
المحتويات
مقدمة
سنتناول في هذا المقال مسار المهدي بن تومرت الذي طبع التاريخ المغربي، ومَهد لدولة قوية ازدهرت في الغرب الإسلامي في القرن (7الهجري/12م). هذه الشخصية القوية التي تأثرت بالمنهج الجدلي والمدرسة الأشعرية، فقد تبنى مفهوم التوحيد كمنهج عقائدي و سياسي. نافحَ وحارب به المنهج المرابطي الذي كان، حسب المهدي، مذهبا مُجَسِّما يُنكِر التوحيد. فهل استطاع إذن المهدي أن “ينشر في الأرض العدل بعد أن مُلِئت جوراً؟.
أصل و نسب ابن تومرت
وُلِد ابن تومرت في قبيلة «هرغة» سنة 500هجرية/1107م. ويذهب المؤرخ الإسباني أمبروسيو هويسي ميرندا إلى أن أقدم وصف لابنِ تومرت جاء في كتاب «نظم الجمان» لابن القطان حيث وصفه كالتالي: «كان متوسط القامة أسنانه الأمامية منفصلة، شعر لحيته خفيف يوجد بأحد خِنصِرَيه زائدة لحمية تشبه الخاتم و كان عفيفا لا يعاشر النساء»[1]. في حين يرى ابن أبي زرع في «روض القرطاس» أنه: «كان حَسَن القد، اسمر اللون رقيق البشرة، غائر العينين، خفيف العارضين، له شامة على خده الأيسر»[2]. ويذكر ابن خلدون في كتاب «العبر» نصا يشير إلى تألقه في العلم جاء فيه: «وشب محمد هذا قارئا للعلم ويسمى “آسفو” ومعناه الضياء (بالأمازيغية) لكثرة ما كان يسرج في القنادل بالمساجد لملازمتها»[3]. أما أصله فكان أمازيغيا، رغم أن بعض النسابَة حاولوا نِسبته إلى الأدارسة عندما ادعى المهدوية. غير أن ابن خلدون يشير إلى أن الفقهاء المرابطين المالكيين قد تحاملوا كثيرا على بن تومرت. وفي هذا الصدد أورد في “المقدمة” النص التالي: «وإما إِنكارُهم نَسَبه في أهل البيت فلا تغضه حُجة لهم مع أنه، أن تَبثَ أنه ادعاهُ و انتسَبَ إليه فلا دليل يقوم على بُطلانه لأن الناس مُصدَقون في أنسابِهم»[4].
الرحلة العلمية لابن تومرت
للنهل من العلوم التحق بقرطبة ثم ألمرية حيث أخذ المذهب «الظاهِري» الذي أسسه ابن حزم الأندلسي. ثم الإسكندرية، والحجاز وبغداد، حيث مكث هناك 15سنة. فأخذ العلم على «أبي بكر الطرطوشي». وهناك تضارب في الآراء حول التِقائهِ بأبي حامد الغزالي. إلا أن ميراندا يشك في هذا اللقاء، ويجعلُه من نسج خيال بعض المؤرخين مثل ابن خلكان، والمراكشي، والنويري، وذلك انتقاما للغزالي الذي أُحرِقَ كتابه «إحياء علوم الدين» من طرف المرابطين و نِكايَة فيهم. غير أن ميراندا يسترسل ويؤكد شَكه في اللقاء في النص التالي: «يؤكد التسلسل الكرونولوجي للاحداث أن اللقاء بين ابن تومرت والغزالي لم يحدث أصلا، فإحراق أول نسخة من إحياء علوم الدين تم في مطلع سنة 503 هجرية/1109م […] وابن تومرت عَلِم بقضية إحراق الكتب عندما حل ببغداد، وكان الغزالي قد تاقَت نفسه إلى الحياة التأملية الهادئة، فقد تركها صوب مسقط رأسِه طوس بخراسان»[5]. كانت النوايا الثورية عند ابن تومرت بارِزة و مُؤَججَة خصوصا، عندما بدأ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منذ صُعوده إلى السفينة، إِبانَ رُجوعِه إلى المغرب. ويذكر عبد الواحد المراكشي أن ابن تومرت ألزَم الركاب على إقامة الصلاة، حتى كادوا يُلقونَه في البحر بعد أن أثار حفيظتَهم.
