
المحتويات
توطئة
یُعتَبَرُ محمد بن عبد الله المؤقِّت المراكشي أحد الإصلاحیین الكبار بمغرب القرن العشرين، ومن العلماء الـمهتمّينَ بمشكل تخلف المسلمین عموما والمغاربة خصوصا، عایش الاستعمارين الفرنسي والإسباني، واصطدم بالتّحولات التي صاحبت الاحتلال وأثّرت على المشروع النهضوي الإسلامي وأوقفت الاحتكام للشریعة الإسلامیة. التحولات التي كانت مستفِزّة وصادمة للعقل المسلِم، ما حاد بالنخبة المغربیة آنذاك لرصد مواطن الخلل في الثقافة والتربیة والتعلیم والأدب. ولم یكن ابن المؤقِّت المراكشي بمنأى عن ھذا القلق الفكري الذي دفعه للرّحلة والغوص في أعماق المجتمع بشتى طبقاته وفئاته المؤثرة باحثا عن الحقیقة، متأبطا قلم النّقد اللاذع لأشكال الانحراف التي یصادفها أثناء رحلته. فقدّم لنا تراثا زاخراً عن ثقافة المغرب العمیق الذي كانت تؤطره الزوایا والطرق الصوفیة؛ هذه الأخیرة التي كانت في بدایاتها معاقل لتخریج العلماء والمربین والزُّهاد والمجاھدین، غيرَ أنّها مع مرور الزمن أصابها الوهَن فَأَمْسَت مَرتعا لطلاب الدنیا یَستغلون سذاجة العامة فیسلبونهم أموالَهم ويُخدّرونَ عقولهم، فَكَرَّ عليها ابنُ المؤقِّت یُعرِّي سوءاتِها ویحذّر من مَثالِبها، ويَكشِف تناقُضاتها، مُستعینا في ذلك بمرجعته العلمیة المستندة للكتاب والسنة؛ وھو “الفقيه المتمرس، والأدیب الأریب، والمؤرخ الناقد”.[1]
ویأتي كتاب “الفكر الإصلاحي لابن المؤقت المراكشي الخصوصیات والمرتكزات” للباحثين عدنان بن صالح وعبد الجليل بلخميل لیُجَلّي جوانب من معالم المشروع الإصلاحي لابن المؤقّت، واستخلاص رؤاه ومطالباته ودعوته الإصلاحیة من خلال مؤلفاته ورسائله وأشعاره وفتاويه.
مسار ابن المؤقِّت.. عصامية وموسوعية استثنائية
لقَد زخِرت المدرسة المغربیة بأقطاب الإصلاح الدیني والاجتماعي والسیاسي والعسكري على مدار تاریخها، وتمیَّزت بنوع من الخصوصیة والفرادة في التعامل مع البیئة الاجتماعیة والنسق السیاسي العام والسلطة والعلاقة مع الآخر وإعانة الأمة بمختلف عناصرها من أجل التغییر والنّهوض وإنارة مصباح الفلاح لإنجاح مساعي الإصلاح[2]، ومن بين أولئك الأعلام الذين أثْرَوا هذه المدرسة؛ محمد بن محمد بن عبد ﷲ بن مبارك المسفیوي المراكشي المعروف بابن المؤقّت (ولد في 1312 ھـ/ 1894م، أو 1882م أو 1867م أو 1880 – وتوفي في 17 صفر 1369ھـ، 8 دجنبر 1949، ودُفِنَ بمقبرة باب أغمات بمدينة مراكش.
عالمٌ موسوعي مغربي كتَبَ في التاریخ والأدب والتصوف والسحر والأوفاق والأدب والحدیث والتوقیت والرحلة إلى غیر ذلك، ناهَزت مؤلفاته التسعین، ساعده على ذلك تفرغه الكامل للعلم دون غیره.
كان متصوّفًا مُریدًا في الطريقة الناصرية، ثم متصوّفًا متقدّمًا في الطریقة الفتْحیة، ثم عدل في آخر عمره عن الطریقین، وأعلن استقلاله التام عن كل طریقة، فَجَرّ عليه موقفه الكثیر من المعاناة.
دَعا ابن المؤقت المسؤولین والعلماء لحسم مادة التصوف الطرقي المنحرف في المغرب، والوقوف في وجهْ المد الصوفي الطُّرقي لِقطْعِ دابره، وحسْم مادته، لما كان يشيعه في الناس من الأفكار الرجعية، والعقائد البالية، والسلوكات الجانحة المؤسسة على الخرافة والشعودة والجهل والإحالةِ دونَ نفاد المشروع الإصلاحي لمغرب ما قبل الاستقلال.
