
المحتويات
توطئة
يمثّل علي ابن راشد نموذجا للقادة العسكريين العباقرة الذين سطّروا المسار التاريخي لمنطقة شمال المغرب، وذلك لأنه برز في مرحلة دقيقة من تاريخ هذا البلد؛ حينما ساد التفكك السياسي للدولة، واشتداد الهجمات الصليبية على سواحل المغرب الأقصى، فاستطاع هذا الرجل تحصين منطقة شفشاون، وتأسيس مدينة في قلب سلسلة جبال مغمورة ستتحوّل مع الوقت إلى إحدى الحواضر البارزة في المغرب.
المنشأ ومسار التنشئة
ولد علي بن راشد في قرية غاروزيم القريبة من موضع مدينة شفشاون الحالي، ويرجح تاريخ ميلاده أن يكون سنة 844هـ/1440م، وهو ذو نسب شريف يتصل بنسب العالم والمجاهد الشهير عبد السلام بن مشيش أحد أهم علماء وصلحاء شمال المغرب، لذلك اكتسب علي بشرف هذه الصلة حظوة واحتراما وتوقيرا من أهالي المنطقة.
سيقضي علي مرحلة طفولته بقريته غاروزيم، وفي المناطق المجاورة لها حيث تنقل لحفظ القرآن الكريم واكتساب المبادئ الأولى للعلم؛ خصوصا في مدشر الخزانة الذي يقع داخل حدود قبيلة الاخماس[1]، ولا شك أن وعورة التضاريس في تلك الجبال وقساوة الحياة قد خلّفت آثارا واضحة في تكوين شخصيته، لاسيما فيما يتعلّق بالحركية والنشاط، وبذل المجهود، والتدرّب على الصبر، وحينما تمتزج هذه القيم المكتسبة من العيش في جغرافية صعبة، وتحصيل قدر من العلوم الأساسية، يكون هذا الفتى قد سلك طريقا قد يبلّغه لمنصب شريف ويصبح في إمكانه أن ينجز شيئا هاما في حياته.
ويقدّر المؤرخون أن علي بن راشد انتقل في شبابه إلى الأندلس في حدود سنة 864هـ/1460م[2]، بسبب صراع نشب بين “النبلاء” (يقصد بهم الشرفاء ذوي النسب الشريف والنفوذ) وبعض العامة من القبائل المجاورة التي كانت محرومة من هذا الشرف، وحينما انتهى هذا الصراع بانتصار هذه القبائل، لم يصبر علي الشاب الذي كان ينتمي إلى طبقة الشرفاء على هذا العار، فاجتاز البحر الأبيض المتوسط ليقيم بغرناطة جنوب الأندلس[3]، حيث جاهد وأدى خدمات عسكرية لصالح أميرها أبو عبد الله محمد الأحمر آخر حكام غرناطة، وتزوج هنالك من كاترينا فيرنانديز التي أسلمت وسميت بـ”الزهرة”[4]
تأسيس مدينة شفشاون
مباشرة بعد عودته من الأندلس، أقام علي بن راشد بجبل شفشاون، حيث التجأ إلى بعض أصحابه وذويه، فكوّن سربا من الفرسان مستفيدا من تجربته العسكرية بالأندلس، وانخرط في معارك مقاومة التوسع الإيبيري خلال النصف الثاني من القرن 15م[5]، خصوصا وأن السلطة السياسية بالمغرب آن ذاك متفككة، ومنكفئة على ذاتها بالمناطق الداخلية، فيما تُركت السواحل لتواجه مصيرها، خصوصا في المناطق الشمالية، ما أدى إلى استنفار قوى محلية رفعت راية الجهاد في وجه البرتغاليين والإسبان.
عرف الموضع الذي نزل به علي بن راشد في قلب جبال الشمال الغربي؛ انطلاق أشغال معمارية بغاية تأسيس مركز حضري، وسهر على هذا المشروع بداية الفقيه والمجاهد أبي محمد الحسن (المعروف بابن جمعة)، الرجل الذي شرع في اختطاط مدينة شفشاون في حدود سنة 876هـ/1471م، لكنه اُستشهد قبل أن يُتمّ ما شرع فيه[6]، ثم قام مقامه الأمير أَبُو الْحسن علي بن راشد الذي كانت تربطه به صلة قرابة (ابن عمه)، فشرع في اختطاط شفشاون في العدوة الأخرى من الواد لتفادي انجراف التربة، فبنى قصبتها، وأوطنها أهله، ثم نزل الناس بها، فبنوا وصارت من بين أهم حواضر المغرب[7].
