المحتويات
مقدمة
يرتبط الحديث عن تاريخ تدبير التراب الوطني قبيل عهد الحماية بشكل وثيقٍ بموقع ودَوْر القبيلة والجماعة باعتبارهما بِـنْـيَـتَان أساسيتان في التنظيم الإداري للمغرب، وما مَثَّـلَـتْهُ مِن بُروز ثنائية “بلاد المخزن” و”بلاد السيبة” التي استأثرت باهتمام الكتابة الاستعمارية السياسية والاجتماعية والأنثروبولوجية. وباعتبار المكانة الهامة للقبيلة[1] في تاريخ المغرب المعاصر؛ فإنها جَسَّدَت القوة الرئيسية التي عَمِلَت على تحريك العلاقات بين الدولة المركزية وهوامشها، في طَوْرَي الضعف والقوة؛ ناهيك عن قيامها بنوع من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإثني وما يَنتج عن ذلك من تحديد طبائع العمران أحيانا. كما كان لعاملا الأرض والساكنة دورا في تحديد مستويات التنظيم الإداري للجماعة المغربية باختلاف تموقعاتها المجالية.
سيَعرف التراب المغربي تحوّلات كبرى مع بداية القرن العشرين، وبخاصة؛ بعد ضعف الدولة المركزية وسقوط البلاد فريسة للاستعمارين الفرنسي بتاريخ 30 مارس 1912 والإسباني بتاريخ 27 نونبر من العام نفسه، اللّذان سيعملان على سَنّ توجهات مجالية جديدة، وتحويل مركز الاهتمام من “الداخل – التاريخي التقليدي”، إلى “الساحل – المعاصر ذي القيمة المضافة”، والاستثمار في علاقة الهشاشة التي كانت تربط الدولة المغربية بمجالها، لتَشْرَعَ في تدخّل مباشر في تدبير التراب المحتَل منذ 1912م.
الاستعمار الفرنسي وعناصر التقطيع الترابي للمغرب
استَنَدت الإستراتيجية الاستعمارية في مناطق النفوذ الفرنسي على مُستوى “التقطيع الترابي وتدبير المجال” على أرضية بعض بُنود “الحماية” كمرجعية لتفعيل المخطَّطات التي أنزلتها الإقامة العامة مَنْزلاً عمليا، واستنادا كذلك _ في فترات لاحقة _ إلى الخبرة العلمية والرصدية التي وضعها خبراء ومثقفون وجواسيس على طاولة المقيمين العامين الفرنسيين.
كان البَدْء بالتقسيم الاستعماري الفرنسي سنة 1912، ثم تلاه تقسيم سنة 1926، تماشيا مع الأحوال السياسية المتقلبة للمغرب، ثُّـمَّ تَمّ الانتقال للتقسيم الإداري الذي أُنجِزَ سنة 1923، الذي استهدفَت أجنداته السيطرة على الإنسان والمجال، وجعْل المنطقة المحمية متوزّعة إلى جِهات عسكرية (مكناس، فاس، مراكش) وأخرى مَدنية (الصويرة، آسفي، الجديدة)، وصولا لتقسيم 1940 الذي أبان عن الدّوافع الأمنية لدى المستعمِر، وشراهة التوسّع والاستثمار في الموارد مِن خلال الاهتمام بالمدن الساحلية، ومَـرْكَـزَةِ أهمّ الأنشطة الاقتصادية والتجارية في حزام القنيطرة – الدار البيضاء، وهو المحور الذي أطْلَق عليه المؤرِّخ المغربي عبد الله العروي في كتابه (استِبانة): “مغرب الـحافِلات”.
هذا؛ وقد ارتكز الاستعمار الفرنسي في تقطيعه للتراب المغربي على إستراتجيتين: إحداهما؛ اعتماد التَّعمير الوظيفي المثمِر لهم والمفقِر للبلاد، وثانيهما؛ إعادة التنظيم والتهيئة المجالية للمدن الـمستحدَثة.
