توطئة

اعتُبرت هذه الدراسة طفرة نوعية في تلمس خطاب الالتزام والهوية في الرواية العربية، ومحاولة للقيام بمقاربة تحليلية لنماذج اصطلح عليها بالإسلامية، والتي لها حقلها المعجمي بدلالات اصطلاحية، في أبعادها الفكرانية والعقدية ذات الحمولة الدينية، اتسمت بها وميزتها عن غيرها، وجسدها مبدعون كان هذا خيارهم في الكتابة. وقد لقي هذا الخيار والتوجه استحسانا ونقدا في الوقت نفسه، وبالرغم من العقبات فإنه احتل مساحة في الحقل المعرفي الأدبي، وفرض سرديته بخصوصياته وأصبح له عشاقه ومريدوه.

الدكتور رشيد اركيبي أحد فرسان هذا الفن الذي تصدى للموضوع وهتك بعض أسراره مبينا أهمية المفهوم وعلاقته بالعقيدة وتجذره في التراث الإسلامي قبل ظهوره في الغرب، أما نماذجه الدالة ومتونه المعتمدة فهي أكثر من أن تحصى وكان لا بد من الانتقاء والحصر. يقول الدكتور إدريس الناقوري في تقديمه لكتاب “خطاب الالتزام والهوية في الرواية العربية”: “… فوقع الاختيار على روايات محددة متنوعة من تجربة أحد رواد السرد الإسلامي. وقبل ذلك كان العرض المفصل لتجارب بدت فيها إرهاصات الالتزام واضحة المعالم والسمات”. (مقدمة الكتاب، ص: 3)

مضامين الكتاب

العمل موضوع البحث عبارة عن دراسة في النوع من جهة، وفي مفهوم شامل عرف في الثقافات القديمة، وإن سمي في العصر الحديث بتسميته الرائجة اليوم، من جهة ثانية. وهو ذو أبعاد وإيحاءات فلسفية ودينية وأخلاقية واجتماعية وإيديولوجية. وكل هذه القضايا وغيرها من مقتضيات المفهوم الأساسية والفرعية لم يغفلها الباحث بل أولاها ما تستحق من اهتمام في سياق الدارس. فالباحث لم يكتف برصد فكرة الالتزام في الرواية ولكنه استدل على وجودها بنماذج شعرية تدعم دعواه. كما أنه لم يقتصر على نصوص روائية لروائي واحد بل ذكر بنصوص سردية حفلت بالمفهوم منها كما سبق القول روايات أحمد باكثير ليتم التركيز على أحد رواد الرواية الإسلامية وهو د. نجيب الكيلاني. (مقدمة الكتاب، ص 3)

لقد هيمنت الكثير من المناهج التحليلية اللسانية المرتبطة بتوظيف شتى تقنيات تحليل الخطاب وتفكيك النص الإبداعي بطريقة تركز على الجانب الشكلي للنص وأبعاده الجمالية في منأى عن قصدية الكاتب ورؤيته الفكرية والاجتماعية اللتين تحكمان مزاجه الإبداعي خلال عملية إنتاج النص، مما ساهم في تهميش دور الرؤية، وأحال النص الإبداعي مجرد جداول وتقسيمات وتفريعات بعيدة عن تقديم قراءة تحليلية مقنعة ومتكالمة للنص المدروس، الأمر الذي كرس قضية القطيعة بين شكل النص ومحتواه الفكري، بل ذاب هذا المحتوى في تيار الأحكام الشكلية والفنية المتراكمة.

ومن ثم كان لابد من العودة الحكيمة للنص الإبداعي كفضاء جمالي وبعد فكري يعكس قصدية معينة ويترجم رؤية فكرية لصاحبه. وهو ما حاول المؤلف إثارته في هذا العمل، والتركيز خصوصا على بيان معالم الرؤية الفكرية والاجتماعية لصاحب النص، وبيان مدى تأثيرها في تشكيل مسار العمل الإبداعي الروائي. أي الكشف عن علاقة الإبداع بالواقع وبرؤية الكاتب من خلال الفلسفة الإلتزامية التي اقتنع بها الأديب المبدع وعمل على ترجمتها في أعماله. (الكتاب، ص: 5)

إن مما تميز به عمل المؤلف عن أغلب الدارسين حول اتجاهات الرواية العربية، هو حصره لمعالجة الموضوع في جانب الرؤية الالتزامية التي أثرت في صياغة الرواية العربية لدى الروائي، خلاف الدراسات الأخرى التي عالجت قضايا وموضوعات عديدة لها علاقة بخلفية الكاتب الاجتماعية، وبمواقفه الواقعية المختلفة، كما أنه لا يرى أن مفهوم الالتزام ينحصر فقط في الاتجاه الواقعي الاشتراكي، بل حاول رصد فكرة الالتزام لدى اتجاهات أخرى وخاصة الإسلامية منها، وذلك انطلاقا من اقتناع مبدئي ترسخ لديه، ومفاده أن فكرة الالتزام لم تكن دوما حكرا على الكتاب الواقعيين الذين انطلقوا خصوصا من الفلسفة الواقعية الاشتراكية، كما توهم بذلك أغلب مراجع التيارات الروائية، وإنما هي فكرة شاملة لأغلب الأعمال الروائية التي خلفها الروائيون العرب منذ جيل الرواد إلى يومنا هذا. (الكتاب، ص8)

لقد عمل المؤلف على إزاحة التعتيم المضروب على كُتاب الرواية الإسلامية، والذين نجحوا بدورهم في بلورة رؤية إلتزامية ضمن أعمالهم الروائية انطلاقا من مصادر دينية إسلامية. ولعل الاهتمام بهذا التيار الإسلامي، هو من أبرز الإضافات الجديدة، التي اجتهد المؤلف في تحقيقها بالرغم من انعدام المراجع والدراسات التي لها علاقة مباشرة بفكرة الالتزام الروائي في مفهومها الإسلامي، خاصة من خلال نموذج نجيب الكيلاني.