تمكّنِ ابن المؤقت من تألیف عدد وافر الكتب، بلغ عددها 89 مؤلفا، ثلاثونَ منها مخطوط، و42 مطبوعاً، ومصادر أخرى تقول أنّ مؤلفات الرجل ضِعف هذا العدد، وأنها بلغت 200 كتاب بین مخطوط ومطبوع حسب وثیقة بخطّ یده.
خاض المؤلِّفُ في مختلف العلوم التي عرفها العصر، من تفسیر وحدیث وفقه وأدب وتاریخ وتراجم ،وكان له اهتمام خاص بكتب التصوف والعقیدة والدعوات الإصلاحیة، وعِلم الفلك والتوقیت الذي كان یشتغل به. ومن بين تلكم المصادر والمؤلفات، نذكر على سبيل الإيجاز: “العنایة الربانیة في التعریف بشیوخنا من هذه الحضرة المراكشیة”، و “المُعرِب عن مشاهير مدن المغرب”، و”نزهة الملُوك في ترجمة مشاهير الملوك”، و”السّعادة الأبدية في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية”، و”الكشف والبیان عن حال أهل الزمان”، و”إرشاد أهل السّعادة لسلوك نهْج كُمّل السادة”، فضلا عن موسوعته الضّخمة “الرحلة المراكشية أو مرآة الـمساوئ الوقتية”.
الفِكر الإصلاحي لابنِ المؤقّت.. استخلاص مضامين الكتاب
مِن زمن حكم السلطان العلوى الحسن الأول (1873-1894م) إلى منتصف مرحلة الحمایة الأجنبیة؛ “تَوالت محاولات الإصلاح بالمغرب الأقصى ناصبةً العزم على درء التّهديدات الخارجیة والارتخاء الداخلي وأزمة النظام التقلیدي، خاصة لما وَجدَ المغرب نفسه وحیداً في مواجهة كِبَار أوروبا، ومحاطاً بجوار مغاربي مُستَعْمَر شرقاً وجنوباً، ووافدة عليه بشَكل قسري إملاءات إصلاحیة تُهَدِّدُ عمقَهُ التاریخي والإستراتیجي ومكوّناته الوطنیة وهويته الدینیة؛ عندها حاوَل رمز السلطة إدخال إصلاحات شملت میادین الإدارة والجیش والاقتصاد ونظام الأمناء، تلاها بإنفاذ البعثات العلمیة إلى أوربا والیابان وتركیا ومصر؛ إلا أنّ صلابة التخلف على المستوى الداخلي وتنامي مظاهر الفساد وانعدام الفعالیة الحضاریة وغیاب مطالب تحتیة للإصلاح واختلال التوازن بین ضفتي المتوسط، وتنامي النزوعات الإمبریالیة لكثیر من الدول المشاركة في مؤتمر مدرید (1880م)؛ حالت دون سریان مفعول سلسلة الإصلاحات الحسنیة” (الكتاب، ص: 08).
انبَهَرت جهات بالوافد الجدید ورغبت في اتباع خطواته مِن أجل التقدم واللحاق بالغرب الأوربي، في حین قاومت فئة من الإصلاحیین الوافد الجدید وواجهته باستِماتة، وقَدّمَت النصح للدولة والمجتمع، من بين أولئك؛ الحسن بن الطیب الیماني بوعشرین، وعبد الحفیظ العلوي، وعلي زنیبر، وأحمد الناصري، وابن الحسن الحجوي الثعالبي..، حاول الإصلاحیون تقدیم مشاریع إصلاحیة لتدارُك الوضع العام الـمتردّي، من ذلك: مشروع الحاج علي زنبیر السلاوي، ومشروع الشیخ عبد الكریم مراد “المتأثر بحالة إصلاحیة سیاسیة ودستوریة شهدها عَصر التنظیمات والأحكام العدلیة في الدولة العثمانیة، وشواهد وأطلال ما تبقى من مشروع النّهضة بمصر على عهد محمد علي باشا، ورغبة وطنیة في الارتقاء بالمغرب والاتقاء مِن شَرّ إصلاح مُمْلَى مِن طرف نادي المستعمرین الكبار” (الكتاب، ص: 13)؛ ومشروع جماعة لسان المغرب المرفوع إلى السلطان المولى عبد الحفیظ سنة 1908. غیر أنّ مشاریع الإصلاح اصطدمت بعراقیل وأحابیل قیّدَتها عن التحقق الذاتي والموضوعي في المیدان، وانكسَرَت التّطلعات على صخرة انهيارات داخلیة وتحدیات خارجیة عجّلَت بسقوط المغربِ فريسة للاحتلال الفرنسي والإسباني.
یَسعى الكتاب إلى البحث في خصوصیات ومرتكزات وتصوّرات الدعوة الإصلاحیة لأحَد أعلام المغرب الكبار في القرن العشرین، وتمحُّل استئناف العمل بعناصر الجدّة والأصالة والقوة الاقتراحیة التي میّزت المشروع الإصلاحي للعلامة محمد بن المؤقت المراكشي.
