المحتويات
توطئة.. بركة أرض جزولة
أنجَبت منطقة “جزولة”- وسط المغرب (سوس) على امتداد تاريخها، نخبة من القادة والفقهاء وأقطاب العلم والصَّلاح، وكانت أرضاً جرَت على ترابها وقائع تاريخية مشهودة، ومرّ بها المرابطون والموحدون فخلَّفوا آثاراً في العمران والإنسان، كما كانت بيئةً ضمّت بيوتاتِ العلم والشَّرف والنسب، ومنها عائلة الجزولي؛ التي تَوزّعت على سوس وفاس والرباط.
يَنتسب إلى قبيلة جزولة الكبرى السوسية، العلَّامة والصوفي الإصلاحي محمد بن سليمان الجزولي[1]أحد أعلام المغرب الكبار، الشّريف النّسب، الكريم الحَسب، المؤلِّفِ لأشهر وأكثر الكتب انتشاراً في العالم الإسلامي.
ابن سليمان.. أمارات الصَّلاح ومسارات الإصْلاح
وُلد الإمام الجزولي _ الشهير لدى المغاربة باسم الشيخ ابن سليمان _ بقرية تانكَّرْت بأرض سوس أواخر القرن الثامن الهجري الموافِق لــ 1404 ميلادي على أرجح أقوال المؤرِّخين، فتربّى تربية حسنة، ونَشأ بين كِـتاب الله وعلوم اللغة وشوارِق التصوّف، مُتَعَزِّزا بشجرته النَّسَبية التي تُوصِله إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد عاصَر في شبابه اندلاع فوضى قبائلية وانتفاضات ضدّ الحُكم الوّطاسي، ودخول الاحتلال البرتغالي إلى المنطقة، فتصدّى للمستعمِر البرتغالي ونافح عن الثغور المغربية وقام بما عليه تُجاه وحدة البلاد وسلامة أراضيها، ثمَّ آثَر مغادَرة سوس، فضَمّته أرض فاس تلميذاً وطالِباً، وآوته _ لاحقاً _ آسفي متعبِّداً وزاهداً.
سافَر إلى أرض الحجاز، فحجّ وزار، وقضى ما شاء الله له من الأيام والليالي بمدينة الرسول وبجوار مَدْفنه، ثمّ رحل إلى الشام فدخل مدينة القُدس، وعَرج على مصر فزار الأزهر الشريف بالقاهرة، وقفَل عائداً إلى بلَده إثْر رحلةٍ امتدّت زَمنيا سبع سنين وِفْقَ تقدير المؤرِّخين.
وفي مُستقرّه الثاني بمدينة فاس؛ سيلتقي بالقُطب الرّباني أحمد زروق البرنُسي[2] (846 هـ – 899 هـ)، متذوِّقاً مِن كأس تَصوُّفِه وتربِـيته، ومحاوِراً له في علوم الشريعة والحقيقة، فكان ما تلقّاه عن الشيخ الصوفي المتمكّن مِن فقه الإمام مالك ونظرة المالكية لقضايا الشريعة والحياة؛ زاداً على طَريقِ سَعيِ الجزولي العلمي، وتقوِيةً لرصـيدِه الفقهي؛ إلّا أنه استَجابَ لنداءٍ دفينٍ في نفسه، حضَّه على التخصّص في سيرة وشمائل النّـبِي صلى الله عليه وسلم، فولِهَ به وأحَـبَّه، ففاضت أشواقُ المحبة خيراً وعلماً غزيراً. ثم دخَل في عُزلة تَزكوية تربوية بمنطقة تيط نواحي مدينة الجديدة حاليا، دامت 14 عاماً، فتأثَّر بالطريقة الشاذلية، وحفِظ كثيرا من الأوراد والأذكار عن ظهر قلْب، حتّى استَقلَّ بطريقته وأوراده، وصارَ في مقام الإصلاحي الذي سيُرمِّم ما بلِيَ في الطريقة الشاذلية.
