنواع التجارات بالمدينة العتيقة. يقول محمد داود عن أسرته: “عائلة (الوراكلي) أصلها من مدينة شفشاون، وقد انتقل منها إلى تطوان في الربع الأول من هذا القرن السيد العياشي الوراكلي، التاجر في الثياب الصوفية في الغرسة الكبيرة، وكان من أئمة الحفاظ للموسيقى الأندلسية، ويعزف في الحفلات على الرباب..”[2].

فبعد وفاة والدهم بمسقط رأسه بشفشاون انتقل العياشي إلى منزل ثان بالسويقة بتطوان مع العلامة الفقيه المحدث سيدي محمد الفرطاخ (1881م-1950م)، حيث اشتريا معا منزلا كبيرا من ثلاثة أدوار. ويذكر أبناء مترجمنا بأن أكثر من جلس إليه من العلماء هو الفقيه الفرطاخ، وذلك بعد دخوله من طنجة إلى تطوان وجلوسه للتدريس بها وسكناهما معا؛ حيث كان يدرس الحديث والتفسير والفقه والسيرة، وتخرج على يده جملة من علماء تطوان وعدولها وقضاتها وأساتذتها، وكان مترجمنا يجلس إليه حينما كان يلقي دروسه على طلبة العلم بمسجد للافريجة بالسويقة أو بمنزله حينما يعود مساء من تجارته حيث كان يأخذ عنه التفسير والفقه، هذا بالإضافة إلى صحبته للفقيه الزواقي والفقيه الرهوني.

الوراكلي ونهضة الموسيقى الأندلسية في تطوان

ونظرا لولعه وحبه لموسيقى الآلة، ظل العياشي الوراكلي مرتبطا بالأجواء الموسيقية بالمدينة، وفي ظل الإصلاحات التي حققتها الحركة الوطنية في شتى المجالات في بداية الثلاثينات من القرن الماضي بإنشاء مجموعة من المؤسسات العلمية والثقافية كفتح المدرسة الأهلية في دجنبر 1924م وإنشاء المطبعة المهدية كأول مطبعة بالمغرب سنة 1928م، وتدشين المعهد الحر للتعليم سنة 1935م، ارتأت لجنة محلية مكونة من السادة محمد بنونة، ومحمد داود، ومحمد بن اللبار، وعبد السلام الصوردو، وأحمد الوكيلي، ومحمد العلوي، وعبد السلام الحراق، رفع ملتمس إلى الخليفة السلطاني تقترح فيه تأسيس فرع المعهد الحسني للموسيقى الأندلسية المغربية للتعليم والبحث فيها بموازاة مع المعهد الإسباني للموسيقى يأخذ على عاتقه مهمة تعليم هذا الفن للولوعين والحفاظ على أوزان موسيقى الآلة وصنائعها وأشعارها من الضياع[3].

وبالفعل تمكن هؤلاء من تحقيق مطلبهم وتأسيس الإطار القانوني لأنشطتهم الموسيقية، وهكذا صار المعهد حقيقة سنة 1940م في مقره الأول بزنقة القائد أحمد. ثم اتسع المعهد بإنشاء قسم الأبحاث الموسيقية بهدف الحفاظ على طبوع الآلة وجمع أشعارها وموسيقاها وتدوينها. وقد اختارت السلطة المحلية تعيين شخصية وازنة ومولعة بالموسيقى الأندلسية لرئاسة المعهد، فاستقر رأيها على السيد عبد السلام بن الأمين؛ الرجل الصوفي الذي كان يشغل منصب باشا شفشاون قبل ذلك، وتعيين المعلم العياشي الوراكلي أستاذا للموسيقي، ومديرا لجوق الموسيقى الأندلسية الذي أحدث لأول مرة في المعهد الموسيقي بتطوان، باعتباره أكثر وأمهر الحافظين للموسيقى الأندلسية في تطوان وشفشاون في ذلك الوقت[4].

وهكذا انكب مترجمنا بعزيمة على تعليم طلبته، وكان يلقنهم النوبات الموسيقية والعزف على بعض الآلات الوترية وخاصة آلة الرباب التي تخصص فيها، بالإضافة إلى إتقانه العزف على باقي أنواع الآلات الموسيقية الأخرى. وهكذا اختير العياشي الوراكلي أستاذا لمادة الرباب، وأحمد البردعي أستاذا لمادة الكمان، والعربي الغازي أستاذا لمادة الكمان أيضا، وأحمد الوكيلي أستاذا لمادة العود، وعبد السلام الإدريسي أستاذا لمادة الدف (الطار)، ومحمد المطيري أستاذا لمادة الدربوكة، ومحمد داود أستاذا لمادة الميزان.

