بعد التطرق في الجزء الأول لأهم الدراسات السوسيولوجية في أبعادها النظرية والمنهجية والمعرفية كذلك، ننتقل في هذا الجزء إلى تسليط الضوء على أهم الدراسات التي رامت مقاربة مواضيع متنوعة لكن الناظم المشترك بينها هو الاشتغال بتخصص معرفي قريب من السوسيولوجيا، وتحديدا الدراسات الأنثروبولوجية التي أنتجت مؤخرا في السياق العلمي المغربي.
فعديدة هي الدراسات الأنثروبولوجية والإثنوغرافية التي رامت تفكيك الرمز والدلالة والمعاني الثقافية وتحليل التمثلات المرتبطة بالثقافات التحتية، وأخرى ركزت على البعد الطقوسي، في حين اهتمت دراسات أخرى بالتقصي في مظاهر تقليدية عادت لتطفوا على سطح المشهد الاجتماعي فارضة نفسها على أجندة الجماعة العلمية محليا.
من بين أهم ما أنتج محليا في السنتين الأخيرتين (2020-2022) عمل أنثروبولوجي، للأستاذ يونس الوكيلي الأستاذ الباحث بجامعة محمد الخامس، والذي اشتغل على موضوع بات من القضايا التي تثير جدلا واسعا سواء في النقاشات العامة أو على وسائل التواصل الاجتماعي، أو في اللقاءات العلمية؛ وهو موضوع الرقية الشرعية، فالوكيلي ومن خلال كتابه المعنون ب: “أنثروبولوجيا الشفاء: الرقية الشرعية وصراع أنماط التدين” الصادر عن “المركز الثقافي للكتاب”. ويعتبر المؤلف الرُّقية الشَّرعيَّة ظاهرةً جديدة في شكلها ومضمونها واشتغاليَّتها، تتميَّز عن الرُّقية التَّقليديَّة السَّائدة من قبلُ في المجتمع المغربيِّ، وفي تصوُّره نتجت هذه الرُّقية الشَّرعيَّة عن التَّحوُّلات الدِّينيَّة الَّتي عرفها المجتمع المغربيُّ منذ الثَّمانينيات من القرن الماضي، المتَّسمة بشيوع التَّديُّن السَّلفيِّ الوهابيِّ القادم من المشرق العربيِّ بمشروعٍ دينيٍّ تطهُّريٍّ يسعى إلى الانتشار الاجتماعيِّ في المجال الحضريِّ، والتَّجذُّر في معتقدات وممارسات المغاربة، فكانت الرُّقية الشَّرعيَّة إحدى الوسائل الَّتي استخدمتها السَّلفيَّة الوهابيَّة لتحقيق هذه الغاية. يأخذ الشَّكلَ الَّذي اتَّخذته منذ العقدين الأخيرين في إطار ممارستها في مراكز متخصصِّة للرُّقية الشَّرعية[1].
في نفس التخصص المعرفي صدر لأستاذة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بذات الجامعة الأستاذة حنان حمودا، كتاب “الماء وصناعة المقدس دراسة أنثروبولوجية لبنيات المجتمع الواحي بالمغرب” منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ويتعلق الأمر بدراسة أنثروبولوجية لبنيات المجتمع الواحي بالمغرب ضمن 326 صفحة، حاولت نقل موضوع الماء إلى موقع أنثروبولوجي بارز عبر فتح مجموعة من بؤر النقاش والتفكير، والوصف والتحليل لمقومات ومرتكزات النظام الاجتماعي الداخلي.
