المقاوم محمد الرزقطوني

مرحلة التلقّي؛ تربية وتعليما ووطنية

جَرَتْ حِكمةُ الله بَأنْ يُولَد الصبّي محمد في زمن مخيف، سنة 1927، في عِزِّ اشتداد المعارك في الريف بين حَرَكة الأمير ابن عبد الكريم الخطابي والاستعمارَين الفرنسي والإسباني، وبَعد ثلاثِ عشرةَ سنواتٍ مِن تفعيل نظام الحماية الجائر. في ظِلالِ أسرة الأبُ فيها مِن أصول شياظْمية، آتٍ من منطقة “سيدي بوزرقطون” بضواحي مدينة الصويرة الحالية، وأُمٍّ من أصول فاسية. رُبِّــيَ الفَتى على الاستقامة وحب الإسلام والوطن، وأُدْخِل الكُــتَّاب القرآني فخَرَج منه حافظا لكتاب الله، ثمَّ تَلَقّى علوم العربية على يَدَيْ فقيه الزاوية الحمدوشية السيّد الفكيكي[1]. وقد كان محمد سريع الفهم؛ مَثَار إعجاب أسرتك وذويه وجيرانه. وتقديرا لما يحمله في الصدر من عِلم ونور القرآن؛ أَمَّـرَه النّاس ليؤُمَّ بِـهِم صلاة التّراويح في رمضان بمسجد السوق، في المدينة القديمة بالدار البيضاء. كما كان دائم حضور المواسم والمناسبات الدينية في زاوية والده. بَعدها انتقَل للدراسة في المدرسة العـبدلاوية التي بُنيت سنة 1361 هجرية.

تَطلّع الشاب محمد الزّرقطوني إلى الدّراسة في القرويين؛ إلا أنّ أباه لم يَسْتَسِغْ ابْـتِعَاده عنه، فعَوضَه عن هذا الـمبتغى بأنْ افــتَــتح له مكتبة صغيرة جِوارَ مَقر سكناه ليبيع الكتب، واهتبلها الشاب الزرقطوني فرصة سانحة للمطالعة والقراءة الحرة. وبِـعِـصامية؛ تَعَلَّم اللغة الفرنسية وقَرأ آدابها.

تَرعرع في مركز الوعي الوطني بحاضرة الدّار البيضاء؛ المدينة القديمة، وشُحِن بالجو النّضالي الذي كانت عليه السّاكنة ونخبتها الوطنية المخلِصة، وصَاحَبَ والِدَه القَــيِّمَ على الزاوية الحمدوشية، وتَلقى منه أصول التدين والوطنية والنضال معا.

بَرَزت دوافعهُ الوطنية والنضالية في سِنّ مبكّرة، حيث ساهم _ وهو ابن 16 سنة _ في تأطير مجموعة مِن التَّلاميذ ضِمن فَصِيلة أَطلَق عليها (فصيلة خالد بن الوليد)، يُعَلِّمهم القراءة، ويُعبـأهُم بالوطنية، ويُحفّظهم الأناشيد الحماسية، ويَغرِس فيهم القيم الدينية، ويُشاركهم بَعض ما تَعلَّمهُ في خرجات ومخيمات الكشفية الـحَسنية التي كان يَنشط فيها، ويُحبِّبهم في مبادئ حزب الاستقلال الذي انخرط في صفوفه حينذاك.