لم تكن الخلوة مقدِّمة لعزلة شعورية عن الـمجتمع؛ بل كانت بدايةَ انطلاق الدّور التربوي والإصلاحي للإمام محمد الجزولي. حيثُ ارتحَل إلى مراكش وجَمع حوله المريدين، وعلى الرغم من إقامته القصيرة الأمد بها؛ إلّا أنه خلَّف أتباعاً وتلامذة نُجباء، على رأسهم تلميذه النجيب عبد الله التبّاع أحد الرجالات السبعة دفيني مراكش الحمراء، ومحمد الساحلي دفين فاس، وأحمد بن عمر الحارثي دفين مراكش، ومحمد الأمين دفين سيدي زرْهون.
ثمّ ارتحَل إلى آسفي، وهناك قَصَده الناس، وشاع اسمه وانتشرت طَريقته الجزولية، فاستَثْمَر في الروح الصوفية المنتشرة في منطقة “رجراجة” (ركَراكَة)، وتوقير الآسفيين للأولياء والعلماء، وما كان لا يزال آنذاك فيهم من أَثَر دعوة الشيخ الجليل أبو محمد صالح (تــ 1234) دَفين آسفي. تجمَّع الناس وبلَغ عدد الأتباع لدى الشيخ الجزولي بآسفي حوالَي خمسة وستِّينَ ألَف مُريد حسَب تقدير المؤرِّخين، الأمر الذي جعل “الجزولية” تنتشر كالنار في الهشيم، في وقتٍ كانت في الدولة الـمرينية تَعيش على وقْع نكسات ومشاكل داخلية وانتفاض القبائل؛ فخَشِي المخزن الـمريني مِن تحوُّل الشيخ الجزولي إلى زعيمٍ ديني وسياسي يسْتَقِلُّ بمنطقة تانسيفت وحاضرتها آسفي، ويَخلُق مشاكِل إضافية للدولة الـمترهِّلة؛ فضيَّقَ عليه والي السلطان، واقتحمت السلطات كثيراً من مَجامعه التربوية وأفْسَدت عليه خلوته التعبُّدية، فاضطَرَّ لمغادرة آسفي، عائداً إلى مسقط رأسه، سوس العالِمة.
ولَما كان شَغف العَلّامة الجزولي بتجديد الطريقة الشاذلية بالمغرب الأقصى كبيراً، وقديماً؛ فإنّه جَدَّ واجتَهَد في الذّهاب بالصوفية المغربية السُّنية مَسلكاً جديدا، تُؤْوِي إليها كل عاشق للتربية والتزكية والتخلُّق بالشمائل الـمحمدية، وتضمُّ القائمين بالخير والقِسط وناشِريهما في النّاس.
إنَّ من بين أهمَّ ما طَبع مسيرة إمامنا الجزولي؛ أنَّ الرجل لم يؤسِّس زاوية صوفية مُبتغاها التعبُّد حصْرا، بل كان لأتباع زاويته دور بطولي في جهاد الغزو الاستعماري للحواضر والشواطئ المغربية. كما أنّه لم يَسلُك بطريقته تَزلُّفَ السلطة ولا إماتة العقول بتصوّف السُّكْر، بل كان تصوّفه تصوّفَ صَحْوٍ حَسب تعبير العلّامة المعاصِر أحمد الريسوني[3]. وجَمع الجزولي بَين الدعوة والتربية والصَّدْع بالحقّ ونُصْح ذوي السلطة وتحميلهم مسؤولية التفريط في الثغور المغربية، والنّقد الصادق للفقهاء والمشايخ الذين عَطَّلوا أدوار المساجِد وقَدّموا قراءات سلبية للدين وعنه. وركَّزت طريقته على الدّعوة إلى التوحيد وفق مذهب أهل السّنة والجماعة، وعلى المعرفة الصوفية، والإسلام وحقائق الإيمان، والمداومة على ذكر الله، وحبِّ الرسول الخاتم محمد بن عبد الله والصلاة عليه.
“دلائل الخيرات”.. انتشار في الأوطان وذكرى كل لِسان
كانت سُمعة الجزولي باعتباره شيخاً مُربِّيا صالحا، كثير الصّلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وصاحِبَ طريقةٍ في التصوّف والتعليم، ومؤلِّفاً لكتابٍ فريد؛ قَد سبَقته إلى سوس، بل إنَّ سُمعتَه وطَريقتَه ومؤَلَّـــفَهُ تسامَع بها الناس في المغرب الأوسط والأدنى وبلاد الحجاز، وأكْبَروهما معاً، الجزولي والجزولية.
