المقاوم محمد الرزقطوني

توطئة

لَـمَع نجْم المقاومة الفدائية والعمل الـمُسلّح الفردي والجماعي بالمغرب في سياقِ إقدام لسطات الاستعمار الفرنسي على نَفْي رَمز المشروعية الدينية والسياسية، السلطان محمد الخامس، إلى كورسيكا فمدغشقر، ونَـبغ أفرادٌ عديدون في إظهار كفاءة استثنائية في التدبير الدقيق للعمل الفدائي السري والعلَني، والاشتباك مع العَدُو من نقطة الصفر، وإلْجائه إلى مُطارَدة أشخاصٍ في حُكم “الأشباح”، سُرعان ما يَخْتَفون عقِبَ عملية نوعية في الرباط أو الدار البيضاء أو القنيطرة ومراكش، وامتدّت مرحلة المقاومة الفدائية في المجالَين الحضري والقروي إلى حين عودة السلطان يوم 16 نونبر 1955، والشروع في تَرتيبات وَضْع سلاح المقاومة وجيش التحرير، ومن بينها خلايا المقاومة الفدائية التي أطْلَق شرارتها الشهيد الـمَجيد محمد الزرقطوني – رحمه الله، وواصل على منواله أحمد الحنصالي وعلال بن عبد الله وأحمد الراشدي وغيرهم من الشباب الوطنيِّ الغَـيور.

محمد الزرقطوني.. قَيَمٌ عامةٌ وخاصة تَصْنَع بطلاً للمقاومة

وُلِدَ الزرقطوني سنة 1927، في عِزِّ اشتداد المعارك في الريف بين حَرَكة الأمير ابن عبد الكريم الخطابي والاستعمارَين الفرنسي والإسباني، وبَعد ثلاثِ عشرةَ سنة مِن تفعيل نظام الحماية الجائر. والده من قبائل الشياظمة بمنطقة مولاي بوزرقطون ضواحي مدينة الصويرة الحالية، وأُمه من أصول فاسية. نشأ وشَبَّ مُفْعَما بالحيوية، أنيقاً في كل شيء، حريصاً على نظافة هندامه، ووفِــيّاً لأبَوَيه، مُطيعًا لهما، ومُحِبًّا لأخواته البنات الثَّلاث. شهِدَ لهُ من عَرَفوه بالشَّغَفِ بالمطالعة، والولَعِ بالرياضة، ولا سيما كرة القدم، التي من حُبِّه لها أَسّسَ “فرقة المـيلودية البيضاوية”[1]. كانَ يَنْفر مِن التّـقاليد البَالية والمعتقدات الـخرافية، ويَتَّسِمُ برُوح المسؤولية، والهدوء، ولكن خَلْفَ هذا الهدوء كانت تَنطوي شخصية ثائرة على الظُّلم، ثورية في اتخاذ القرارات المرتبطة بالوطن، لم تَصْرفْها مَلْهيات الوقت ولا شؤون العائلة ولا التّجارة والتكسّب ولا العِلْم عن الاهتمام بما عليه حال الشَّعب المغربي، وبما يعيشه الوطن من آلام.

قِيم المحيط الأسري والمسار التّعليمي:

قَلّما يُلْتَفَت إلى الخلفية الـقِيمية والمرجعية التي صَنَعت أبطال الكفاح الوطني، ما خَلا ذكْر تَلَقّي العلم أو أصول التربية من الوالدين والأهل، لكن بالتّدقيق في سيَر أعلام كثيرين في تاريخ بلادنا؛ يتبيّن ما للقيَم مِن أثَر عَظيم في شخصياتهم ومَساراتهم وإسهاماتهم. وباستحضارنا لشخصية المناضل الشّهم محمد الزرقطوني فإننا نجد أنْفُسنا أمام سَندٍ من القيم الخاصة والعامة التي أثّرَت فيه وجَعَلَت منه أحدَ الأبطال الشجعان في تاريخ النضال الوطني، نحتفي بذكرى استشهاده بتخصيص “اليوم الوطني للمقاومة” كل ثامن عشر يونيو من كل عام.

