
المحتويات
مقدمة
الرايس محمد أَلْبْنْسيرْ أو الدّمْسيري، واحد من أكبر الشعراء الأمازيغ بالمغرب، وحلقة رائدة في سلسلة ذهبية من الشعراء والرْوايْسْ الذي طبعوا الفن الأمازيغي لقرون عدة وخاصة في منطقة سوس والأطلس الكبير. وتمتد هذه السلسلة من النابغة الشاعر سيدي حمو الطالب في القرن الثامن عشر الميلادي مرورا برائد الموسيقى الأمازيغية المعاصرة الحاج بلعيد في بدايات القرن العشرين، إلى أن وصلنا إلى الحاج محمد الدمسيري في النصف الثاني في القرن العشرين، وبينهم عدد كبير من الشعراء و”إِمْدْيَازْنْ” و”إِنْضَامْنْ” والروايس، دون أن ننسى الأجيال التي أتت بعدهم إلى يومنا هذا، والذين مازالوا يبدعون في فن الروايس (تِرٌّويْسَا) ويحافظون على هذا التراث الموسيقي الأمازيغي العريق. فقد بصم الرايس محمد أَنْدْمْسيرْ التجربة الشعرية والموسيقية الأمازيغية المعاصرة ببصمات لا تخطئها عين المتتبع، فأسس لمدرسة موسيقية أمازيغية كان لها الفضل في تخريج أجيال عدة من الروايس.
النسب والنشأة والنبوغ الشعري
هو محمد بن لحسن أجحود، ويعرف بالدّمْسيري أو أَلْبْنْسيرْ وأَنْدْمْسيرْ (أَلْدْمْسيرْ)، نسبة إلى قبيلة إِنْدْمْسيرْنْ. ولد سنة 1937 لأسرة فقيرة بدوار تامْسولْتْ المنتمية إلى قبيلة إنْدْمْسِيرْنْ في السفح الشمالي للأطلس الكبير (أَدْرارْ نْ دْرْنْ) والتي تتبع حاليا لجماعة تِيمْزْكَدِيوِينْ بدائرة إمي نْتانوتْ – إقليم شيشاوة (جهة مراكش آسفي). وعلى عادة أهل المنطقة دخل الطفل محمد إلى كتاب القرية لتعلم القراءة والكتابة، ومن أجل حفظ القرآن الكريم إلى أن بلغ قوله تعالى: “ولا تجادلوا أهل الكتاب” كما صرح بذلك في إحدى أغانيه.[1]
ورغم إلحاح والده ليسلك طريق العلم، فإن محمد الدمسيري اندفع نحو عالم الفن وموسيقى الروايس مدفوعا بالأجواء الفنية التي خلقها انتشار أغاني الجيل الأول من الروايس وخاصة الحاج بلعيد وبوبكري أزعري وأنشاد، وكذا بسبب نبوغه المبكر في إتقان آلة “الرِّبابْ” و”البْنْديرْ”. وهكذا قام بأول جولة فنية صحبة فرقة من الروايس في مناطق عدة من الأطلس الكبير وسوس، والتي جلبت له منافع فنية ومادية مهمة، فقرر على إثرها أن يلج فن الروايس كمهنة حياته.[2]
لقد كان شغف الدمسيري بالغناء والشعر كبيرا الأمر الذي منعه من متابعة دراسته وتحقيق رغبة والده في أن يصبح ابنه فقيها وإماما، فقد اجتذب الشعر والغناء فؤاد الفتى محمد مبكرا فانكب على تعلم واكتساب المعارف الأساسية للعزف والغناء وآداب الروايس من خلال اتصاله بمجموعة الرايس مولاي علي عام 1955م، ثم بمجموعة الرايس محمد موراك الذي تأثر به محمد ألبنسير بالغ التأثر، وتلقى عنه مهارات العزف على آلة “الرِّبَابْ”. وفي عام 1956 قرر بشكل نهائي امتهان الشعر والغناء وترك الدراسة بعد أن اتصل بالرايس احْمادْ أمْنْتاكَـ أثناء زيارته لقرية تامسولت.[3] وفي سنة 1961 هاجر ألبنسير إلى الديار الألمانية من أجل عرض فنه للعمال المغاربة المهاجرين، فقضى فترة من الوقت يتنقل بين سويسرا وألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا، ثم زار الجزائر.[4]