جهود العياشي الوراكلي في نشر فن الموسيقى الأندلسية  

كان مترجمنا إلى جانب بعض الولوعين التطوانيين أمثال محمد المودن، ومحمد بن اللبار، ومحمد الشودري، ومحمد العربي النجار، ومحمد بندريس، وعلال القيرواني، وعبد السلام بن الامين، يعقدون مجالس للطرب، وهي مجالس موسيقية أسبوعية كانت تنظم لحفظ هذه الموشحات وأوزانها وصنائعها تقام في المنازل أو الرياضات كرياض الشرفاء الريسونيين الواقع بباب السفلي أو في بعض الزوايا وخاصة الزاوية الحراقية. وذكر الأستاذ الزكاري أن المعلم العياشي كان: “من أكبر حفاظ الموسيقى الأندلسية وأحد أعلامها وروادها وأقطابها، لعب دورا كبيرا في نشرها وتعليمها والمحافظة عليها وإعلاء مكانتها، وكان متصوفا في حبه لها ومحبا لعشاقها، وذلك بالنظر إلى العدد الكبير من الآليين الذين تتلمذوا عليه”[5]. ومن جملتهم كذلك، أغلب أساتذة المعهد الذين يوجد من بينهم أحمد الوكيلي الذي قال عنه أنه ما رأى وما عرف قط حافظا يفوقه أو حتى يوازيه حفظا وذكاء في الموسيقى الأندلسية، مشيرا إلى أن جميع الآليين التطوانيين وغيرهم كانوا يشهدون له بذلك، وقد كان عدد منهم يقصدونه ليكتب لهم مختلف الأوزان والصنائع الموسيقية والموشحات الشعرية، وكان معروفا بخطه الواضح، ومن الذين كانوا يواظبون على زيارته ببيته المعلمين: الغازي والبردعي و بنعياد وسليطن وبن مخوت..[6].

من جهة أخرى أخذ عن مترجمنا مبادئ الموسيقى الأندلسية ومقاماتها وصنعاتها كثير من أبناء تطوان وشفشاون، وتتلمذ عليه عدد كبير من الآليين، ومن هؤلاء محمد بن أحمد المريني الذي تلقى عنه مستعملات المدرسة الشفشاونية القديمة. كما لم يفت الفنان الفاسي مولاي أحمد الوكيلي- بعد حلوله بتطوان عام 1942م- أن يستفيد من خبرة المترجم في عزف الرباب، وأن يأخذ عنه بعض الصنايع الشاونية النادرة ومنها صنعة أحمد الهادي من بسيط نوبة رمل الماية، وذلك مقابل تلقينه صنعات أخرى من المدرسة الفاسية. وكان مولاي أحمد الوكيلي قد انتقل – قبل ذلك- إلى طنجة عام 1937م، وهناك أسس بمعية العديد من ولوعي المدينة، جمعية إخوان الفن، وكان ينتقل في تلك الفترة إلى معهد تطوان بإيعاز من الخليفة مولاي الحسن بن المهدي، فالتقى مترجمنا (المرحوم العياشي الوراكلي) – وهو إذاك- أحد كبار معلمي مدرسة تطوان، فتبادلا العديد من الصنائع النادرة، وانتقل إلى الرباط مطلع الخمسينيات، فأسندت إليه رئاسة جوق الإذاعة، الذي بقي على رأسه إلى حين وفاته يوم 25 نونبر 1988م[7]. وجاء في بعض التراجم: أن الحسن بن المهدي الخليفة السلطاني بطنجة كان قد عينه أستاذا بالمعهد الموسيقي بتطوان، وبقي مقيما بعروس الشمال ويتردد عليها كل أسبوع لإعطاء الدروس في الموسيقى الأندلسية، وكان آنذاك يشرف على قسم الموسيقى العربية الفنان العياشي الواركلي كما ذكرنا من قبل.

ومن الذين تلقوا هذا الفن عن المرحوم العياشي الوراكلي سواء بتطوان أو بشفشاون الفنان عبد القادر علوش، الذي يعد من الأساتذة الأوائل الذين درّسوا بالمعهد الموسيقي لحظة افتتاحه. وقد جاء الفنان عبد القادر إلى طرب الآلة بتأثير وإسهام كبيرين من والده الذي يعد من عشاق الموسيقى الأندلسية، إذ كان عازفا على آلة الإيقاع وحافظا للعديد من القصائد، وكان له الفضل عليه وعل ىأخويه: محمد وعبد السلام، حيث كان يصحبهم إلى الزاوية “الشقورية” في منتصف الأربعينيات. هذا فضلا عن المرحوم محمد بن الأمين العلمي، عازف آلة الكمان الذي أخذ عنه هو الآخر الأستاذ الفنان مولاي أحمد الوكيلي ميزان قائم ونصف الاستهلال. وكذا السيد المختار المفرج الذي ازداد بمدينة شفشاون سنة 1932 ونشأ فيها على يد أسرته العاشقة لفن المديح والسماع، ثم ارتحل مع أسرته إلى مدينة تطوان سنة 1937 أيضا، وكان من الأعضاء الأوائل للجوق الوطني (المحلي) إلى جانب عبد الصادق شقارة ومصطفى الحمراني ومحمد العلوي ومحمد بن علال وغيرهم.

