مقدمة

تنتسب الزاوية الناصرية إلى الشيخ والمتصوف مَحمد ابن ناصر الدرعي (03-1602م/1011ه-1085ه/1674م)، وتعتبر من أهم الزوايا والأقطاب الصوفية والروحية في تاريخ المغرب، بل ويمكن اعتبارها أكبر زاوية عرفها تاريخ المغرب الحديث، من حيث عدد الفروع والأتباع، ومن حيث المجال الذي يغطي انتشارها. فقد امتد انتشارها إلى خارج القطر المغربي ليشمل باقي المغارب ومصر، فضلا عن ذيوع صيت الناصريين في مكة والمدينة، بل إن صدى هذه الزاوية وصل حتى بلدان الشرق الأقصى. وهي أيضا من الزوايا التي ظلت لقرون عدة منارة للعلم والمعرفة في منطقة درعة خاصة وفي المغرب عامة -وذلك على شاكلة الزاوية الدلائية في الأطلس المتوسط-، ومدرسة تخرج منها عدد كبير من العلماء والفقهاء والمتصوفة، فانتقل إشعاعها العلمي والصوفي إلى مناطق واسعة من المغرب، فكانت ثالث مركز علمي يدرس فيه كتاب سيبويه، علما بأنه لم يكن يدرس في فاس ولا في مراكش.[1] كما عرفت الزاوية الناصرية بخزانتها العلمية الغنية التي كونتها الزاوية عبر أجيال عدة حتى صارت من أعظم الخزانات المغربية. وتبقى أهم ميزة تميزت بها الزاوية الناصرية عن كثير من الزوايا في المغرب وفي المشرق هي إقامة المصالحة بين التصوف والعلم، بحيث ارتبط عند شيوخها السند الصوفي بالسند العلمي.

من زاوية تمكروت إلى الزاوية الناصرية

ظهرت الزاوية الناصرية في قرية تامكَروت أو تمكَروت بوادي درعة في فترة تاريخية تميزت بأفول الدولة الزيدانية (السعدية) وتفكك المغرب إلى إمارات محلية عدة، وخاصة العلويين (الفيلاليون) في منطقة تافيلالت، والإمارة السملالية في سوس، والدلائيون في الأطلس المتوسط… وهي طريقة غازية، نسبة إلى الشيخ أبي القاسم الغازي بن أحمد بن عمرو السوسي الهرغي (توفي1584م/982ه). وتتصل الزاوية الناصرية بأبي القاسم الجنيد من طريق أبي الحسن الشاذلي وصولا إلى الشيخين ابن سليمان الجزولي وأحمد زروق.[2]

وتأسست الزاوية الناصرية في منطقة تامكروت، غير بعيد عن منطلق ومهد السعديين (الزيدانيين) بزاوية تاكَمادارت بمنطقة فزواطة. وتعود الجذور الأولى لتأسيس الزاوية الناصرية أو زاوية تامكَروت إلى النصف الثاني من القرن العاشر الهجري (16م) على يد الشيخ أبي حفص عمرو بن أحمد الأنصاري الدرعي (ت 1010ه/1602م)، فسميت باسمه؛ أي الزاوية الأنصارية، ثم خلفه أبناؤه وحفدته على رأس الزاوية، حتى آل أمرها إلى الشيخ عبد الله بن احساين الرقي القباب (ت1045ه/35-1636) الذي توسعت فيها الزاوية وكبر إشعاعها، وعرفت حينئذ بالحسينية و بالطريقة الغازية نسبة إلى شيخه أبي القاسم الغازي (ت982ه/1584م)، والذي استقر بتمكَروت فقصده الناس من كل ركن، فأصبح القطب الروحي لتمكَروت، وذلك قبل أن تتحول مشيختها إلى الناصريين مع مَحمد ابن ناصر الدرعي (ت1085ه/74-1675م).

محمد بن ناصر الدرعي.. زمن الإشعاع العلمي للزاوية

في سنة 1645م/1055ه انتقل الشاب وطالب العلم مَحمد بن ناصر من مسقط رأسه بقصر أغلان الواقع بخميس ترنانة في منطقة وادي درعة إلى تمكروت بحثا عن شيخ يسير على نهجه التربوي والعلمي فالتقى بالشيخين أحمد بن إبراهيم الأنصاري وبالشيخ عبد الله بن احساين الرقي القباب، فأعجب به هذا الأخير أيما إعجاب. وتولى الشيخ محمد بن ناصر أمر زاوية تامكَروت بعد مقتل الشيخ أحمد بن إبراهيم الأنصاري سنة 1052ه/1642م، فأعطى للزاوية دفعا جديدا، فركز في بداية الأمر على الخروج بالزاوية من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التقعيد، ومن الإعتماد على الغير إلى الإكتفاء الذاتي عبر توفير قاعدة اقتصادية صلبة للزاوية، فتحولت الزاوية أيام مشيخته ومشيخة ابنه أحمد ابن ناصر (1057ه/1647م-1126ه/1714م) إلى أهم زاوية في الجنوب المغربي على الإطلاق، لكثرة أتباعها وتعدد طلاب العلم بها، كما تحولت إلى أكبر سوق تجارية تلتقي فيها القوافل من كل الأصقاع.[3]