ذَكَر الباحث أحمد صنوبر في دراسته عن: “تطوّر رواية المشارقة لكتاب دلائل الخيرات عن المغاربة“ أنّ الـحُجَّاج المغاربة عمِلوا على نقْل نُسَخٍ مِن كتاب “دلائل الخيرات“ إلى بلاد الحجاز، فَذاع صِيته، وانْتَشر بين الناس والفقهاء، بل وتسنّم مكانا ساميا بين الكتب المدرَّسَة بالمدينة المنورة، خصوصاً حين تَـمَّ استحداث منصب “شيخ الدّلائل” بالمدينة، وأُسنِدت رئاسته إلى العالِم علي باشلي الحريري المدني الذي دُعِيَ بــ”شيخ الدّلائل بالروضة النبوية”.
فيما عَدَّ الأستاذ عبد اللطيف البكدوري[4] كتاب “دلائل الخيرات“ ثانِيَ أكثَر الكُتبِ انتشاراً وقَبُولًا ومُدَارَسَةً في العالم الإسلامي بَعْد القرآن الكريم، بحيث اهتَمَّ به الناس قديما وحديثا، وشَرَحُوه ومَدحوه وعَلَّقوا عليه، وجَزَّءوهُ إلى سبعة أجزاء، ليختموه كلّ أسبوع ختمة، وكانت هذه من العادة الطّيبة النافعة عند المغاربة، الذي رفعوا الإمام محمد بن سليمان الجزولي مقاماً عِلِيًا. فـــ”دلائل الخيرات قيِّمٌ لا مَثيل له في موضوعه (..) ليسَ فيه ما يُؤَاخَذ على مؤلِّفِه إلا ما فيه من بعض أحاديث موضوعة أو التي لا أصْلَ لها (..) وأنا أنصح كل مُسلِمٍ بملازمة قراءة دلائل الخيرات، فإنّه إنْ لازَمه مع التفكر في عَظمة الرسول الكريم والتّحَبُّبِ إليه؛ فلَسَوْفَ يَسْعَدُ إن شاء الله تعالى”.[5]
وأكَّد الباحثون[6] التي أُقيمَت خصّيصاً لتكريم الجهود التربوية والإصلاحية والتعليمية للإمام ابن سليمان الجزولي؛ أنَّ كتابه المذكور توجَدُ منه نسخة أثيرة بمتحف “والتْزر الفني” بتركيا الذي يعود للحقبة العثمانية، ونسخة أخرى في متحف “الفنّ الإسلامي” بمدينة كوالالمبور الماليزية، ونسخة أخرى بمكتبة الفيلسوف محمد إقبال تعودُ لسنة 1855م الكائن مقرها بكشمير الهندية، ونسخة تعود لسنة 1877م موضوعة بمتحف “الروح القُدُس” في بيروت اللبنانية، ونسخة عنه بالفرنسية تُرْجِمت سنة 1897 موضوعة في “المكتبة الوطنية” بباريس الفرنسية، ونُسخة فريدةٍ يحتويها المتحف الديني “لوقَش” بمدينة تطوان المغربية.
ناهيك عن مُؤلَّفاته الأخرى التي ما يزال أغلبها عبارة عن مخطوطات، نذكر منها: “عقيدة الجزولي“، مخطوط بالخزانة الحسنية في العاصمة الرباط، ضمن مجموعة عامة تحت رقم (7245)، و“رسالة التوحيد“، وتوجد منها نُسخة مخطوطة بخزانة جامع ابن يوسف بمراكش، تحت عدد (587)، و“أجوبة في الدين والدنيا“، تضمّها الخزانة العامة بالرباط، تحت رقم (731)، وكِتابيه “الحزب الكبير” و”الحزب الصّغير”[7]؛ كلاهما مخطوطان بالمكتبة العامة والمحفوظات بتطوان.
وهي تصانيف قيمة لقُطب جزولة، ستُغني المكتبة العربية والإسلامية حالَ تحقيقها ونشْرِها وتعميم نفعِها.
“دلائل الخيرات”.. فصول ومقدِّمات
مِن أهمَّ ما أفاد به الإمام الفاضل، العارف الواصِل؛ الأجيالَ وشرَّف به المنهج التربوي والصوفي المغربي عبر العصور؛ تدوينُ كتابِهِ “دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذِكْر الصّلاة على النبي المختار“ في سَبعة أقسام، ومُقدِّمَتينِ.
