المحتويات
مقدمة
تعتبر مدينة تينمل من المواقع التاريخية المهمة في تاريخ المغرب، وهي عبارة عن قرية صغيرة على أحد ضفاف مجرى مائي لنهر نفيس، أحد روافد نهر تانسيفت. وتقع تينمل على بعد حوالي 100 كلم جنوب غرب مدينة مراكش، على الطريق الرابط بين مدينة مراكش ومدينة تارودانت عبر الطريق الجبلي الذي يمر عبر تيزي (فج) نتاست (تيزي نْ تاست) بالأطلس الكبير الغربي. وتتبع حاليا لجماعة تلات نْ يعقوب (بإقليم الحوز)، ولا تبعد كثيرا عن زاوية تاسافت ومن قلاع القائد الكَونتافي ومنازله. ويوجد حاليا بها مسجد تينمل أو المسجد الأعظم، والذي شيده الخليفة الموحدي عبد المومن بن علي سنة 1153م.
وقد اكتسبت تيمنل شهرتها لارتباطها بزعيم الحركة الموحدية ومؤسس الدولة الموحدية (1147م-1269م) محمد بن تومرت (تسمى بالمهدي سنة 1120م- 1121م/514ه-515ه). حيث تعتبر تينمل العاصمة الثانية للحركة الموحدية بعد إكيليز بوادي أرغن (شرق مدينة تارودانت)، ومنها انطلقت هجماتهم ضد المرابطين وعاصمتهم مراكش، وقد تحولت تينمل بعد تأسيس الدولة الموحدية وانتقالهم إلى العاصمة مراكش إلى مدينة مقدسة، حيث يحج إليها ملوكهم وأنصارهم باعتبارها رمز التأسيس وموطن أضرحة المؤسسين.[1]
تينمل.. قول في الإسم
ورغم شهرة تينمل وكثرة ورودها في كتب التاريخ، فقد اختلف المؤرخون في شكل كتابتها، حيث كتبها البيذق (أبو بكر بن علي الصنهاجي) في كتابه “أخبار المهدي بن تومرت وبداية دول الموحدين” بصيغة: تينملل، وكذا ابن القطان (في “نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان”) وابن خلدون (في “العبر..”)، وكتبها الإدريسي (في “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”) بصيغة: تانمللت. أما صاحب “الحلل الموشية..” فقد أوردها ب: تينمال، وكتبها مؤلف الروض المعطار (الحميري) بصيغة: “تامللت”. أما ابن صاحب الصلاة (في “المن بالإمامة”)، فقد كتبها مرة متصلة ومرة منفصلة على الشكل التالي: تنمل أو “تين- ملل”. وقد جعل ورود الشكل الأخير البعض إلى الإعتقاد بأن الكلمة مركبة من: “تين” و “إميلال”، ومعناها: ذات المدارج، بالنظر إلى أن كلمة “أماليل” وجمعها “إيميلال” تعني في اللغة الأمازيغية الجوانب المبنية من المدرجات الزراعية المعروفة في المناطق الجبلية.[2]
أما ابن عذاري المراكشي (في “البيان المغرب..”)، فقد كتبها على الشكل التالي: “تينمل”، ونفس الشكل أورده صاحب “التشوف إلى رجال التصوف..” (ابن الزيات) ومؤلف كتاب الإستبصار (محمد بن الحسن الطوسي). أما الحسن الوزان في “وصف أفريقيا” فقد كتبها على الشكل: “تينملّ” بلام مشددة، وتبنى صاحب رحلة الوافد (عبد الله ابن ابراهيم التاسافتي) نفس الشكل، وينطقها سكان المنطقة حاليا بنفس الشكل.[3]
وبعد أن استعراض الشكل الذي وردت به تينمل عند المؤرخين السابقين، فإن الباحث والمؤرخ علي صدقي أزايكو يعتقد أن النطق الصحيح للكلمة هو “تينميلّالْ”، ويؤكد أنها ليست كلمة مركبة، بل كلمة واحدة، وأن معناها في الأمازيغية هو المزار أو المحج والحَرم والحُرمة، وأن هذا المعنى لم تكتسبه بمجيء المهدي ابن تومرت واستقراره بها، لأن تينميلّال كانت موجودة قبل ظهور الحركة الموحدية. فدورها، حسب اعتقاد أزايكو، كمكان مقدس تعقد فيه العقود والعهود بين قبائل المنطقة ربما كان بارزا قبل القرن الثاني عشر الميلادي بكثير، ولا يستبعد أن يكون دورها هذا من أهم الدوافع التي جعلت ابن تومرت يختارها لتكون نقطة انطلاق سعيه لتوحيد مصامدة جبل دْرْنْ (الأطلس الكبير).[4]