بدت مدينة شفشاون بعد تشييد المعالم المهمة فيها، شبيهة بالمدن الأندلسية من حيث التخطيط، ونوعية المعالم ومواقعها، فتجلى بذلك تأثّر قائد المدينة علي بن راشد بالمعمار الأندلسي، وليس من المستبعد أن يكون قد جلب معه حرفيين ومعماريين بعد اجتيازه إلى المغرب، كما ظهر التأثير الأندلسي في لقبه “الأمير” الذي أطلقه حكام الإمارات في الأندلس على أنفسهم، وقد أسعفته الأوضاع السياسية المتدهورة في المغرب على ذلك.
إشعاع شخصيته التاريخية ووفاته
ازدهرت منطقة شفشاون ومركزها الحضري إبان حكم الأمير علي بن راشد، وذلك بفعل تحولها إلى مركز قيادي للجهاد ضد الغزو الإيبيري في شمال المغرب، إذ لم تكن هناك أية حاضرة قوية تستطيع المواجهة، فكل من سبتة وطنجة ومليلية وأصيلا كانت واقعة في أيدي الإسبان والبرتغال، فيما تعرّض حصن تطوان إلى الهدم، فكانت العاصمة الراشدية بقيادة أميرها المؤسس تقود حملات الذود عن أراضي وأعراض المغاربة في الشمال.
وليعضّد صف الجهاد في هذا الربع من أرض المغرب، أعان علي بن راشد بعض القادة العسكريين الذين لجأوا إلى المغرب فارّين من الأندلس، على تأسيس حاضرة أخرى، هي تطوان، فتوسط بين مؤسس تطوان علي المنظري، والسلطان الوطاسي محمد الشيخ (حكم ما بين 1471-1505م)، كما قدّم أمير شفشاون لمؤسسي تطوان يد العون من مال ورجال لتأسيس هذه الحاضرة[8].
ويبدو أن ما بلغته سطوة بن راشد أثار أحيانا توترا في علاقاته مع السلطة الوطاسية[9]، وهو تحصيل حاصل في ظل الوضع المرتبك للمغرب بعد انهيار الحكم المريني، وبداية اتساع الهوة بين القوة الإيبيرية المتماسكة، والمغرب المقسّم نتيجة احتراب عدد من القوى في عهد محمد الشيخ، إلاّ أن التحالفات والولاءات التي ضمنها مؤسس شفشاون جعلته في مأمن من الخوف الذي يفضي إلى الرضوخ، فعارض اتفاق الهدنة الذي أبرمه السلطان الوطاسي مع البرتغال[10]، كما أن حاجته لسلطة الوطاسيين دفعته إلى الحفاظ على شعرة معاوية، ومد يد التعاون.
تواصلت مجهودات علي بن راشد في إدارة مدينة شفشاون، والجبال المجاورة، ما يزيد عن ثلاثة عقود، أشرف فيها على تعمير المنطقة، وحفظ أمنها، وصدّ الهجمات الصليبية على السواحل، ومحاصرة الثغور المسلوبة، إلى أن توفي سنة 917هـ/1511م[11]، ودفن في مقبرة المدينة، بالموضع الذي تحوّل ضريح شهير.
المراجع
[1] محمد بن عزوز حكيم، مولاي علي بن راشد: مؤسس شفشاون، مطابع الشويخ، 1998، ص، 58.[2] محمد بن عزوز حكيم، مولاي علي بن راشد: مؤسس شفشاون، مرجع سابق، ص 38.
[3] مارمول كربخال، إفريقيا، ج2، الجمعية المغربية للتأليف والنشر، 1988-1999، ص، 227.
[4] مريم التايدي، "السيدة الحرة حاكمة تطوان..المغربية المسلمة التي تقاسمت سيادة البحر الأبيض المتوسط مع بارباروس"، موقع الجزيرة نيت (اطلع عليه 10/08/2025).
[5] مارمول كربخال، إفريقيا، ج2، مرجع سابق، ص، 227.
[6] أبي حامد محمد العربي بن يوسف الفهري، مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن، دراسة وتحقيق محمد حمزة بن لي الكتاني، منشورات رابطة أبي المحاسن ابن الجد، مرآة المحاسن، ص، 238.
[7] أبي حامد محمد العربي بن يوسف الفهري، مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسننفسه، مرجع سابق، ص 238.
[8] محمد داود، تاريخ تطوان، ج1، معهد مولاي الحسن، 1959، ص، 90.
أنظر أيضا: أحمد الناصري، الاستقصا لأخبال دول المغرب الأقصى، ج4، تحقيق جعفر الناصري ومحمد الناصري، دار الكتاب الدار البيضاء، 1997، ص، 124.
[9] حسن الوزان، وصف إفريقيا، ج1، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، الطبعة الثانية، دار الغرب الإسلامي، 1983، ص، 332.
[10] إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، ج2، دار الرشاد الحديثة، 2000، ص، 170.
[11] أبي حامد محمد العربي بن يوسف الفهري، مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن، ص، 238.