لن يكون مُرادُنا إعادة صياغة ترجمة عن الرجل، ففِيما كُتِبَ عنه وأُعِدَّ مِن مقالات وبرامج ووثائقيات غُنْيَةٌ لنا، ولكن سنكثّف الإشارة إلى أَهمّ القيم المرجعية ذات الصلة بالمجال الأسري والتعليمي ودورها في صناعة شخصية الزّرقطوني، من ذلك: تربية والِديه له على قِيم الاستقامة وحبّ الإسلام والوطن، والدّراسة بالكُــتَّاب القرآني، والارتباط بالزاوية الحمدوشية وقيم التربية الروحية، وإشْراكه منذ صغَره في حضور المناسبات الدينية. واعتماده في القراءة على مكتبته الخاصة التي أنْشَأها له والده جِوارَ مَقر سكناه ليبيع الكتب، اهتبلها الشّاب الزرقطوني فرصة سانحة للمطالعة والقراءة الحرة. وبِـعِـصامية؛ تَعَلَّم اللغة الفرنسية وقَرأ آدابها، وفي هذا دَلالة على تعلُّقه بقيم العلم والصبر عليه.

قيم الوطنية والوعي بالتّاريخ الوطني:

تَرعرع الزرقطوني في مركز الوعي الوطني بحاضرة الدّار البيضاء؛ المدينة القديمة، وشُحِن بالجو النّضالي الذي كانت عليه السّاكنة ونخبتها الوطنية المخلِصة، فتَلَقّى منها أصول التّدين والوطنية والنّضال معاً. ساهم في تأطير مجموعة مِن التَّلاميذ ضِمن فَصِيلة أَطْلَقَ عليها (فصيلة خالد بن الوليد)، يُعَلِّمهم القراءة، ويُعبِّـأهُم بالوطنية، ويُحفّظهم الأناشيد الحماسية، ويَغرِس فيهم القيم الدينية، ويُشاركهم بَعض ما تَعلَّمهُ في خَرجات ومخيمات “الكشفية الـحَسنية” التي كان ينشط فيها، وانخرَطَ في حزب الاستقلال وأحبَّ مبادئه، ومنها (حُب الوطن، والتضحية في سبيله، والحرية والاستقلال)، كما كانَ شديدَ التعلُّق بقيم المقاومة السابِقة على العمل الفدائي (مثلا؛ سمّى ولده البِكر ”عبد الكريم“ تيَمّنا بقائد الثورة الريفية – تميّز بحاسة نقدية وطنية عالية ضد الوجود الاستعمار – يَفتَخر بمنجزات المقاومات المحلية السابقة – وَفيٌّ للسلطان والشّرعية) وغيرها من القيم ذات الصلة.

قيم التطوّع والمبادرة:

لَعَلّ هذا الجانب من القيم ذات المنحى الشخصي هي الأكثَر حضوراً في مسارات مُقَاومي المغرب ومجاهديه وأبطاله الخالدين، وهي في الزرقطوني أوْضَحُ وأنْصَع، لنا فيها القُدوة والنّبراس، من ذلك على سبيل الإجمال: تأسيسهُ بمجموعةٍ مِن الشّباب واليافعين خلية “القانون المحروق” سنة 1948م، واجتهاده الاستثنائي في تنظيم نشاط ضخم احتفالا بالذّكرى الفضية لعيد العرش[2]، وذلك سنة 1952م، وكان يحرص على اقتناء الأعلام الوطنية للبلدان المغاربية الشقيقة، ويحضّ شُبَّانَ لـِـجَانِ تزيينِ مدينة الدار البيضاء لِوضْع تلك الأعلام جَـنْبًا إلى جنب مع العَلَم الوطني المغربي، للتأكيد على وحدة المصير، وما يجمع المغاربيين مِن قواسم مشتركة وتضامنات عابرة للحدود الاستعمارية الوهمية، وتَخطيطه وتنفيذه للعملية المعروفة بــ”السّوق المركزي”[3] في الدار البيضاء، وإشرافه المباشِر على عمليات إدخال السِّلاح مِن الشّمال إلى المنطقة السلطانية، ودوره الكبير في الخروج بالعمل الفدائي مِن العلنية إلى السِّرية، ومبادَراته في التنسيق والتعاون مع الشغّيلة المغربية الـمُستَضْعَفة ومع مجموعة من الفدائيين في مدينة الدار البيضاء تُوّجِت بِتَأسيس خلية فدائية اسمها “اليد السَّـوداء” ليُواجهوا عَبْرَها قوات الاحتلال. وسَاهمَ الشّهيد محمد في تحشيد الرّأي العام للانتفاض ضدّ اغتيال النقابي التونسي فرحات حشّاد، والخروج في تظاهرات عارمة في الثامن من دجنبر 1952م، والإشراف على عملية محاولة نَسْفِ التِّمثال الشهير للجنرال (لْيوطي) وعملية اغتيال محمد بن عرفة في مراكش، والتي نَجا منها السّلطان الـمزيَّف بأعجوبة.