أصول مدينة تينمل
تقع تينمل وسط بلاد إيزميرن (هزميرة) الذين كانوا ينتشرون في حوض نهر النفيس سواء في الجبل أو السهل. ويبدو أنهم هم الين بادروا إلى استقدام ابن تومرت إلى تينمل وهو مستقر في معقله الأول إكليز نْ وارغن بمنطقة سوس. وقد ذكر ابن القطان في “نظم الجمان” قصة استقدام إيزميرن لإبن تومرت، حيث بعثوا إليه رسلهم يعلمونه بطاعتهم له، وطلبوا استقراره بينهم، وهو ما تم فعلا، فاستقر بتينمل التي أُعجب بها وبموضعها، فقال: “إن أهل تينملل بعثوا رسلهم إلى الإمام المهدي رضي الله عنه يعلمونه بطاعة هزميرة الجبل، وأن مجيئه وسكناه عندهم أصلح له وأقرب من تسامع الناس به؛ فرحل إليهم رضي الله تعالى عنه بجميع من أطاعه. وحصل بتينملل، وأكرمه أهلها وأنزلوه في المدينة وأضافوه وأطاعوه وبايعوه، فرأى من كثرتهم ومنعة موضعهم وحسن بلدهم ما راقه.[5] “، ثم قال: “ثم أدار على المدينة سورا أحاط بوهدتها، وبنى على رأس الجبل سورا، وأفرد في قبته حصنا يكشف ما وراء الجبل…ولا أعلم مدينة أحصن ولا أمنع منها، إذ أنها بين جبلين لا يدخلها الفارس إلا من شرقيها وغربيها. فأما غربيها فطريق أوسع ما به ما يمشي عليه الفارس وحده، وأضيقه ما ينزل عن فرسه خوفا من سقوطه، لأن الطريق مصنوعة في نفس الجبل، تحت راكبها حافات، وفيها مواضع مصنوعة بالخشب، إذا أزيلت منها خشبة لم يمر عليها أحد، ومسافاتها على الصفة نحو مسيرة يوم؛ وكذلك من شرقيها، وهي طريق مراكش، على صفة الغربية”.[6]
وهذه الرواية تؤكد أن تينمل كانت موجودة قبل مجيء المهدي ابن تومرت والإستقرار فيها ولا صحة للأقوال التي تنسب بناءها إليه، ولا للتي تنسب ذلك إلى خليفته عبد المومن بن علي الكومي. وهذا الأخير كان له الفضل في بناء مسجد تينمل، وليس المدينة، وإلى ذلك ربما يعود الخطأ بالقول إلى أن بانيها هو عبد المومن بن علي.
مصير مدينة تينمل
وقد بقيت تينمل مدينة عامرة طيلة عهد الدولة الموحدية، بمسجدها الفريد من نوعه في المنطقة الجبلية، وهو الذي بناه عبد المومن بن علي الكومي، بعد انتصار الموحدين على المرابطين، غير أن المدينة تراجعت بعد تخريبها من قبل المرينيين في عهد السلطان يعقوب بن عبد الحق عام 1275م/674ه.[7]
وفي القرن الثامن عشر الميلادي، أورد صاحب “رحلة الوافد” عبد الله ابن ابراهيم التاسافتي جملة من المعطيات النادرة عن آثار مدينة تينمل، ومن ذلك أن مسجد تينمل كان لا يزال مسجدا جامعا، وكانت به خزانة من الكتب يرجع عهدها إلى العهد الموحدي الأول، وأن سور المدينة كان يمتد جهة الشرق إلى فحص تاسافت، أي على الضفة اليمنى لنهر نفيس. وفي عصر مؤلف الرحلة أشاع بعض الناس، خبر انحراف قبلة مسجد تينمل، فهجره المصلون مما ساعد على تدهور بنيانه منذ ذلك الوقت[8]. وقد وصف صاحب رحلة الوافد المسجد (مسجد تينمل أو المسجد الأعظم) بقوله: “ودخلت المسجد وتعجبت من حسنه ورونق صنعته، وله ستة أبواب، ثلاثة مفتوحة لشرق البلد ولناحية السور، وثلاثة أخرى مفتوحة لناحية غربها مما يلي ربوة البهوميين، وفيها أربع قبب في زواياها، كلها في غاية الحسن والصنعة المتقنة… ولم يبق إلا الأول (الصف) صالحا مع قبتين الغربية والشرقية، واندرس غيرهما”[9].
