المحتويات
مقدمة
تمودة Tamuda، حاضرة من الحواضر الموريطانية في المغرب القديم، بل يمكن وصفها بأحسن نموذج يمثل التراث الموري في بناء المدن بالمغرب. وهي من المدن التي في حاجة إلى أن يعرف تاريخها بعمق. فكما انصب الإهتمام لدى الباحثين حول المدن العتيقة سلا وتارودانت ومراكش وفاس وتطوان…، فإن هناك حاجة إلى العودة لاستكشاف مدن المغرب القديم، والتي يبقى كثير منها مجهولا: كوليلي وتينكاَ (طنجة) وبناصا وتموسيدا وروسادير (مليلية) وتوكولوسيدا غيرها.
يقع موقع المدينة في منطقة منبسطة على الضفة اليمنى لوادي مارتيل الذي يجري من الغرب إلى الشرق، وتبعد عن مدينة تطوان بخمسة كليمترات، وب 15 كلم عن البحر الأبيض المتوسط. ويتميز الموقع الذي أنشأت عليه مدينة تمودة بتمتعه بظروف طبيعية مناسبة للإستقرار البشري من تربة خصبة ومياه جارية كافية، وكذا صلاحية وادي مرتيل للملاحة، إضافة إلى توفر مواد البناء في المرتفعات المجاروة للوادي.[1] كما أن المدينة، رغم أنها لا تقع على إحدى الطرق التجارية الرئيسية القديمة، فإنها كانت على اتصال بباقي المدن الموريطانية شمال المغرب كطنجة وليكسوس.[2]
أصول مدينة تمودة
ويجد إسم مدينة تمودة جذوره في اللغة الأمازيغية، فهو مستمد من لفظة “تامدا” الأمازيغية والتي تعني “المرجة” أو “المستنقع العميق”، وهو الرأي الذي ذهب إليه تيسو M. Tissot. فسافلة وادي مرتيل توجد فعلا وسط أراضي مستنقعة، وهي التي قد تكون أعطت للنهر إسم تمودة. وإلى يومنا هذا فكلمة ّثَمْذَ” تعني في لهجة سكان نواحي الريف الغربي: “بركة مائية صافية في مجرى نهر”. ويذكر أن المدينة أسست قبل مدينة تطوان بما ينيف عن ستة عشر قرنا.[3]
ورغم أهمية المدينة سواء في الفترة البونيقية الموريطانية، أو في المرحلة الرومانية باعتبارها احتضنت أحد أهم المعسكرات الرومانية التي أنشأتها روما للدفاع عن تواجدها في المنطقة، فإن النصوص التاريخية لا تسعف كثيرا في الوقوف على تاريخ المدينة. ويعتبر بلين القديم (Pline l’Ancien) صاحب أقدم نص ذكر المدينة، والتي تأكد الأركيولوجيون من وجودها بعد أن عثروا بين أنقاضها على نقش حجري يحمل إسم “تمودة”، وقد نقش باللغة اللاتينية. أما بطليموس (Ptolemée) فقد موضع موقع المدينة في إحداثيات 30-8° طولا و35° عرضا. وذكر الجغرافي بومبونيوس ميلا (Pompius Mela) بدوره نهر تمودة خلال وصفه للساحل المتوسطي للمغرب. وتبقى المعلومات الواردة في ثلاثة نقاش عثر عليها في الموقع، إضافة إلى وثائق أخرى كالنقود والخزفيات وبعض الأدوات، من المصادر الأساسية للتأريخ للمدينة منذ تأسيسها إلى غاية اندراسها.[4]
تاريخ استكشافات موقع تمودة
تعود أول الأبحاث الأركيولوجية في موقع تمودة إلى سنة 1920م، وكان الباحث دو مونطالبان L.C. de Montalban أول من أشرف على التنقيبات التي تمت في الحي الغربي من المدينة، لكن نتائجها لم يتم نشرها. وبعده جاءت حفريات كنطيرو أطوري P. Quintero Atauri بين سنة 1940 و 1944، حيث تم الكشف عن مقابر قديمة، وجزء من المدينة الأولى. وفي سنة 1946 قام سيزار موران P. César Moran بدوره بحفريات في نفس الموضع، تابعها بعد ذلك ميغل طراديل M. Tradell بين 1948 و1956، ونشر نتائجها على شكل دراسات نشرت بين 1949 و 1976. ويمكن اعتبار أعمال هذا الأخير هو البداية الفعلية للعمل الأركيولوجي المنظم وبمفهومه الحديث في موقع المدينة. وبفضل كل هذه الأبحاث والتنقيبات الأركيولوجية أصبحت بنية المدينة في عمومها معروفة، وأصبح تطورها التاريخي معروفا.[5]
تاريخ مدينة تمودة
رغم تأكيد الشواهد التاريخية أن الاستقرار البشري في موقع تمودة يعود إلى فترات ما قبل التاريخ، فإن تحديد الأصول الأولى للمدينة ما تزال مفتوحة على الأبحاث والتحريات. لكن تاريخ المدينة يمتد على فترة تاريخية ما بين القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد والقرن السابع الميلادي. وحسب الحفريات التي أنجزت في موقع المدينة، فإن المدينة عرفت مرحلتين تاريخيتين متمايزتين تخللتهما فترات تخريب.[6]
