توطئة

أصْلُ هذا النّص الثّمين الذي نقدِّمه للقراء؛ محاضرة فكرية ألْقاها الأستاذ علال الفاسي يوم الجمعة 16 أكتوبر 1959 برحاب الغرفة التجارية بالرباط، وذلك في إطار فعاليات الموسم الثقافي الذي كانت تنظِّمه اللّجنة الثقافية لحزب الاستقلال، وقد كان مِن نصيب الزّعيم الوطني أن يَفتتح موسم 1959 بمحاضرة قيمة جامعة نافعة في موضوع الحرية“، حضَرْتها شخصيات حزبية ودبلوماسية عربية ومغربية، وجَمّ غفير من أعضاء حزب الاستقلال وبعض المثقفين والإعلاميين.

حَرَّر علّالٌ القول في محاضَرَته/كتابِه “الحرية” في مواضيع كثيرة ومقلِقة باعتبار الظرفية التاريخية وقتئذٍ، فَعالَـجَ بسَلاسَةٍ منهجية ويُسْرٍ معرفيٍّ الفروقَ بين الحرية المطلَقة ومفهوم الحرية في اﻹسلام، وناقش الحريات المدنية برحابة وائتمانية، ثم فَصَّل الحديث في الحريات الخمس: القومية والشخصية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.

كتاب صغير .. أثَره كبير 

عمِلت مؤسّسة علال الفاسي على جَمع وترتيب وتحرير المداخلة المذكورة في كتابٍ من الحجم الصغير، ضمن سلسلة “الجهاد الأكبر”، العدد 14، وصدر عن مطبعة الرسالة بالرباط، سنة 1987، وبقِيَ مِن حِينِه في هذه النّسخة إلى أنْ أعادَت مؤسسة علال الفاسي مؤخّرا طَبعه في حُلة أنيقة ضمن منشوراتها.

يَبْسُط الكتاب للنّقاش قضيةً وقيمةً لها اعتبار في الماضي والحاضر؛ وعليها مَدارُ رَحى مَطالِب الأمة المغربية والعربية والإسلامية تَدور، ومِن أجْلِها خرائطُ جديدة يَتِمّ رسمها هنا وهناك، وفي العالم، إلى أنْ يشاء الله، ما دام الصّراع بين الـمستبدّين والـمُستَضْعَفين والغُزاة والمقاومين وطُلّاب الحرية وأعداؤها.

فموضوع الحرية حَسَب الكاتب “يَشْمل كلّ ما يَجيش بخاطر المغاربة، وكل ما يَشغل بالهم”[1]، ومِن أَجْلِها خاض الشّعب المغربي بتأطير مِن الزوايا والفقهاء والمجاهدين _ وفي سياق لاحقٍ _ خلايا المقاومة وجيش التحرير وطلائِع الوطنية المغربية كُبرى معاركهم مِن أجل التّحرر والكرامة والسيادة، والرغبة في العيش في ظلال الإسلام واللغة العربية والقوانين الشّرعية والخصوصيات المحلية، ومن أجل الحرية رَفضوا وجودَ المستعمِر فوق تراب بلادِهم فقاوموه واستردَّوا عهْد الاستقلال وفَجْر الحرية سنة 1956.

إنَّ هذا الكتاب ذا أثَر كبير في الفكر الوطني وفي العمل الحزبي والسياسي بالمغرب الراهن، لصُدُوره عن عالِـمٍ كان في طلائع المتصدِّين لحقِّ بلادنا وأمّتنا في حرية أبنائها وأراضيها ومِلكياتها وسيادتها وسُلطانها، وللإقبال الكبير الذي كانت تحظى به مقالات الزعيم علال الفاسي ومحاضراته ومؤلّفاتُه، ومنها هذه المحاضرة التي حَجَّت إليها أفواج غفيرة من المناضلين والحِزبيين والمثَّقفين والإعلاميين، وبقِيَ نَصُّها المكتوب يُتداوَل بين رُواد الحرية ومُحبِّيها لما تَضَمَّنه مِن فَقَرات ونظَرات قيِّمة في أَهَمّ قيمة لدى الإنسان.

نجد الكاتب يَتَحَدّث بتمايزٍ علمي دقيق عن أنواع الحريات، مُقدِّما الحرية المطلَقة، أي الحرية الـحُرَّة على حدّ تعبيره، الحرية التي لا تَستطيع إلّا أن تكون كامِلة، إنها “الدّرجة العليا في الحرية، حرية الله سبحانه وتعالى (..) الحرية الأزلية القديمة بقِدَم الله، الدّائمة بدوام الله”[2]. فهذا النّوع من الحرية المُقدَّمة حَسْبه على كل الحريات الجُزئية؛ هي الحرية الـخَلَّاقة، والمبدِعة.

ثم يأتي على ذِكْر الحرية في الإسلام، التي تميَّزت بكونها تَجمع بين الفكر والحس، بين الإرادة والعمل، عن طريق الحياة داخل الكون لا خارجه. والحرية في إطار الإسلام هي التي تُختَار بالاختيار الذي أعْطَاه الله للإنسان، إنها تُختَار لتُحرِّرَ نفسَها ولتُحَرِّر هذا الإنسان المسلم، وهي بهذا الاعتبار؛ حُرية شَرعية فِعلية.