وفي مراحلها الأولى غلب الطابع الصوفي على الزاوية الناصرية، فكان شيوخها الرئيسيون يلقنون فيها الأوراد الشاذلية، ولا يشتغل إلى جانبهم في التدريس سوى بعض العلماء الزائرين، إلى آل استقر فيها الشيخ محمد ابن ناصر الدرعي، وكان متمكنا من علوم الظاهر والباطن، فأمست معلمة علمية ودار كتب يحج إليها الطلبة من جميع أصقاع المغرب.[4] وكان يدرس فيها كثير من العلوم كالفقه والحديث والكلام والتصوف والعربية وقواعدها، وغيرها؛ حتى أن العلامة أبو علي اليوسي جعل طالب العلم يستغني بشيوخها، في ميدان الترقي في الطلب، عن التوجه إلى المراكز العلمية الكبرى في العالم الإسلامي يومئذ.[5]

الزاوية الناصرية.. مبادئ وتوجهات

بالنظر إلى السياق الزماني والمكاني اللذين ظهرت فيهما الزاوية الناصرية، والذي تميز بالتأزم والإضطراب، فقد انتدب محمد بن ناصر الدرعي نفسه للقيام بمهمة إصلاح ما أفسده الزمن، فتصدى لنشر العلم ومحاربة الانحراف، وتمهيد السبل عن طريق التربية الصوفية. وقد عرف عن الشيخ محمد بن ناصر الدرعي وخليفته أحمد بن ناصر دفاعهما عن السنة ومحاربتهما للبدعة، كما اقتصرا على آذان واحد لصلاة الجمعة، ولم يكونا يدعوان للسلطان على المنابر، ومنعا السماع الذي كان مألوفا عند كثير من متصوفة عصرهما. كما جاهرا برفضهما للبدع والعادات الفاسدة، وخاصة شرب الدخان وتناول الخمور، وحرما اختلاط الرجال بالنساء في المواسم والأعياد.[6]

وحرص الشيخ محمد بن ناصر الدرعي على توظيف ورد غير بعيد عن الأذكار المأثورة؛ بحيث لم يدع إلى اتخاذ شارات خاصة، وقد جعل ذلك الورد الناصري وردا بسيطا مستجيبا لمختلف الطباع والمستويات، فلاقت بذلك الطريقة انتشارا واسعا وقبولا كبيرا لدى مختلف شرائح المجتمع. وقد ازداد انتشار الطريقة الناصرية واتسع مجال انتشارها بفضل تنظيم الطريقة لركب الحاج الناصري، والذي أضحى بمثابة زاوية متنقلة، فتأسست فروع ناصرية في مختلف المدن والقرى على طول الطريق بين المغرب والحجاز. وبذلك أسهمت الزاوية الناصرية في تمهيد الطريق أمام الحجاج، ومد جسور التواصل بين مختلف بلدان العالم الإسلامي على الصعيدين العلمي والصوفي.[7]

أحمد بن ناصر الدرعي.. التوسع في الإشعاع

وفي عهد أحمد بن مَحمد بن ناصر الدرعي الملقب بأحمد الخليفة توسعت الزاوية وازداد إشعاعها الروحي والعلمي، حيث أسس بجوار الزاوية مدرسة لإيواء الطلبة وواصل عملية استقطاب الأساتذة من مختلف جهات المغرب، وألحق بها خزانة جلب إليها أنفس الكتب من المغرب والمشرق، عن طريق النسخ والشراء، مع العلم أن بداية تأسيس الخزانة كان في عهد والد محمد ابن ناصر[8]. فتأسيس مكتبة الناصريين يرجع إلى عام 1040ه/1630م حين انتقل الشيخ محمد ابن ناصر الدرعي إلى زاوية تمكروت لنشر العلم ثم لتربية المريدين، ولم يكن يملك حينئذ غير مجموعة كتبه ملقاة في ركن البيت الذي ينام فيه الشيخ وأهله، ولما تحسنت الحالة المادية بعد ذلك تحسنا نسبيا، وتكاثر عدد الوافدين عليه من المريدين والطلبة، وازداد عدد الكتب بما نسخه الشيخ وأهله وطلبته وبما أهدي إليه، ثم خصص بيتا للكتب حين جدد بناء الزاوية ومرافقها.[9] وفي عام 1123ه/1711م شيد أحمد الخليفة بناية خاصة لاحتضان الخزانة وعين لها قيما ليشرف على تسييرها، وسن لها نظاما عجيبا للإعارة، وأمر بترتيب محتوياتها حسب الفنون، وأوصى بتوسيعها والمحافظة عليها. وحرص على إتقان بناء الخزانة فجلب إليها الشيخ الصناع من مدينة فاس، وزينت نوافذها بزجاج ملون.[10] كما أسس الشيخ أحمد الخليفة زاوية جديدة، سماها زاوية الفضل عام 1115ه/1703م، في موقع يقع جنوبي تمكروت، تضمنت هي الأخرى مسجدا جامعا، وأنزل بها إحدى زوجاته، وهي زينب بنت أحمد التِّنَرْدَنِيَة للإشراف عليها.[11]