أما المرحلة الأولى والأقدم فهي مرحلة تمودة البونيقية الموريطانية التي أسست حوالي 200 ق.م وهدمت خلال النصف الأول من القرن الأول ق.م، ثم أعيد بناؤها بعد ذلك إلى أن خربت مرة ثانية سنة 40م. وتتعلق المرحلة الثانية بتمودة الرومانية وهي عبارة عن حصن روماني Castellum شيد وسط المدينة المهدمة. ويتخذ الحصن شكل مربع وقد امتد كل سور من أسواره الأربعة على مسافة 80 متر، وتوسطت هذه الأسوار أربعة أبواب؛ ولقد تم تدعيم هذه الأسوار في فترة لاحقة بمجموعة من الأبراج.[7]
وتشهد البقايا الأثرية التي عثر عليها في الموقع على المستوى الحضاري الرفيع الذي بلغته المدينة خلال القرنين الأخيرين قبل الميلاد، أي في الفترة المورية. ويبدو هذا المستوى من خلال تصميم المدينة الذي يتخذ طابعا هيلينستيا منتظم، وكذا من خلال الجودة التي طبعت بناياتها المتناسقة فيما بينها والشاهدة على كيفية تنظيم المدينة وتجميلها. فقد ازدهرت المدينة بشكل سريع وكبير، بحيث اتسعت شوارعها المتوازية والمتعامدة فيما بينها، وتكاثرت بتكاثر المنازل المطلة عليها، فاتسعت المدينة لتغطي مساحات كبيرة مستفيدة من موقعها الإستراتيجي.[8]
وبعد مقتل آخر الملوك المويطانيين بطليموس سنة 40م، وضم مملكته إلى الإمبراطورية الرومانية، تم تخريب المدينة وضاعت معالمها على إثر حريق مدمر أتى على آخرها. وبعد ضم موريطانية الطنجية عمل الرومان على إعادة تشييد تمودة فوق أنقاض المدينة المورية الأولى المهدمة. وكان أول شيء قاموا ببنائه هو معسكر دائم لمراقبة القبائل الريفية الثائرة والتحكم في تحركاتها. وقد توسع هذا المعسكر ليتحول إلى مدينة جديدة فوق بقايا المدينة المندرسة، لكنها لم تكن بنفس رقي مدينة تمودة المورية الأولى من حيث متانة بنايتها وأسوارها وجمال معالمها.[9]وقد مرت أزمات عدة على مدينة تمودة في نسختها الرومانية، لكن وجودها استمر، واستمرت المدينة في القيام بدورها إلى غاية الربع الأول من القرن السابع الميلادي.
مكونات مدينة تمودة
تميزت الهندسة العمرانية لمدينة تمودة في مرحلتها البونيقية المورية برقيها وتأنقها من خلال توفرها على تصميم منتظم منذ نهاية القرن الأول قبل الميلاد، وهو تصميم من النوع الهيليسيني المتميز بانتظامه وشوارعه الواسعة إضافة إلى ساحة كبيرة كانت مركز الحياة الإقتصادية؛ وهي ساحة تشبه الأغورا الإغريقية (ساعة عمومية). أما المنازل فكانت ذات مساحات صغيرة بدون فناء ومتكونة فقط من غرف مستطيلة. وبالنظر إلى كون المدينة لم تكن مدينة إدارية أو ملكية فإنه لم يتم العثور فيها على أي بناية عمومية.[10] كما كانت المدينة محاطة في بعض جهاتها بسور خارجي متواضع. وعلى العموم فإن البناء، سواء في الحي الجنوبي أو الشرقي، في المدينة تميز بمتانته وتناسقه.
أما في المرحلة الرومانية، فإن المعسكر الروماني الذي أقيم فوق المدينة الموريطانية خلال القرن الثاني الميلادي تميز بأسواره الضخمة المبنية بالأحجار والملاط، وأبراجه الأربعة المستديرة الشكل والمبنية فوق زوايا هذا المعسكر ذو الأبواب الأربعة. وكان كل باب مراقبا من طرف برجين في نفس الوقت، علاوة على أبراج أخرى أصغر حجما من أبراج الزوايا، كانت توجد بين هذه الأخيرة والأبواب الرئيسية، حيث وصل عدد هذه الأبراج إلى عشرين برجا.[11]
وفي الفترة المتأخرة من تاريخ المدينة أثبتت التحريات والأبحاث التي أنجزت في الموقع أن المدينة كانت مركزا أسقفيا بين القرنين السادس والسابع الميلاديين. فقد عثر على بعض مخلفات الديانة المسيحية وخاصة مجموعة من القناديل.[12]
المراجع
[1] العيوض سيدي محمد، مدن ومراكز المغرب القديم، مطبعة دار القلم بالرباط، ط 2022، 12.[2] غطيس مصطفى، تمودة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، 1991، ص 71.
[3] غطيس مصطفى، تمودة، مرجع سابق، ص 05-06.
[4] غطيس مصطفى، تمودة، مرجع سابق، ص 7-8.
[5] غطيس مصطفى، تمودة، مرجع سابق، ص 40.
[6] العيوض سيدي محمد، مدن ومراكز المغرب القديم، مرجع سابق، ص 14-15.
[7] غطيس مصطفى، تمودة، مرجع سابق، ص 45.
[8] غطيس مصطفى، تمودة، مرجع سابق، ص 46-47.
[9] غطيس مصطفى، تمودة، مرجع سابق، ص 55-58.
[10] العيوض سيدي محمد، مدن ومراكز المغرب القديم، مرجع سابق، ص 15-16.
[11] غطيس مصطفى، تمودة، مرجع سابق، ص 57.
[12] غطيس مصطفى، تمودة، مرجع سابق، ص 74.