وقد جاء الكتاب في 108 صفحة، ضامّاً مقدمة عامة، وفصلينِ رئيسيين، حمل الأول عنوان “الإسهام في إصلاح الخلیقة والإقدام على إظهار الحقیقة؛ إضاءات على الجهود الإصلاحیة لابن المؤِّقت” (الكتاب، ص: 17)، تطرق لقضايا الإسهام الاجتماعي لنصوص ابن المؤقت وإظهار جوانب من رفضه لسلبيات التقليد وموقفه النقدي من الاحتلال الأجنبي، وتسليط الضوء على تحذيراته من عبث الأدب المكتوب، ومناهضته لآفات التدين المجتمعي الفاسد، واستلال نصوص مهمة من معاركه في مواجهة الابتداع الطرقي والتصوف المنحرف. فيما ركز المبحث الثاني من هذا الفصل على إظهار براعة ابن المؤقت في صيانة الذاكرة التاريخية للمغرب وتراث الأعلام الكبار، وخلاصات عن جهود النخبة التنويرية وخصوصية الدعوة الإصلاحية.
والفصل الثاني بعنوان “ابن المؤقت وفقه الإصلاح، رؤى ومرتكزات ومطالبات” (الكتاب، ص: 45)، تضمن مناقشات على مستوى حاسة النقد الشرعي والأدبي والاجتماعي في كتابات ابن المؤقت، وبيان رأيه في مسألة الاجتهاد، وتقديمه لأولوية إصلاح الفرد على ما عداها، وتوجّه إرادته لإصلاح المجتمع، وتنديده بالمضمون السائل للحرية المعاصرة، ومواقفه من الآخر، ورأيه تجاه بعض المخترعات الوافدة في زمانه، وتجلية مطالباته لتطوير أنظمة التربية والتعليم وأدوار العلماء والخطباء والفقهاء. مع التعريج على دراسة انشغاله الفقهي والإصلاحي بالمسألة النسائية (حرية المرأة، تعليم المرأة، المساواة بين الجنسين) (الكتاب، ص: 75)، وإيصال مضامين أرائه الإصلاحية بشأن القضاء والحسبة ونظام العدالة وغيرها من القضايا ذات الصلة.
ثم خاتمة، وملحَق هام جدا، ضَمَّ صورا شخصية للراحل، ومكان ولادته وجانبا من أرشيفِ حفَدَته، ونُسخا من مؤلفاته الشهيرة وتلك التي لا يعلم بها إلا القِلّة من الدارسين، ومُقتطفات من رسائله وأشعاره ومُقدّمات كُتُبه.
خلاصات الكتاب
إنّ أهمّ ما خلص إليه هذا الكتاب بمقاربة إجمالیة؛ الاقتراب من الفكر الإصلاحي عند ابن المؤقت المراكشي بغرَضِ إبرازِ مطالباته الإصلاحیة في الحیاة الاجتماعیة والإداریة والثقافیة والعلمية والأدبية؛ مع السعي لإظهار غِنى مقارباته الإصلاحية وكثافته احتكاكه الفكري والشرعي والعلمي مع الواقع ومتغيّراته، ومكابداتِ الفقيه في سبيل إرشاد الناس وتوجيه المجتمع لما فيه خيري الدنيا والآخرة.
ومما خلُص إليه هذا العمل أيضا؛ إبرازُه ما بَقِيَ غفلاً في الكتابات التاریخیة؛ وهو عنایة كتابات ابن المؤقِّت بالقاعدة التي یتشكل منها المجتمع، وتَجْلِة ما تميزت به أعماله من الازدواجیة المفیدة، بحیث یفید منها الباحث الذي یبحث في الحركات الإصلاحیة، كما الباحث الذي يهتمّ بالجانب التاریخي، كلاهما یجدانِهِ صورة صادقة بحق، بـل مرآة عاكسة لأحوال المجتمع المغربي في تلك المرحلة من تاریخ بلادنا، وتقديم ما يدلُّ على أنّ دعوة المراكشي بِشَكل عام كانت ذات أبعاد أخلاقیة.
المراجع
[1] انظر: (الديني) الشقيري أحمد: "معالم المشروع الإصلاحي لابن المؤقت المراكشي"، منشور بالجريدة الإلكترونية إطلالة بريس.[2] (بن صالح) عدنان و(بلخميل) عبد الجليل: "الفكر الإصلاحي لابنِ المؤقِّت المراكشي؛ الخصوصيات والمرتَكزات"، منشورات مؤسسة عقول، بشراكة مع مركز معارف المستقبل للدراسات والبُحوث، الطبعة الأولى أبريل 2025، ص: 21.