الحركة الموحدية وإسقاط المرابطين
عندما وصل إلى طرابلس، بدأ بالتدريس وإنكار المنكر والدعوة لمنهجِهِ ودَعوَتهِ، هذا ما عجل بِطَردِه. وبوصولِهِ إلى المهدية (بالمغرب الأدنى) بدأ في تكسير أقداح الخمور. و حسب “البيذق” فقد أثار مشاكل عديدة عندما دخل «بجاية». وأورد البيذق في كتابه «أخبار المهدي وبداية دولة الموحدين» النص التالي: «وذلك أن المعصوم رضي الله عنه، لما دخل بجاية نزل بمسجد الريحانة، فكان ينهى الناس عن “الأقراق الزيرارية” (جمع قرق، وهو يشبه الخُف) وعمائم الجاهلية ولباس “الفتوحيات” (جمع فُتوحية، لباس يشبه الفَرَجِية في المغرب) ويقول لا تتزينوا بزي النساء». وأضاف أنه التقى بعبد المؤمن بن علي الگومي في منطقة «ملالة»[6]. وحسب الأستاذة لبنى الورطيطي (اعتمادا على البيدق) فـ «عبد المؤمن كان من أصول أمازيغية زناتية، أي من قبيلة گومية. حرص على طلب العلم منذ صغره وحفظ القرآن في المساجد، واشتهر بتفوقه على أقرانه […] هذا ما جعل عمه “يعلو” يفكر في اصطحابه إلى المشرق للاستزادة من العلوم و خاصة علوم الدين»[7].
وظهرت نوايا ابن تومرت في إسقاط الدولة المرابطية، خصوصا عندما اعترض موكب عُرس وكسرَ الدفوف وأَرغَمَ العروس على النزول من هَودَجِها. ويذكر صاحب «نظم الجمان»، أن ابن تومرت عندما وصل إلى بجاية بالمغرب الأوسط: «لاحظ أن الشباب المُخَنَّث كان يتزينُ بالشعَر المُستَعار والأقراط والملابس الحريرية والمطرزة»[8]. و تظهر جرأة و شجاعة ابن تومرت عندما وصل إلى مدينة فاس، حيث ذكر البيذق الذي كان مرافقا له، في كتابه «أخبار المهدي بن تومرت» ما يلي: «فخرجنا السبعة (يعني سبعة من مرافقيه وبينهم البيذق)، وأقبلنا بسبعة مقارع (أي عِصي) من دكار التين […] حتى وصلنا زقاق بزقالة (بفاس)، قال لنا تفرقوا على الحوانيت، وكانت الحوانيت مملوءة دفوفا وقراقر ومزامير و عيدانا وروطا وأرببة (جمع رباب) و گيتارات.. فقال لنا المعصوم (يقصد بن تومرت): اكسروا ما وجدتم من اللهو»[9].
قبل الحديث عن إسقاط الدولة المرابطية، لابد منهجَيا، من الإشارة إلى لقاء ابن تومرت بعبد المؤمن بن علي الگومي، والذي كان هاما ومِفصليا في الدعوة الموحدية. وقد غلف المؤرخون هذا اللقاء بصِبغة الخرافة والكرامات والخوارق. فهذا “البيذق” مؤرخ الدولة الموحدية ومهندس لقاء ابن تومرت بعبد المؤمن، يشير إلى أنهما التقيا تحت ظل شجرة خروب وهو ينتظر تحقيق ما وعَد به ربه. وعندما وصل عنده عبد المؤمن تبين من أنه الشخص الذي اختاره الخالق لتحقيق ذلك الوعد[10]. وكان اللقاء بين ابن تومرت وعبد المؤمن، بحضور البيذق. وتم إقناعه بأن لا يسافر إلى الشرق لأخذ العلم ما دام أن ابن تومرت وعَدَه بتلك العلوم في المغرب. ويرفض ابن القطان كل الروايات الأسطورية التي ذكرها البيذق حَول هذا اللقاء، ويذكُر سببا منطقيا، هو أن عبد المؤمن اُقتُرِحَ على بن تومرت لالقاء دروس عَوضَ فيها فقيها فكان مواظبا[11].