ورغم اندراس المدينة، ولم يتبقى منها إلا بقايا المسجد وبعض بقايا الأسوار وكذا المقبرة إلا أنها لا زالت حتى بداية القرن العشرين تكتسي طابعا ذا شأن روحي بالنسبة للأهالي، كما بقيت ساكنة المنطقة تحج إليها للزيارة والتبرك، وهو ما أشار إليه إدموند دوتي (Edmond Doutté).[10] وهو ما كان عليه الأمر أيضا قبل ذلك في القرن الثامن عشر الميلادي، والذي أكده صاحب “رحلة الوافد”، الذي قال: “واستقبلنا حينئد المقبرة الكبرى بعدوة وادي نفيس، التي الآن بقرب سور المدينة عند الطريق. وتوسلنا بصالحيها ومن فيها من العلماء العاملين وساداتنا الأشراف، وأراني موضعهم ومقبرتهم في أعلى المقبرة العظمى، وقبور الموحدين على يمين مصلى من ناحية الجبل، وفي وسطها بيت المرابطة يقال لها تَعْزَّى بنت ناصر. ومعها قبور أخرى في البيت. ما زال القوم يتبركون بها وبهم الآن[11].
وإلى تاريخ بداية القرن العشرين، يوم مر أدموند دوتي (Edmond Doutté) في المنطقة، فمقبرة تينمل، لا زالت تستقبل موتى بعض الشخصيات المعروف، كما قيل له. كما وقف إدموند دوتي على عدد من بقايا وخرائب المدينة وخاصة بقايا الأسوار، وكذلك باب المدينة الذي لا زال في ذلك الوقت قائما، والذي كانت ساكنة المنطقة تطلق عليه تسمية باب إغلي، كما وقف على بقايا الأسوار والتي كانت مبنية بالحجر والطين، كما وصف، وفي بعض المقاطع لم يبقى من هذه الأسوار سوى أكوام من الحجارة العارية.[12]
وفي العقد الأخير من القرن العشرين تم ترميم مسجد تينمل (المسجد الأعظم). ففي سنة 1991م و1994م رمم المسجد من طرف مؤسسة “أونا” بشراكة مع وزارة الشؤون الثقافية ومساهمة مجموعات: “أفريقيا”، و”ساجيد”، و”سوميبّي”، و”عائلة بوالعسري”، و”مقاولة البشير بلخلفي”. وفي بداية سنة 2023 أطلقت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بشراكة مع وزارة الشباب والثفافة والتواصل برنامجا لإعادة ترميم هذا المسجد وإعادة تأهيله وتثمينه.
المراجع
[1] أزايكو علي صدقي، نماذج من أسماء الأعلام الجغرافية والبشرية المغربية، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، سلسلة الدراسات وألأطروحات-رقم1-، الرباط، 2004، ص 53.[2] أزايكو علي صدقي، نماذج من أسماء الأعلام الجغرافية والبشرية المغربية، مرجع سابق، ص 53-54.
[3] أزايكو علي صدقي، نماذج من أسماء الأعلام الجغرافية والبشرية المغربية، مرجع سابق، ص 54.
[4] أزايكو علي صدقي، نماذج من أسماء الأعلام الجغرافية والبشرية المغربية، مرجع سابق، ص 54.
[5] ابن القطان المراكشي، نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان، درسه وقدمه له وحققه محمود علي مكي، دار الغرب الإسلامي، ط1 ، 1990، ص 139.
[6] ابن القطان المراكشي، نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان، مرجع سابق، ص 140.
[7] أزايكو علي صدقي، نماذج من أسماء الأعلام الجغرافية والبشرية المغربية، مرجع سابق، ص 55-56.
[8] أزايكو علي صدقي، نماذج من أسماء الأعلام الجغرافية والبشرية المغربية، مرجع سابق، صص 56 و58.
[9] التاسافتي عبد الله ابن ابراهيم، رحلة الوافد، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة، تحقيق علي صدقي ءازايكو، ط1، 1992، ص 174.
[10] Doutté Edmond, MISSION AU MAROC En tribute. publications de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines rabat. Série Trésors de la bibliothèque. n°22. 2014. p 109.
[11] التاسافتي عبد الله ابن ابراهيم، رحلة الوافد، مرجع سابق، ص 174.
[12] Doutté Edmon. MISSION AU MAROC En tribute. Op.cit. p 109.