وبعد اكتساب التجربة وإتقان فن الروايس من خلال الاحتكاك مع رواد هذا الفن، وخاصة الروايس الجوالين، قام بتسجيل أولى أغانيه على أسطوانة عام 1961: “اللّاهْتْ ءالْحْبابْ”. وبالرغم استمراره في تسجيل أغاني أخرى طيلة سنوات ستينيات القرن العشرين، فإن شهرته وانتشار أغانيه بقيت متواضعة بسبب وجود رواد له السبق في هذا الميدان من أمثال عمر واهروش واحماد أمنتاكَـ. ولم يفتح له باب الشهرة والتميز والنبوغ في مجاله إلا بعد تسجيل قصيدة “لْكسيضا” (الحادثة) عام 1978، التي وصف فيها معاناته بعد حادثة السير التي تعرض لها في نهاية الستينات (1969) رفقة عائلة فرنسية في طريقهم إلى مدينة مراكش قادمين من مدينة أكادير، وهي الحادثة التي نتج عنها كسور في عموده الفقري أقعدته عن المشي على رجليه. وتوالى بعد ذلك إنتاجه طيلة سنوات السبعينات فنبغ في ذلك نبوغا كبيرا حتى تبوأ في سنوات الثمانينات صدارة الشعر والغناء الأمازيغي.[5]
أغانيه.. صورة لمعاناة البسطاء
تمكن أندمسير خلال حياته الفنية من إنتاج 566 قصيدة منظومة على جميع بحور الشعر الأمازيغي التقليدية إضافة إلى بحور جديدة ابتكرها بنفسه، هذا دون القصائد التي كتبها لغيره. وقد توزع تسجيلها بين الأسطوانات والأشرطة (كاسيط). ومن حيث الموضوعات تناولت قصائد وأغاني الدمسيري أغراض شعرية عديدة يمكن إدراجها ضمن خمس مجالات أساسية: الشعر الوصفي – الشعر الوجداني – الشعر الإجتماعي – الشعر الديني – الشعر السياسي. لكن كانت الغلبة في شعره للوصف والوجدانيات والوعظ الديني. وتميزت قصائده بالطول المفرط؛ ما بين 100 و150 بيتا، وأحيانا تجاوز بعضها المائتين.[6]
لقد كانت أغاني الحاج محمد الدمسيري صدى لقضايا المجتمع المغربي بكل فئاته، وخاصة الفئات المعدمة، كما كانت تنضح بكل معاني التضامن والمواساة، ورفض الظلم والطغيان والتفاوتات الاجتماعية، وقد نظمها صاحبها في أغراض متعددة؛ فغنى للأرض والفلاحة كما هو الشأن بالنسبة لأغنية “أَكَرْنْ” الدقيق (206 بيتا) التي غناها بعد الأحداث التي شهدتها مدينة الدار البيضاء سنة 1981 وما رافقها من قمع للمتظاهرين. كما غنى الدمسيري حول القضايا الدينية، فكان في غناءه واعظا متضلعا في القضايا الفقهية، ومحدثا شارحا للأحاديث النبوية وللآيات القرآنية كما هو الشأن في أغنية “لكتاب”.[7] كما لم ينس الدمسيري الغناء في قضايا الوطن كما هو الشأن بالنسبة لوفاة السلطان محمد الخامس في قصيدة “لْموتْ نْ محمد لْخامس” والتي وصف فيها وفاة محمد الخامس وحزن الشعب المغربي بادية وحاضرة لفراقه كما أورد فيها وصايا لوارث سره ولي العهد وقتذاك الراحل الحسن الثاني، مذكرا بكفاح العرش والشعب أيام المقاومة والنفي وبمكانة المغرب الدولية.[8]
خصائص شعر وموسيقى الدمسيري
رغم تعدد خصائص الفن الشعري والموسيقي للدمسيري فقد أجملها الأستاذ الباحث أحمد عصيد في العناصر الثلاثة الآتية[9]:
- الإحكام العروضي وقوة الصياغة والسبك، حيث كان الدمسيري حريصا على تنقيح شعره وتمحيصه بعد كتابته حتى يكون خاضعا لقواعد النظم الشعري وأوزانه.
- حسن الربط بين المضامين المتعددة للقصيدة، فقد كان للدمسيري كفاءة كبيرة في الربط المنطقي بين الصور الشعرية الواردة في القصيدة الواحدة عكس ما كان عليه الأمر عند الشعراء القدماء الذين كانوا يميلون إلى الاختزال.