بواكير نضالات الزرقطوني ضد الإحتلال

تُـؤكد شهادات مُتَواتِرة في حق محمد الزرقطوني؛ أنّه كان شابا مُفْعَما بالحيوية، أنيقا في كل شيء، حريصا على نظافة هندامه، ووفِــيّا لأبَوَيه، مُطيعا لهما، ومُحِبا لأخواته البنات الثَّلاث. كما شُهِدَ لهُ بالشَّغَفِ بالمطالعة، والولَع بالرياضة، ولا سيما كرة القدم، التي من شِدة حبه لها أسّسَ “فرقة المـيلودية البيضاوية”[2]. كما أكدَ مَن عَرفوه؛ أنه كانَ يَنْفر مِن التّـقاليد البَالية والمعتقدات الـخرافية، ويَتسِمُ برُوح المسؤولية، والهدوء، ولكن خلْف هذا الهدوء كانت تَنطوي شخصية ثائرة على الظُّلم، ثورية في اتخاذ القرارات المرتبطة بالوطن، لم تَصْرفْها مَلْهيات الوقت ولا شؤون العائلة ولا التّجارة والتكسّب ولا العِلْم عن الاهتمام بما عليه حال الشعب المغربي، وبما يعيشه الوطن من آلام.

تَـميز محمد بن علي الزرقطوني بحسٍّ وَطني ونَقْدِي عالٍ ضد الاستعمار، وهو الذي نشأ وتَرَعْرَعَ يَرى المستعمِرِين يَصُولُون ويَـجُولُون خِلال الدِّيار، ويَنْشُرونَ الرُّعب آنَاء اللّيل وأطْراف النّهار، ويَسْتَحوذُون على الغِـلال والمحاصيل والأشجار والثّـمار، ويَـجْنُون الأرباح مِن الـبَـرِّ والبحر وباطن الأرض والأنهار، ويُضيِّـقُونَ على السَّاكنة في أرزاقها وحرّيتها وكرامتها ودينها، ويَسلبون السلطان قوامَتَهُ وشَرْعيَّته. فكانت لهذه الأحوال المزْرِية وحوادث التنكيل والظّلم الاستعماري في حقّ ساكنة أحياء درب الكبير ومديونة وكراج علال وابن مسيك _ تزامنا مع تَوَجه السلطان محمد الخامس لإلقاء خطابه التاريخي في المنطقة الدولية؛ طنجة، وتَـبَــنيه خطابَ ومواقفَ الحركة الوطنية_ وارتقاء شهدائها عند الله؛ بالغ الأثر في نفسية هذا الوطني المتوقّد الغيور، فانطَلَق مُستَقْطِبا الإرادات الشابة التواقة للحريات والتضحية بالذات في سبيل الوطن، فأَسّس بِهم خلية “القانون المحروق” سنة 1948.

في السنوات الموالِيات؛ سيَعمل الشَّـهيد على واجهتين؛ خاصَّة؛ حيث تَزَوّج ورُزِق بثلاثة أبناء، ولـمّا كان صَدى الملحمة الريفية ما يزال حاضرا وساريا في البلاد، ومؤثِّرا على الشباب الوطني، وكان الزرقطوني وَلِعا بشخصية الأمير محمد بن الكريم الخطابي، ومنبهرا بإنجازاته العسكرية والسياسية ضدّ جيش الاحتلال الإسباني، ومُعجَبا بروحه المقاوِمة؛ فإنّه اتخذ لابنه البِـكر اسم “عبد الكريم” تيَمُّنا بالأمير الـمجاهِد الفاضل. وسُرعان ما توفيت البنت الكبرى للــزرقطوني؛ بديعة، ثُمَّ توفيت زوجُهُ هنية سنة 1951، تاركة خَلفها رَفِيقا يُكابد تباريح الوحدة. وعامَّة؛ بمواصلة الـعمل الفدائي ضدّ الـمحتلّ وأذنابه، مدشنا مرحلة مِن المكابَدة ووطأة الهروب مِن تَرَصُّدات المنظومة الأمنية الفرنسية ومضايقات المخبِـرين؛ مِن الأقربين في اللغة والوطن والدِّين، والأبعدين الـمُجَـنَّدِين في صُفوف الاسْتعماريِّين.