وللتحكم في القبائل المجاورة، قام ابن تومرت، بالسيطرة على منطقة “تنملل“. وهي منطقة استراتيجية ومنيعة والتحكم فيها يضمَنُ سهولة التحكم في القبائل بالمنطقة. ويذكر ابن القطان أن بن تومرت سيطر على قبيلة «بني وكاس» و«جنفيسة»، قبل الوصول إلى تنملل زيادة على قبيلة « گناوة». وهي قبائل تقع على وادي النفيس، وكان ذلك سنة 518هجرية/1124م. وتذهب بعض المصادر أن أهل تنملل، هم مَن طلبوا من بن تومرت المجيء إلى تنملل، خصوصا أن أهل قبيلة «هزميرة» كانوا قد أعلنوا ولاءهم للموحدين. ويذهب صاحب «الحلل الموشية» أن ابن تومرت اتخذ تنملل موقعا دفاعيا، حيث قام بتوزيع الأراضي و المنازل على أصحابه، و كان ذلك بعنف كبير وإبادة كبيرة للسكان الأصليين[12]. و يذكر ابن القطان أن ابن تومرت قام بتلك المجزرة في حق أهل تنملل، لأنه خاف أن يغتالوه، خصوصا أنهم كانوا يحضرون دروسه بسلاحهم[13]. لهذا السبب استشعر المرابطون خطر الدولة الموحدية المصمودية الفتية، بقيادة مؤسسها الذي كان يفيض حيوية و قوة. وكان لابد للمرابطين من حصارها ووَأدِها في المَهدِ، لكن الدولة الموحدية كانت قد وصلتْ من القوة القتالية، الشيء الذي جعل الجيش المرابطي عاجز عن الوقوف ضدها.
وتوفي ابن تومرت سنة 525هـ/1131م، دون تحقيق هدفه. ويذكر ابن عذاري أن الدولة المرابطين بدأت تضعف إثر الصراع بين القبيلتين الأساسيتين مسوفة ولمتونة الصنهاجيتين. وقد كان سقوطها سنة 1147م إثر سيطرة الموحدين على عاصمتم مراكش على عهد آخر حكامها إسحاق بن علي[14].
خاتمة
اعتمد ابن تومرت في هجومه وحربه على المرابطين وعصبيتهم “صنهاجة” على أساس علمي وديني غالبا ما ارتبط بمفهوم التوحيد، حيث اتهمهم بكونهم كانوا من دعاة التَّجسيم. أما في الفقه فكانوا يكتفون فقط بالفروع. وذلك على عكس ابن تومرت الموحدي الذي كان ينهل من الأصول. كما أعاب عليهم أكل أموال الناس بالباطل، وتسيير دواليب الدولة بالظلم و الجور، والمغالاة في العمران، لهذا فالحرب عليهم واجبة. وكان سقوط الدولة المرابطية بعد معركة دامية توفي فيها خيرة أصحاب ابن تومرت و نجا عبد المؤمن الذي وطَّد دعائم الدولة الموحدية بقيادة عصبيتها “مصمودة“.
المراجع
[1] ابن القطان، نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان، تحقيق محمود علي مكي، دار الغرب الإسلامي ،ط1، لبنان 1990، ص 30.[2] ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، ط2، 1999، ص 233.
[3] ابن خلدون عبد الرحمن، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، ج6، ص 526.
[4] ابن خلدون عبد الرحمن، المقدمة، ص 65.
[5] هويسي ميراندا، التاريخ السياسي للامبراطورية الموحدية، ترجمة عبد الواحد اگمير، دار النجاح الجديدة، ط1، ص 36.
[6] الصنهاجي ابو بكر (البيدق)، أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين، مرجع سابق، ص 13.
[7] لبنى الورطيطي، الأيديلوجية الموحدية.. جدل الدين و السلطة في الغرب الإسلامي، أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى،2021، ص97و98.
[8] ابن القطان، نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان، مرجع سابق، ص 40.
[9] الصنهاجي ابو بكر (البيدق)، أخبار المهدي بن تومرت، مرجع سابق، ص 23.
[10] الصنهاجي ابو بكر (البيدق)، أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين، مرجع سابق، ص 13.
[11] ابن القطان، نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان، مرجع سابق، ص 67.
[12] مؤلف مجهول، الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، تحقيق سهيل زكار وعبد القادر زمامة، الدار البيضاء، 1979، ص 112.
[13] ابن القطان، نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان، مرجع سابق، ص 67.
[14] ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب،تحقيق محمد زنيبر وآخرون، دار الغرب الإسلامي، ط1، لبنان 1985، ص17.