- الابتكار في التصوير وتجاوز الأدوات الرمزية التقليدية، حيث كان يلجأ بكثافة إلى التصوير الرمزي والإيحائي التخيلي في شعره وخاصة في شعره السياسي.
أما الجوانب الموسيقية في غنائه، فإن الدمسيري وضع ألحانا خاصة به وعزفها، فأهله ذلك أن يكون نموذجا للرايس “الكامل” الذي ينظم ويلحن ويغني في ذات الوقت. واعتمد في موسيقاه على آلات تقليدية معروفة في مجال فن الروايس، وعلى رأسها آلة “الرِّبابْ” التي كان هو من يعزف عليها بنفسه، كما يرافقه عازفان على آلتي “لوطارْ”، بالإضافة إلى ضارب على الطارة “تالونت” وآخر على الناقوس، كما تم إدخال آلة “الطامطام” فيما بعد في إيقاع موسيقاه، وأولى اهتماما خاصا بإيقاع رقصة تاسكوين الأمازيغية.[10]
وفاته
في أواخر سنوات السبعينات وبعد أداءه لمناسك الحج استقر الدمسيري مع فرقته الموسيقية بمدينة الدار البيضاء، وفي هذه الأخيرة توفي بمصحة الضمان الاجتماعي بدرب غلف يوم 11 نونبر 1989 ودفن بمقبرة ابن امسيك سيدي عثمان، وذلك بعد دخوله في غيبوبة استمرت ل 24 يوما.[11]
خاتمة
رغم التحولات التي طرأت على الموسيقى الأمازيغية وفن الروايس على وجه الخصوص، مع دخول آلات موسيقية جديدة إلى ميدان الغناء الأمازيغي تحت تأثير الإيقاعات العربية وبروز الظاهرة الغيوانية، فإن الرايس الحاج الدمسيري أصر على الحفاظ أساليب سابقيه في التلحين ورفض الطرق الجديدة التي اتبعها غيره، كما ظهر ذلك في استمراره في تأدية لألحان قديمة، وإصراره على شعر الوعظ الديني. وقد لجأ إلى التجديد في حدود ما يخدم رسالته الفنية، وفي حدود إمكانياته الصوتية الشخصية. فقد كان أندمسير من الروايس الرواد الذين كانوا ينظرون إلى فن الروايس باعتباره رسالة ومسؤولية ثقيلة، الأمر الذي جعله في السنوات الأخيرة يوجه نقدا لموجة الغناء الجديد وللجمهور الأمازيغي منددا بالنشازات المائعة وانحطاط الذوق الفني.[12]
المراجع
[1] مستاوي محمد، الشاعر الرايس الحاج محمد الدمسيري.. حياته، وقصائد مختارة ومعربة من شعره، ج1، مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء، ط3، 2003، ص 07.[2] مستاوي محمد، الشاعر الرايس الحاج محمد الدمسيري...، مرجع سابق، ص 08.
[3] عصيد أحمد، معلمة المغرب، ج 3، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ودار الأمان، ط2، 2014، ص 829.
[4] عبد الرزاق السنوسي معنى، محمد الدمسيري.. عميد ورائد الأغنية الأمازيغية، جريدة افتحاد الإشتراكي، 22 غشت 2013، أنظر الرابط: https://www.maghress.com/alittihad/180490 .
[5] عصيد أحمد، معلمة المغرب، ج 3، مرجع سابق، ص 829-830.
[6] عصيد أحمد، معلمة المغرب، ج 3، مرجع سابق، ص 830.
[7] مستاوي محمد، الشاعر الرايس الحاج محمد الدمسيري...، مرجع سابق، ص 09-11.
[8] مستاوي محمد، الشاعر الرايس الحاج محمد الدمسيري...، مرجع سابق، ص 25-33.
[9] أنظر: عصيد أحمد، معلمة المغرب، ج 3، مرجع سابق، ص 830.
[10] عصيد أحمد، معلمة المغرب، ج 3، مرجع سابق، ص 830.
[11] عبد الرزاق السنوسي معنى، محمد الدمسيري.. عميد ورائد الأغنية الأمازيغية، جريدة "الإتحاد الإشتراكي"، 22 غشت 2013، أنظر الرابط: https://www.maghress.com/alittihad/180490 .
[12] عصيد أحمد، معلمة المغرب، ج 3، مرجع سابق، ص 830.