واصَلَ الزرقطوني الاستثمار الوطني والتّعبئة السياسية في حَدَث عيد العرش فَـنَظَّم نشاطا ضخما احتفالا بالذّكرى الفضية لعيد العرش، وذلك سنة 1952، وفِــي لَفْتَة سياسية قيمة؛ أَكد قريبُ الزرقطوني، الأستاذ أحمد الإبريزي أنَّ الشهيد إبّان انخراطه في التحضير للاحتفال بِعِيدِ العرش كان يحرص على اقتناء الأعلام الوطنية للبلدان المغاربية الشقيقة، ويحضّ شُبانَ لـِـجَانِ تزيينِ مدينة الدار البيضاء على وضْع تلك الأعلام جَـنْبًا إلى جنب مع العَلَم الوطني المغربي، للتأكيد على وحدة المصير، وما يجمع المغاربيين مِن قواسم مشتركة وتضامنات عابرة للحدود الاستعمارية الوهمية.

ثمَّ خَطّط ونَفَّذ العملية المعروفة بــ”السّوق المركزي”[3] في الدار البيضاء، ونَظَّم عمليات دخول السلاح مِن الشمال إلى المنطقة السلطانية، وما كانَ يَقتضيه ذلكَ من دُرْبة وفِطنة ونبوغ ميداني في تدبير العمليات والحفاظ على سَيْر التنظيمات الفدائية. هذه الحركية الدّؤوبة والنشاط النضالي للمُقاوم الزرقطوني؛ جَعَلَهُ تحْت أنظار سُلُطات الاستعمار، مما اضطرّه لتحقيق مُعادَلَة معاكِسة؛ الخروج مِن العلنية إلى السِّرية، فلجأ إلى المقاومة مِن أسفل، بشخصيةٍ لا تُرى ولا يَصِل إليها الجواسيس والأمن الفرنسي.

فغَيَّـر عَـمَلَه مِن تجارة الأثواب إلى تجارة الأخشاب؛ وكِلا المهنتين، اختارهما الشّهيد طواعية، وفي نفسه شيء مِن كُــرْهِ العَمَل موظَّفًا في المؤسَّسات التي يُديرها الاستعمار. وأيضا؛ اختار هاتين المهنتين؛ ليكون على صِلة بالطبقة العاملة، تأطيرا، وتحضيرا للثورة الفدائية.

تأسيس أنوية العمل الفدائي بالمجال الحضري

جاءَ حادِثُ نفي السلطان محمد الخامس فأخْرَجَ المقاوِمَ الزرقطوني مِن تجربته النضالية وفق منطق السرية، إلى المقاومة العلنية تارة أخرى، كما أخْرَجَه عَن طَوْرِه، وأغضَبَه كثيرا، فَبَادَر مَعِـية زُملائه المقاومين في الدار البيضاء بتأسيس خلية فدائية أطلقوا عليها اسم “اليد السَّـوداء”، التي قرروا مِن خلالها تحدِّي الاستعمار، ومجابهتِه باللّغة التي يَعرفها؛ لغة البندقية. فسَاهمَ الشهيد محمد في تحشيد الرّأي العام للانتفاض ضدّ اغتيال النقابي التونسي فرحات حشّاد، والخروج في تظاهرات عارمة في الثامن من دجنبر 1952، تَلاهَا بالتخطيط والإشراف بصفةٍ شخصية هاته المرّة؛ على عملية محاولة نَسْفِ التمثال الشهير للجنرال لْيوطي، إلَّا أنَّ العملية فشِلَت. تَلاها بالإشراف على عملية اغتيال محمد بن عرفة في مراكش، والتي نَجا منها السّلطان الـمزيَّف بأعجوبة.

إثْـرَ ذلك؛ شَنَّت السلطات الاستعمارية حملات شعواء وكَشَّرت عن أنياب السلطوية والاستبداد، فأيْقَنَت خلايا العمل الفدائي كُبرى يقينياتها في انتهاج خيار المقاومة الـمسلَّحة ضدّ العدوّ، فكانتْ أنْ قامت بتنظيمِ عمليات اغتيالٍ في حقّ بعض الخونة والعُملاء، لأنَّ الزّرقطوني “كان يَعتبر الخونة الخطر الأكبر على الوجود الوطني” حسَب شهادَة الأستاذ أحمد الإبريزي في كتابه: “قِـيمٌ إنسانية صَنعت فِعل الشهادة”[4]، وبادَرت المقاومة أيضاً بإشرافٍ من الزّرقطوني على تنظيم أحداث 6 شتنبر 1953، فدوَّخَ بهذا العمل الفدائي سُلطات الاستعمار، فأصبح مَطلوبا لَدى أجْهِزته، ومُطَارَدًا بِـهُوية مُزَيَّفَة واسم مُستعار، مَنَامُه بغابة عين الشق، ونهارهُ بَين أزقّة البيضاء وشَوارعها.