الاستعمار الإسباني ومشروع التقسيم الترابي للمغرب
استَنَدت إسبانيا بدورها إلى بنود اتفاقية 27 نوفمبر 1912 مَرْجِعيةً في استغلال وتقسيم شمال المغرب، وإعمال منهج إداري لتنظيم وتدبير المنطقة تؤول فيه السيادة للمندوب السامي، المشرف على أعمال مصلحة الشؤون الأهلية، وفق سياسة تعتمد على المراقبة العسكرية للسكان والسيطرة على المجال واعتماد المقاربة الإثنية في التقسيم الترابي.
ونظرا للعجز وحِدّة المشاكل الداخلية التي كانت تعانيها إسبانيا فيما بين 1931 – 1939 (تاريخ الحرب الأهلية الإسبانية التي انتصر فيها الـجنرال فرانسيسكو فرانكو، وألغى الملكية وأسس الحكم العسكري الشمولي، وظلَّ في الحكم إلى غاية وفاته سنة 1975)؛ فإنَّ ذلك قد انعكس على فلسفة التنظيمات السياسية والأمنية التي أقامتها في المنطقة الخليفية، وأعاقتها عن تثبيت نموذج تنموي واقتصادي واستثماري ناهض بالمنطقة، دَفَع بها للاستثمار في الخبرة التاريخية الاستعمارية لها بأمريكا اللاتينية خلال القرنين 18 و19 لتطبيق سياسة “الإدارة العسكرية المباشِرة” على الشّمال المغربي في طور احتلالها له؛ ولربّما قصور الأداء التنموي والتحديثي للمنطقة كان وراء اندلاع الثورة الريفية وانقلاب الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي على الإسبان[2] حينَ تبيّن له انعدام أيّ مشاريع ناهضة بالمنطقة الخليفية.
أخْضَعت إسبانيا شمال المغرب لتقسيم إداري سنة 1913م، مرورا بظهير 1932، الذي ركّز على القبيلة مُـجَزِّئًا إياها إلى جماعات؛ ليستقرّ التقطيع الترابي على خمس جهات:
- الجهة الغربية وعاصمتها العرائش
- جهة جبالة وعاصمتها تطوان التي كانت عاصمة الاحتلال الإسباني ومركز المندوب السامي. كما كانت مقراً لخليفة السلطان على المنطقة الشمالية
- جهة غْمارة وعاصمتها شفشاون
- جهة الريف وعاصمتها الحسيمة
- جهة الكَرْت وعاصمتها النّاظور.
وذلكَ بهدف تحقيق ثلاثية: ضبط الإنسان، السيطرة على القبائل المتمرّدة، البعد الأمني[3]، ناهيك عن الاستمرار في المقاربة العرقية – الإثنية محور ارتكاز في التخطيط والتنظيم والتقطع الترابي؛ إلى حين استقلال الدولة الوطنية، ودخول مجالها الترابي طورا جديدا استُعْمِلت لتدبيره نظرية “التنظيم الإداري الممركَز”، القائمة على إعادة تقطيع المناطق المحررة إلى أقاليم وعمالات وجهات، ذات أفق تنموي وعدالة مجالية واجتماعية، تترتّب على ضوئها طبيعة علاقات الدولة المركزية المستقلِّة مع المجال الجغرافي للوطن.
المراجع
[1] كتاب العِبر، وديوان الـمتبدأ والخبر، في أخبار العرب والبربر ومَن عاصرهم من دوي السلطان الأكبر"، عبد الرحمن ابن خلدون، طبعة 2011- العصبية الـقَبَلية؛ ظاهرة اجتماعية وتاريخية على ضوء الفكر الخلدوني، بوزياني الدّراجي، دار الكتاب العربي، طبعة 2003- القبيلة والسُّــلطة؛ تطوّر البنيات الاجتماعية في شمال المغرب- المختار الهرّاس، زمن القبيلة، رحّال بوبريك، طبعة 2012.[2] محمد العربي المساري، محمد بن عبد الكريم الخطابي: من القبيلة إلى الـوطن، منشورات المركز الثقافي العربي.
[3] برولرباح علي، تقسيم التراب المغربي وِفْـق رؤية الـجهوية الـمتقدِّمة، مطبعة الخليج العربي، الطبعة الأولى 2016.