وتقول حنان حمودا، الحاصلة على الدكتوراه في علم الاجتماع في تخصص سوسيو-أنثروبولوجيا الماء والموارد، إن موضوع «الماء وصناعة المقدس» تتبع للخبرة المحلية ومجموعة من الطقوس الزراعية والمائية، والمعتقدات الدينية الناظمة لحقل التصورات وحقل الممارسات داخل نظام الواحة. وتردف الباحثة، بأن مساءلة جغرافية الموارد المائية في فضاء الدراسة أدت إلى رفع الستار عن مهرجان متنوع ومتسلسل من الطقوس المائية المرتبطة بحركية الفصول الفلاحية والزراعية، وهي المعبرة عن نظام من التفاعلات الاجتماعية، وعن صورة وتمثل «المقدس» من لدن الساكنة المحلية.
من زاوية أخرى وفي عمل مغاير من حيث الموضوع صدر للباحث عبد الرحيم العطري كتاب بعنوان “ أنثروبولوجيا الحج الإسلامي: من التجربة الدينية إلى النقد المنفتح“، عن منشورات باب الحكمة، الطبعة الأولى 2021. يحتوي الكتاب 377 صفحة بالقطع المتوسط، ويضم أربعة فصول رئيسة أو ما يسميها الباحث بالعتبات، بالإضافة إلى الملاحق والفهرس.
يعنون الفصل الأول بالتفكير في الحج، والفصل الثاني بالحج معاشاً/ملاحظاً، والفصل الثالث بجوارات الحج، والفصل الرابع ما بعد العتبات مدخل إلى النقد المنفتح.
اعتمد الباحث على تقنية الملاحظة، والملاحظة بالمشاركة بكونه باحثا مسلما يحق له الولوج لأماكن الحرم من أجل تأدية فريضة الحج، كما اعتمد المقابلة مع الحجاج والمعتمرين من أجل فهم المعنى الذي يعطيه الفاعل الديني لكل محطة من محطات الحج، متجاوزاً بذلك المنهج البنيوي في قراءة الظاهرة الحجية، منفتحاً على التأويل والتأويل المنفتح ضمن ثنائية الذاتي والموضوعي[2].
عمل الأستاذ بجامعة محمد الخامس، الدكتور عبد الرحيم العطري، في هذا الكتاب على تأويل الطقس والممارسة الحجية والوقوف على دلالتها المختلفة والمتنوعة، تأويلا منفتحا يمتح من التجربة الذاتية للممارسة الطقوسية دون التفريط في أوليات المنهج العلمي الموضوعي. وقد تجاوز العطري في كتابه الرؤى الشمولية البنيوية في الاشتغال على الظاهرة الحجية، محاولا دراسة كل طقس وتأويله بما يتيح فهما أعمق لمختلف الممارسات التدينية والطقوسية في شعيرة الحج.
أما آخر الأعمال فهي بنفس إثنوغرافي معنون “فكيك الواحة المكلومة: إثنوغرافيات عالم معيش” من تأليف الباحثين: جمال فزة وحسن احجيج، الكتاب كما يصرح كتابه يهدف بشكل رئيسي إلى فهم واستيعاب أسباب التدهور البيئي للواحات وتراجع مقدراتها ليس من منطلق تقني يساءل البرامج التنموية، والمخططات الاقتصادية، بل يسلط الكتاب الضوء على واقع مدينة فجيج، الواقعة في أقصى نقطة شرق المملكة على الحدود مع الجزائر، وأحوال أهلها المتقلبة بين ضم الجارة الشرقية لأراضيهم وإغلاق الحدود بين البلدين وما ينجم عنه من خسائر على المستويين المادي والاجتماع، ويورد العديد من الشواهد للساكنة المحلية التي تتحدث عن الواقع المعيش للواحيين خاصة بفيكيك بنبرة مقارنة بين الأمس واليوم، وكيف أثرت التحولات المجالية والسياسية على أهل الواحة وكيف استحالت حياتهم إلى معاناة كبيرة بعد ضياع جزء من رصيدهم الاقتصادي والثقافي، وتحول الفضاء الواحي إلى منطقة طاردة ودافعة إلى الهجرة إلى فضاءات أخرى. (يتبع ج3)…
المراجع
[1] https://www.awaser.net/.[2] https://www.awaser.net/.