امتاز الزرقطوني بدهاءٍ وفِطنة؛ مَكَّـنَـتاهُ مِن كسْبِ المصداقية والثقة في صفوف الفدائيين، وأتاحت له التنقّل لتأسيس مشاريع خلايا المقاوَمَة في بوادي الدار البيضاء، وفي مدن الرباط والقنيطرة وفاس ومراكش. ولم يَكن هذا العمل يَتمّ بعشوائية واعتباطية؛ بل بتخطيط ودراية بالأوضاع السياسية والأحوال الاجتماعية والبيئات الجغرافية. غير أنَّ تشديد المراقَـبَة على الرّجل صارَ مع الوقت شيئا يُنذِر بالخَطر، وأضحى هَمُّ الإقامة العامة الفرنسية إيجادُ الزرقطوني واقتلاع هذا الضِّرْسِ الذي أَزْعَجَ الرّأس الاسْتِعماري، فَجَنَـّدَت الأجهزة الأمنية الفرنسية الجواسيسَ واشْتَرَت الخونة الذين دَلّوها على أماكن تنقّلات الشهيد، ونوعية علاقاته. وفي الـمقابِل؛ تَفطّن الشهيد لما يُحاكُ له، وحالَ مراراً دون اعتِقاله، وأعلَنَ بتحدٍّ “لن يَقْبِضَ المستعمِر إلاّ على جثّتي”[5]، ووَفَــّى بهذا الـمبدأ، ورَحَل يوم الجمعة المبارَك 18 يونيو 1954 بَعدَ أنْ تَـناوَل حبَّة السمّ أثناء اعتقاله مِن وسَطِ بَيتِه واقتياده للسَّجن، دُون أْن يَنْبِس بِـبِـنْتِ شَفَة، أو يَـنْــتَــزع مِنه المستعمِر مُعْطًى أو معلومة أو اسمَ شخص مِن قادة المقاومة ومناضليها. وغادَر دُنيانا مُنْتَصِبَ القامة يمشي نحو خاتمة حياته البطولية.

إنَّ هذا الشّاب الألمعي الوطني قَادَ المشروع الفدائي من نُقْطَةِ الصِّفر في الاحتكاك بالاستعمار، وتَـحَمَّل الصِّعاب في سبيل ذلك؛ قَدْ شَكَّل مَنَارة اقتداءٍ لـمَن أتَى بَعده من رموز الفداء، الذين استَكْمَلوا مشروع المقاومة والتّحرير، وكانت تضحياته كما استِشهادُه؛ سبباً في استِمرارِ شُعْلة الـمقاومة متوهِّجة طيلة سنواتِ، وبَقاءِ مُكَوِّنَاتها متماسكة، ونضالاتها تُؤتِي أُكلَها، إلى أنْ استَعَدْنا عهْدَ الحرية والاستقلال.

المراجع
[1] وحيد محمد، معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، ج 14، 2001، ص 4640.
[2] مجلة الذاكرة الوطنية، العدد 23، سنة 2014، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
[3] مجلة الذاكرة التاريخية، العدد 8، سنة 2005، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
[4] الإبريزي أحمد: "محمد الزرقطوني، قِـيمٌ إنسانية صَنعت فِعل الشهادة، منشورات مؤسسة الزرقطوني للثقافة والأبحاث، الطبعة الأولى 2015، ص 23.
[5] الشهيد الزرقطوني وامتداد مشروعية النضال، مجلة المقاومة وجيش التحرير، العدد 42، مارس 1996.