ومن العلماء الذين وفدوا على الزاوية للتدريس بها من غير الشيخ محمد ابن ناصر الدرعي نذكر: أحمد بن محمد ابن مسعود التمكروتي (ت بعد 976ه/1569م)، وعبد الله بن محمد ابن مسعود التمكروتي (ت. بعد 980ه/1572م)،  أحمد بن محمد الجزولي، وعبد الكريم بن علي التدغي (ت 1132ه/1720)، وعبد الرحمن بن عبد القادر السويدي المكناسي، الحسين بن محمد الشرحبيلي (ت1142ه/1729م)، أحمد بن محمد الكنسوسي (1164ه/1751م)، محمد بن ناصر المراكشي (ت1140ه/1728م).[12] وتخرج أيضا منها علماء وأدباء كبار أشهرهم العلامة الحسن اليوسي صاحب الدالية المعروفة في مدح الشيخ ابن ناصر. ونذكر أيضا: علي المراكشي، وأبو سالم العياشي، ومحمد بن سليمان الروداني، وعبد اللطيف الفيلالي، وأحمد التستاوتي، وأبو العباس الهشتوكي، وعبد الملك بن محمد التجموعتي، ومحمد بن عبد الله الحوات، وعبد القادر الفاسي، والتاودي ابن سودة المري، وابن الحاج السلمي…[13]

خاتمة

حافظت الزاوية الناصرية لمدة طويلة على قوة انتشارها ونفوذها، خاصة بعد تراكم ثرواتها، وتقوت علاقاتها الإيجابية مع أهم زوايا عصرها كالزاوية الدلائية والعياشية والشرقاوية والفاسية. كما أصبحت علاقتها بالمخزن ودية أكثر بعدما كانت علاقتها بالمخزن في عصر الشيخين محمد وأحمد بن ناصر متشنجة في بعض الفترات. وقد عاشت الزاوية فترات تراجع، كان عميقا في بعض الفترات بحيث أصبحت الزاوية خلال تلك الفترات مستمرة بفضل الرصيد الرمزي الذي راكمته خلال فترات الإزدهار. وقد تميزت فترات التراجع تلك بالتنافس حول الأمور المادية، واحتدام التنافس والصراع من أجل التصدر ونيل المشيخة، فكان من نتائج ذلك أن وقع الانقسام في أسرة الناصريين، ففقدت الزاوية هيبتها، وتراجعت الزاوية في القيام بوظائفها العلمية والصوفية الأصيلة، بل وقد انتهى الحال بالزاوية في مرحلة عبد السلام  الناصري ابن أحمد الحنفي (1919م-1960م) إلى مهادنة وموالاة سلطات الحماية وأعوانها ولاسيما بعد احتلال درعة سنة 1931م.[14]

المراجع
[1] عمالك أحمد، معلمة المغرب، ج22، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2005، ص 7400.
[2] عمالك أحمد، أحمد ابن ناصر الدرعي الشيخ الصوفي المصلح، مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والإتصال، ط2، 2021، مراكش، ص 19.
[3] البوزيدي أحمد، التاريخ الإجتماعي لدرعة (مطلع القرن 17-مطلع القرن 20)...، منشورات آفاق، 1994، ص 130.
[4] حجي محمد، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، ج2، منشورات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، مطبعة فضالة، 1978، ص 549.
[5] عمالك أحمد، معلمة المغرب، ج22، مرجع سابق، ص 7400.
[6] عمالك أحمد، معلمة المغرب، ج22، مرجع سابق، ص 7400.
[7] عمالك أحمد، معلمة المغرب، ج22، مرجع سابق، ص 7400.
[8] عمالك أحمد، معلمة المغرب، ج22، مرجع سابق، ص 7400.
[9] حجي محمد، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، ج1، مرجع سابق، ص 192.
[10] عمالك أحمد، أحمد ابن ناصر الدرعي الشيخ الصوفي المصلح، مرجع سابق، ص 48-49.
[11] عمالك أحمد، أحمد ابن ناصر الدرعي الشيخ الصوفي المصلح، مرجع سابق، ص 37.
[12] عمالك أحمد، أحمد ابن ناصر الدرعي الشيخ الصوفي المصلح، مرجع سابق، ص 38-39.
[13] عمالك أحمد، معلمة المغرب، ج22، مرجع سابق، ص 7400./ حجي محمد، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، ج2، مرجع سابق، 549-550.
[14] عمالك أحمد، معلمة المغرب، ج22، مرجع سابق، ص 7402.