تَـخْـتَصّ المباحث المتوالِيات للكتاب في بَيان طبيعة الحرية المدنية، باعتبارها حرية فِطرية، أيْ مِن الفطرة الإنسانية، والتي أثارت مِداد الفلاسفة والعلماء عبر العُصور، وتنافَس في الدّفاع عنها الدّيمقراطيون، فَعرَّفوها بأنها هي التي “تتحَقَّق [بها وفيها] إرادة الشّخص في الميدان الاجتماعي، وفي ميدان الحياة اليومية”[3].

الحريات الخمس؛ القول فيها والقول عنها

مَدار الحريات الخمْس التي يَدْرُسها الكاتِبُ ليسَت في الواقع إلّا جزءاً مِن الحرية الـمطلَقة التي تحدَّث عنها في مطلع المحاضرة/الكتاب، تتوسّع بِتَوَسُّع المدنية وتتقدّم بتقدُّم الحضارة، وهي في كل أمة؛ أساسية لضمان استمرار النوع البشري، مع ضرورة وجود الدولة التي تنظِّم وتُشَرّع _ وفق الحاجة _ وتحمي المجتمع وتَصُون حقوقه وحرياته، ويَضرب الكاتب أمثلة لذلك مِن خلال مواضيع/قضايا: “الحرية والعائلة”، “الحرية والمدينة والقرية”، “الحرية والاقتصاد”[4].

ثم يتوسَّع الكاتب في كلّ حرية من الحريات الخمس على حدة، مبتدئا:

أولا بــ”الحرية القومية”، أو بتعبيره الحرية الوطنية، التي يَكون معها كل بلد حُـر مستقِل عن أية سيطرة أجنبية، وهي من حقوق الأمم الأساسية، فليس ثمة “حقّ أقدَس في نفْس الأمّة مِن أنْ تَحكم نفسَها بنفسِها، ولا شيء أقدس مِن أنْ تَحصل الأمة على استِقلالها”[5]، ومن ثمرة وجود هذه الحرية العظيمة؛ الارتقاء بالأمة وتفتّحها وتطورها وازدهارها وتمتّعها بالحريات الأخرى، ونيل أفرادها كرامتهم وتحمّلهم بجدية مسؤولية بناء وطنهم.

وثانيا “الحرية الشخصية” التي يتمتّع فيها المواطن بحقوقه ويَقوم بواجباته، إنها “حرية حُرّة”[6] في الميدان الاجتماعي والسياسي والعملي والعقدي والفكري. مردِفا بالحديث ثالثا عن “الحرية السياسية”، التي تُفيد ضرورةَ تَـمَتّع الناس بحرية التعبير والتفكير الفردي والجماعي بمختلف أساليبها، وما يَستتبع ذلك من حرية الاجتماع وحرية التحزب وحرية العمل.

ثم رابعا عن “الحرية الاجتماعية”، التي منها؛ أنْ ينَال الناس حَقَّهم المشروع في التّعليم والصِّحة أو ما يُطْلِق عليه الأستاذ علال الفاسي “تَعميم الوقاية والعلاج الصّحي”[7]، وفي العمل النقابي وما يَسْتَوْجِبُه مِن حقّ الإضراب وحق الحصول على العمل والتكافؤ في الأجور وتدبير أوقات فراغ العمال[8] والموظفين والفلاحين، وهي القضايا التي سَبَق له أنْ دَرَسها بدقّة في أربعينات القرن العشرين في كتابه الشهير النّقد الذاتي”[9].

وخامسا ثَـمَّ “الحرية الاقتصادية”، التي تستوقف الأستاذ علال ليتأمّل مليا في شَرْح مراحل تطور الاقتصاد في العالم، وتطور الأحوال المعيشية والصنائع وأصحاب الرأسمال، ولِيُطالِب في ثنايا حديثه بــ “إرْجاع الحقّ إلى نَصابه وذلك بإعطاء العمل قيمته التي أعطاها الله له”[10]، وتحقيق العدل الاقتصادي وإقرار الديمقراطية والتوزيع العادل للإنتاج واعتمادات السياسات القطاعية الكفيلة بــ”التوفير الضروري للتموين الحقيقي للبلاد”[11]، ومنْع التطاحن بين الطبقات، إذا ما أرادت الدول والـمجتمعات التحدّث عن وُجود حرية اقتِصادية حقيقية.

المراجع
[1] الفاسي علال، "الحرية"، منشورات مؤسسة علال الفاسي، سلسلة الجهاد الأكبر، رقم 14، عن مطبعة الرسالة بالرباط، الطبعة الأولى 1987، ص 4.
[2] الفاسي علال، "الحرية"، ص: 5.
[3] الفاسي علال، "الحرية"، ص: 9.
[4] الفاسي علال، "الحرية"، ص 15 – 17.
[5] الفاسي علال، "الحرية"، ص 18.
[6] الفاسي علال، "الحرية"، ص 21.
[7] الفاسي علال، "الحرية"، ص 37.
[8] الفاسي علال، "النقد الذاتي"، المندوبية السامية لقدماء المقومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة 9، سنة 2010، " 419، وص: 435.
[9] الفاسي علال، "النقد الذاتي"، ص 167.
[10] الفاسي علال، "الحرية"، مرجع سابق، ص: 41.
[11] الفاسي علال، "الحرية"، ص: 44.