قيم الشّهادة والوفاء بالعهود والصدق في الممارسة:

أعمالُ ومبادراتُ وحيويةُ الزرقطوني أسهَمت في كسْبِ المصداقية والثّقة في صفوف الفدائيين بالمجال الحضري، وكثّفَت الطلَب على الشهادة لدى جيل عريض من الشباب المتحمّس المناضل الـمُفْدي وَطنه وسلطانه بالغالي والنفيس. لقد كان الشهيد الزرقطوني “يَعتبر الخونة الخطر الأكبر على الوجود الوطني”[4]، وكان أحرَص القادة على الوفاء بعهوده والتزاماته وأسرار خلايا المقاومة بحيث أعلَنَ بتحدٍّ وصِدْقٍ أنه لن يَقْبِضَ المستعمِر إلاّ على جثّتي“، ووَفَــّى بهذا الـمبدأ، إلى أن استُشْهِدَ صبيحة الجمعة 18 يونيو 1954 بَعدَ أنْ تَـناوَل حبَّة السمّ أثناء اعتقاله مِن وسَطِ بَيتِه واقتياده للسّجن، دُون أْن يَنْبِس بِـبِـنْتِ شَفَة، أو يَـنْــتَــزع مِنه المستعمِر مُعْطًى أو معلومة أو اسمَ شخص مِن قادة المقاومة ومناضليها، وغادَرنا إلى دار البقاء مُنْتَصِبَ القامة مَرْفوع الهَـامَة.

خاتمة

لقد كانت منظومة القِيم هذه مما عَزّز الثقة في قيادة المقاومة المسلّحة في شَطْرها الثاني أواسِط خمسينيات القرن العشرين، وأدامَ تماسُكَ أنْوية العمل الفدائي السرية والعلنية، وتَعَلُّق أفرادِها بالشهادة والجنّة، فتَلَقّفت أجيال الوطنية المغربية ومَن والَاهُم وسَار على مِنوالهم هذه القيم الوطنية والدينية والسياسية والنضالية وسارَت بها إلى أن نالَتِ البِلادُ استقلالَها، وأعَزّ الله إرادة الوطنيين والعلماء والمناضلين في أنْ يَحْيَوا أحراراً في وطنهم.

المراجع
[1] مجلة"الذاكرة الوطنية"، العدد 23، سنة 2014، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
[2] (الإبريزي) أحمد:"محمد الزرقطوني؛ قِـيمٌ إنسانية صَنعت فِعل الشهادة"، منشورات مؤسسة الزرقطوني للثقافة والأبحاث، الطبعة الأولى 2015.
[3] "مجلة الذاكرة التاريخية"، العدد 8، سنة 2005، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
[4] (الإبريزي) أحمد:"محمد الزرقطوني، "قِـيمٌ إنسانية صَنعت فِعل الشهادة.." مرجع سابق، ص:23.