والشخص البارز بتطوان الذي أخذ فن موسيقى الآلة عن مترجمنا العياشي الوراكلي، هو الفنان عبد الصادق اشقارة، والذي كانت بدايته الفنية من داخل بيته على يد والده، ثم بعد ذلك جاء دور الزاوية «الحراقية» التي أثرت بشكل كبير في مسيرته، حيث تلقى فيها تكوينا جيدا في أصول المديح والموسيقى الأندلسية والعزف على الكمان. ومن أهم المحطات في المسيرة الفنية للفنان عبد الصادق شقارة، التحاقه بالمعهد الموسيقي بتطوان عام 1947م، ليتتلمذ على أيدي ثلة من أساتذة الموسيقى المعروفين في ذلك الوقت، وعلى رأسهم العياشي الوراكلي، ومحمد العربي التمسماني، والعربي الغازي، وأحمد الدريدبو وأخوه عبد السلام أستاذه في الكمان، ومحمد بيصة، وأحمد بنعبد السلام البردعي، ومحمد بنعياد، وغيرهم. وكان المرحوم العياشي الوراكلي، لما لاحظ نباهة عبد الصادق شقارة وقوة ذكائه وصفاء موهبته، وتفوقه على أقرانه وزملائه، يسند له قيادة جوق الآلة لطلبة المعهد في الحفلات والأمسيات الموسيقية التي كان ينظمها المعهد ونيابة التربية والثقافة بقاعة الحفلات والمحاضرات بالمعهد الرسمي (أو المعهد المغربي للدراسة الثانوية أو القاضي عياض حاليا). وهكذا وبعد وفاة الأستاذ، خلفه تلميذه وعين أستاذا كذلك، وعضوا أساسيا في جوق المعهد لطرب الآلة، وشارك في عدد كبير من الحفلات الموسيقية في سائر مدن بلده المغرب وحتى في خارجه باسم المغرب[8].

الوراكلي وإشعاع الدول للموسيقى الأندلسية دوليا

كان المعهد الموسيقي بتطوان بعد اكتسابه الصبغة القانونية قد أحيا عدة أنشطة رسمية سواء داخل المغرب أو خارجه من خلال التظاهرات الثقافية التي كانت تنظم بالمناسبة. فبمناسبة الاحتفالات الكبرى التي نظمتها مدينة قرطبة في أكتوبر سنة 1944م إحياء للشعر العربي، شارك جوق المعهد الموسيقي بتطوان برئاسة مدير المعهد السيد عبد السلام بن الامين ورئيس جوق المعهد السيد العياشي الوراكلي في هذه التظاهرة الكبرى. كما أحيا عدة سهرات من بينها سهرة بمدينة قاديس بإسبانيا سنة 1945م، وشارك في معرض الفن المغربي الذي أقيم بمدينة قرطبة في يونيو سنة 1946م، وفي الاحتفال الرسمي بزيارة الملك عبد الله ملك الأردن إلى إسبانيا بمدينة غرناطة سنة 1949م، كما شارك في عدد من الحفلات بداخل المغرب؛ ومنها عزفه في حفل زفاف الخليفة السلطاني مولاي الحسن بن المهدي، وفي حفل التكريم الموسيقي لجوق الوداد الرباطي بمدينة مرتيل.

وكان مترجمنا كذلك من بين من استعان بهم المستشرق الإسباني اركاديو دي لاريا في إنجاز المدونة الموسيقية لنوبة الإصبهان، وكذا في توثيق وضبط أشعار موازينها اعتمادا على أوراق خطية كان المعلم الوراكلي قد قيدها بخط يده كما سمعها من أفواه أساتذته القدماء العارفين بالفن

وفاته

توفي المعلم العياشي الوراكلي -رحمة الله عليه- بتطوان يوم 16 ربيع الثاني 1375/ 2 دجنبر 1955- كما ذكر ذلك محمد داود – عن زوجته السيدة عشوش السلاسي- ابنة المعلم السيد محمد السلاسي- وأولادهما، مخلفا تراثا فنيا عريقا، ولا زالت أسرته الكريمة تحتفظ بذكراه، فمعظم أفرادها لا زالوا على قيد الحياة منهم أبناؤه وبناته وأحفاده، ومنهم حفيده كاتب هذه السطور.

خاتمة

ختاما لهذه الرحلة في سيرة الرجل، كان ملتقى تطاون للموسيقى الأندلسية المغربية قد اختار في دورته الثامنة أن يسميها: “دورة المرحوم محمد العياشي الوراكلي”، وقد أقام حفلا تأبينيا للفقيد بمسرح إسبانيول خلال تنظيمه لهذه التظاهرة الفنية أيام 7/8/9 ماي 2015، تميز بتقديم ورقات تعريفية بالمحتفى به وبوصلات أندلسية لجوق معهد الموسيقى الأندلسية بتطوان برئاسة الفنان محمد الامين الاكرامي وغيره من الأجواق المحلية والوطنية من طنجة وفاس ومكناس والرباط وغيرها.