خَصَّص إحداهما لأسماء الله الـحُسنى، والأخرى لأسماء النبي الخاتم عليه الصلاة والسَّلام، وبيَّن قصْده مِن كتابه هذا قائلاً: “اللهم إنّي نويتُ بالصّلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم امتِثالاً لأمرك، وتصديقاً لنبيك، ومحبّة فيه، وشوقاً إليه، وتعظيماً لقدْرِه، ولِكَوْنِهِ أهْلاً لذلك، فتقبَّلها مني بفضلك وإحسانك (..) ووفِّقني لقراءتها على الدّوام بِجَاهِهِ عندك”[8].
وقد كان له ما أراد، وحقّق الله ما في خالِص نيّته، فأطْبَقت شُهرة الكتاب الآفاق، وتناقله القرّاء جيلاً تِلْوَ جيل، وتَشرَّفت المساجِد بذِكْرِ أوراده العطِرة، ولهجت الألسُن بفضله بالصلاة والتسليم على الرسول الكريم، وأَحْيَت فُرق الإنشاد ليالي المديح والمولِـديات اعتماداً على هذا الكتاب
وبَعد مسيرة موسومةٍ بالتعلُّق بالله والعشق في سيرة وشخص رسول الله، وتربية الناس وإنتاج ما ينفعهم، وبعد حياةٍ عامِرة بالصلاح الفردي والإصلاح الجماعي، توفِيَ الشيخ الجزولي مسموماً على أرجح أقوال المؤرخين والتراجِمة سنة 1465 للميلاد، ودُفِن ببلدة “تاصورت” بسوس. ووافَق تاريخُ مَقتلِه رحمه الله اغتيالَ آخِر سلاطين الدولة المرينية عبد الحق المريني، وبداية تفشِّي الفوضى والخراب في الثّغور.
ثُمَّ نُقِل جثمانه مِن تاصُّورت إلى مراكش بتدخُّل من الخليفة السَّعدي أحمد الأعرج وتنفيذاً لوصية والِده مؤسس الدولة السعدية السيد القائم بأمر الله محمد بن عبد الرحمن الزيداني (تـوفي 1517م)، خَشْية نَبْش قَبرِ العلاّمة الولِي الجزولي من طَرف البرتغاليين الذين كانوا قد عاثوا احتلالا وفساداً في حاحا وشياظمة وسوس.
المراجع
[1] عبد الله بن عبد القادر التليدي، المُطرِب بمشاهير أولياء المغرب، منشورات دار الأمان، الرباط، الطبعة الرابعة، 2003، ص: 134 –146.[2] كنون عبد الله، ذكريات مشاهير رجال المغرب في العلم والأدب والسياسة، تقديم ومراجعة الدكتور محمد بن عزوز، مركز التراث الثقافي المغربي، دار ابن حزم للنشر، الطبعة الأولى، 2010ص: 541، وأيضاً: التليدي عبد الله، الـمُطرِب بمشاهير أولياء المغرب، مرجع سابق، ص: 147.
[3] الريسوني أحمد، الاختيارات المغربية في التديُّن والتمذهب، دار الكلمة للنشر والتوزيع، منشورات حركة التوحيد والإصلاح، الطبعة الأولى 2018.
[4] البرنامج التلفزي: "نفحات أنس مع مغاربة المهجر فقرة “أعلام من السابقين”"، تقديم الدكتور عبد اللطيف البكدوري.إنتاج قناة السادسة، رمضان 2020.
[5] عبد الله بن عبد القادر التليدي، المُطرِب بمشاهير أولياء المغرب، مرجع سابق، ص: 144.
[6] بلقاضي أحمد، تنسيق أعمال كتاب: محمد بن سليمان الجزولي؛ رائد التجديد الصوفي في مغرب القرن التاسع الهجري، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زُهر – أكادير، 2012.
[7] مجلة "دعوة الحقّ"، الأعداد 167 ، 147، 148، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
[8] الجزولي السملالي محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذِكْر الصلاة على النبيِّ الـمختار صلى الله عليه وسلَّم، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الأولى 1937 الموافق لــ 1356 هجرية، ص: 3.