وقد عالج المؤلف قضايا وفصول هذا العمل من خلال منهج نقدي تحليلي عام اتجه إلى رصد الظاهرة الالتزامية من خلال العمل الروائي مباشرة، عن طريق استنطاق النص الروائي وأهم مكوناته الالتزامية. وإلى جانب هذا المنهج استعان ببعض آليات المنهج التاريخي والمنهج الاجتماعي معا دون التقيد بهما حرفيا.

كما وظف بعض معالم آليات المنهج الاجتماعي التي تربط بين العمل الأدبي، وبين كاتبه، وواقعه؛ وقد أوقع هذا الاستئناس ببعض آليات المنهج الاجتماعي في التركيز أحيانا على الجانب المضموني للعمل الروائي على الجانب الشكلي. (الكتاب، ص: 9)

وذكر ببعض المفاهيم المعينة على استيعاب الموضوع ومنها: الالتزام ودلالته، دون التقيد بتعريف محدد وخاص باتجاه أو مدرسة اتخاذ الأديب نقدية معينة، وإنما تناول الالتزام بمفهومه العام. والمفهوم الثانى: الخاص بالرؤية، حيث تعامل أيضا مع مصطلح الرؤية بمفهومها العام والشامل لكل الأفكار والقيم التي يكتسبها الفنان من محيطه الاجتماعي ومن تكوينه الثقافي، ومن موروثاته الحضارية أيضا، وحتى من خبرته الذاتية. أما المفهوم الثالث فهو جنس الرواية، وقد بسط فيه الكلام بخصوص تعريف الرواية ضمن المبحث الأخير من الفصل الأول واستنتج من خلاله استحالة تقديم تعريف جاهز ومحدد لهذا الجنس السردي العجيب، والذي تباينت مفاهيمه بتباين المدارس الروائية المختلفة.

لقد تمت معالجة قضايا هذا العمل من خلال أربعة فصول:

  • الفصل الأول: حاول فيه تقديم بعض المفاهيم النقدية والتصورية حول مصطلح الالتزام، وحول علاقته بالفن الروائي وذلك من خلال ثلاثة مباحث، مبحث خاص بتحديد مفهوم الالتزام ومكوناته الفكرية والفنية العامة انطلاقا من آراء مجموعة من الدارسين، ومبحث ثان ركز فيه على  مفهوم الالتزام لدى أشهر الفلسفات الإلتزامية وهي الماركسية والوجودية ليختم  هنا،  بمبحث مركز عن الالتزام وعلاقته بالرواية، على اعتبار الرواية أقدر الأجناس الأدبية على ترجمة رؤية التزامية واضحة.
  • الفصل التاني:  قدم مقاربة تنظيرية لفكرة الالتزام كما طرحها رواد الاتجاه الإسلامي في العصر الحديث بغية الخروج بتصور عام يتحدد من خلاله مفهوم الالتزام من وجهة نظر دينية إسلامية وهو نفس المفهوم الذي لمس تجلياته في العمل الإبداعي شعرا ونثرا روائيا.
  • الفصل الثالث: خصصه للدراسة التحليلية لبعض النماذج الروائية. حيث عمد في مبحث أول إلى رصد أولى خطوات الالتزام بمفهومه الإسلامي لدى بعض رواد الرواية العربية خاصة كما تجلت خصوصا عند كل من علي أحمد باكثير وعبد المجيد جودة السحار. فيما خصص المبحث الثاني من هذا الفصل للروائي نجيب الكيلاني متتبعا فيه أهم معالم رؤيته الالتزامية كما ترجمها في بعض رواياته باعتباره أحد أهم الروائيين الإسلاميين الذين انطلقوا من خلفية دينية إسلامية في تقديم إبداع روائي ملتزم.
  • الفصل الرابع: خصصه لدراسة علاقة البناء الفني بالرؤية الالتزامية، وذلك تحت عنوان “الرواية الإسلامية وقضية البناء الفني”، حيث حاول إثبات فكرة الارتباط الجدلي بين الجانب المضموني، والجانب الشكلي في العمل الروائى، وذلك من خلال التركيز على تقنيتين سرديتين رأى أنها أهم تقنيات العمل الروائي العاكسة لرؤية الكاتب الالتزامية، ويتعلق الأمر بتقنية البناء الفني للشخصيات وتقديم البطل، وتقنية الراوي ووجهات نظره المختلفة وأثرها في تشكيل الرؤية الالتزامية.

وختم الروائي عمله بخاتمة استيعابة عامة، سجل فيها أهم النتائج التي توصل إليها في هذا البحث.

خلاصة

تبدو الدراسة مزدوجة المعالجة والرؤية، لأنها رامت البحث في الـنوع والمفهوم في شكل من أشكال الرواية وفي فكرة مجردة تنطلق من تصور عام وشامل للكون والحياة والانسان، وهو التصور الإسلامي الذي يتجاوز تصور البشر ولا يعدله أي تصور من التصورات الوضعية لأنه فكر متسام ورؤية متعالية تحيط بكل شيء وتتخلل كل شيء. لقد حاول المؤلف لم شتات فكرة التزامية إسلامية متكاملة، بسط فيها الجانب النظري والجانب الإبداعي، كما قدمه، عدد من الروائيين، على رأسهم الدكتور نجيب الكيلاني، مما أكد وجود تيار التزامي إسلامي، يستمد معطياته الفكرية والنقدية والإبداعية، من رحابة التصور الإسلامي الشامل، ولعل هذا الأمر من أهم ما أفلح في تجلياته وإضافته.