بين يدي التقديم

يقضي الإنسان شطرا معتبرا من عمره تحت سقف بيته، ويكون على المحك في علاقته مع من يشاركونه هذا الفضاء، أهله وأولاده، وربما والداه وخدمه. وفي جنباته إما أن ينثر ما اكتسب من جميل الأخلاق، وكمال الأدب، وطيب المعشر، وإما أن ينفث شرا مستطيرا يأتي على الأخضر  واليابس.

ولأن السكن إلى بيت وأسرة أمر جبلي لا غنى عنه لأي بشر سليم الذوق والفطرة، فقد بنى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بيتا، وأسس أسرة، وكان في بيته أحسن الناس خُلقًا، وأرفعهم أدبًا، وأكرمهم يدا، وأتقاهم قلبا، وأرقاهم معاملة؛ عمّر جنباته بجميل السجايا، وكمال الخلق، ولين الجانب، فأسعد عليه الصلاة والسلام من حوله: زوجاته وبناته وأحفاده وأصهاره وخدمه… لم تصرفه كثرة مهامه عن الإحسان إليهم، والترفق بهم، ولم يُنقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه عنّف، أو ضرب، أو حقّر، أو أهان، فعاشت معه زوجاتُه عيشة كريمة هنيّة، لا صخب فيها ولا صياح، ولا صراخ ولا عنف.

وقد حفظت كتب السنة النبوية مشاهد رائعة من هذا الكمال النبوي، الذي حكت عنه الزوجات والخدم. فكان صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله لطيفا رفيقا، سمحا نبيلا، كريما عظيما، لا ينهر ولا يقهر ولا يصيح، قدم للإنسانية نموذجا للكمال البشري لم يُر مثله من قبل ولا من بعد، فكان كما وصفه ربه عز وجل حقا وصدقا: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وكان أهلا لأن يقتدى به: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾، وحريا أن يُتأسّى به: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” [رواه الترمذي وابن ماجه عن عائشة]. وكذلك كان صلى الله عليه وسلم بساما ضحاكا إذا دخل على نسائه، ينشر عبق المودة والسكينة في أرجاء البيت، وينخرط في مهنة أهله دونما تأفف أو منٍّ، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

تقديم صاحبة الكتاب

الدكتورة فدوى توفيق طبيبة من مدينة فاس، لم يصرفها تخصصها العلمي عن الانخراط في أنشطة جمعوية دعوية وتربوية وتوعوية، سجلت وما تزال حضورا فاعلا من خلال مواقع متقدمة في عدد من الهيآت الوطنية: حركة التوحيد والإصلاح – الائتلاف المغربي لوقاية الشباب من الأمراض الجنسية – جمعية تحت العشرين …، كما شاركت في عدد من البرامج التلفزية والإذاعية في موضوع الأسرة، وتربية الأبناء، والشباب، ومخاطر الإدمان… خاضت تجربة الكتابة في عدد من المنابر الإعلامية، وصدر لها عن مركز إشعاع للدراسات الأسرية باكورة أعمالها كتاب [قيم أسرية من بيت النبوة] موضوع هذا التقديم.

تقديم الكتاب

يأتي كتاب ” قيم أسرية من بيت النبوة ” للدكتورة فدوى توفيق، في سياق إبراز  هديه صلى الله عليه وسلم مع أهله في بيته، وقد صدر ضمن منشورات مركز إشعاع للدراسات الأسرية في طبعته الأولى، عن شمس بريس بالرباط سنة 2021، في 220 صفحة من القطع المتوسط، وصُدّر الكتاب بتقديمين ومدخل: التقديم الأول للدكتورة حنان بنشقرون عن الهيئة الناشرة مركز إشعاع، والثاني للدكتور محمد البنعيادي، أما المدخل فخصصته المؤلفة للحديث عن سياق اختيار  موضوع الكتاب وبواعث تأليفه. في حين بيّنت في مقدمتها للكتاب مكانة الأسرة وأهميتها في بناء المجتمع، وأجابت عن سؤال منهجي: لماذا بيت النبوة؟ وختمت بمنهجية الكتاب وخطته. وكان حريا بالمؤلفة أن تبسط في المقدمة مسوغات اختيارها لقيم (الحب – الحوار – المدح – الترويح) والاكتفاء بها دون غيرها، علما أن لائحة القيم الأسرية في بيت النبوة لا حصر لها ولا عدّ.

ثم إن الكتاب من أربعة فصول وخاتمة:

– الفصل الأول: الحب في بيت النبوة (27 – 73) وفيه مبحثان وثمانية مطالب، وتطرقت فيه للحديث عن الحب في القرآن والسنة وعند الصحابة، وتوسعت في كيفية التعبير عن الحب داخل الأسرة مبيّنة نتائج غياب الحب على الأزواج والأبناء.

– الفصل الثاني: الحوار في بيت النبوة (75 – 121) وفيه مبحثان واثنا عشر مطلبا، وفيه تحدثت عن مهارة الحوار في حياة الإنسان وداخل الأسرة، وتتبعت ورود لفظة الحوار ومشتقاتها في الكتاب والسنة، وأبرزت فوائده وآدابه، وختمت بنتائج غيابه على الزوجين والأبناء.

– الفصل الثالث: المدح في بيت النبوة (123 – 151) وفيه مبحثان وتسعة مطالب، وتتبّعت فيه ورود المدح في الكتاب والسنة وحياة الصحابة، موضحة فوائده وآدابه، وأثر غيابه على الزوجين والأبناء.

– الفصل الرابع: الترويح في بيت النبوة (153 – 199) وفيه مبحثان وأربعة مطالب، وفيه ذكرت مفهوم الترويح في القرآن والسنة وسير بعض الصحابة، مبرزة فوائده وأنواعه، وختمت الفصل بآداب المزاح.

على سبيل الختم

يعرض الكتاب أربع قيم أسرية من بيت النبوة، وهو عدد لا يعدو كونه إطلالة من كوة على هذا البيت الذي كان وسيبقى مصدر إلهام للإنسانية كلها، برّها وفاجرها، مؤمنها وكافرها، عربيها وعجميها، هذا البيت الذي شهد نموذجا للحياة الزوجية في أرقى صورها، حيث تعددت قيمه البانية للإنسان والأسرة والمجتمع، وصار قدوة لا تضاهى في الكمال البشري.

لقد امتدت الحياة الزوجية في فضاء هذا البيت الشريف، على مدى ما يقارب أربعة عقود، قدّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقى الصور التي يجب أن يكون عليها الإنسان زوجا وأبا وجدّا وصهرا.

ولعل كتاب ” قيم أسرية من بيت النبوة” الخطوة الأولى في مسافة المايل، إذ يمكن أن يلهم دارسين آخرين بتعميق البحث، ورصد قيم أخرى لا شك أن الحاجة ماسة إلى إبرازها، وتسليط الضوء على هديه صلى الله عليه وسلم فيها، وجعلها أنموذجا يُحتذى لطالبي الكمال البشري في أسرهم، قبل أن يستفحل الداء، وتنهار الأسرة – لا قدّر الله – التي يعتبر انهيارها مقدمة حتمية لانهيار المجتمع.