توطئة

أسال البخاري وكتابه “الجامع الصحيح” مدادا كبيرا لاسيما في السنوات الأخيرة، وذهب البعض إلى التشكيك في صحته، وكتبت في ذلك مؤلفات وتطاول من هم ليسوا من أهل الاختصاص، ولا علم لهم ولا دراية لهم بعلم الحديث ولا علم الرجال، وجاءت الكتابات تباعا والردود عليها من طرف متخصصين. وإن من بين الكتب التي حاولت التعريف بالبخاري، وبما تضمنه كتابه “الجامع الصحيح المسند” باعتباره من أهم مصادر علوم الوحي الإلهي بعد القرآن الكريم، ولأنه اشتمل على قدر كبير من أقوال وأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم موثقة بمناهج علمية دقيقة تضمن صحة ثبوت تلك الأقوال والأحوال عن خاتم النبيين، الذي لم يَبْقَ في العالَم لِنَبي من الأقوال والسِّيَر بقدر ما بقي له عليه وعليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام. والفضل لله تعالى في وجود وخلود هذا المصدر الهام وغيره من دواوين السنة المشرفة، ثم لعلماء الحديث ورجال الرواية الذين تجشموا المشاق، وأجهدوا فكرهم لحفظ الحديث النبوي الشريف، ووضع أدق المناهج لتحمله وروايته، وتمييز صحيحه من ضعيفه.

وبسبب القيمة العلمية والمنهجية والمرجعية الهامة لصحيح الإمام البخاري؛ اعتنى به العلماء والباحثون والمفكرون بشكل كبير ومتعدد الأوجه؛ من توثيق رواياته عن مؤلِّفه، إلى دراسة وفحص صحة أحاديثه، إلى تفسير غريبه، إلى شرح مضمونه، إلى توضيح فقه أبوابه واستنباط دلالات أحاديثه… (الكتاب ص 10). وهذا الكتاب موضوع التقديم لصاحبه ذ. حماد القباج واحد من تلك المؤلفات التي ألفت لذلك الغرض، وقد سماه مؤلفه “عبقرية البخاري”، والذي يقع في 183 صفحة عن مركز يقين، الطبعة الأولى 2018م.

حمّاد القباج… مسار داعية وفاعل مدني 

حماد القباج، داعية مغربي، وفاعل مدني، أستاذ باحث في التاريخ والفلسفة والعلوم الإسلامية، ولد بمراكش يوم 8 يناير 1977م. واصل دراسته النظامية إلى السنة الأولى ثانوي بثانوية سحنون بمراكش، ثم توقف بسبب حادث أصيب على إثره بشلل رباعي، في أبريل عام (1993)، استأنف الدراسة في الموسم الدراسي (1995/1996) بثانوية أبي العباس السبتي بمراكش، وحصل على الرتبة الأولى في المعدل السنوي العام على مستوى الثانوية. تابع دراسته بشكل انفرادي وتعمّق في دراسة القرآن الكريم والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي، وبعض العلوم الإسلامية والإنسانية، وشرع في حفظ القرآن الكريم على يد أحد مدرسي دار القرآن الكريم التابعة ل”جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة” بحي آسيف بمراكش، وهو الأستاذ جعفر بوهلال، الذي كان يتردد عليه في بيته مراعاة لمرضه. ختم القرآن الكريم حفظا وتجويدا برواية ورش عن نافع من طريق الأزرق؛ على يد شيخه المقرئ الدكتور توفيق العبقري، كما حفظ عددا من المتون العلمية؛ منها: الأصول الثلاثة، والطحاوية في العقيدة، والجمزورية، والجزرية في التجويد، والآجرومية في النحو، ونخبة الفكر في مصطلح الحديث، ونظم الورقات في أصول الفقه، ورياض الصالحين في الحديث، وبلوغ المرام في الحديث إلى وسطه. حضر بعض الدروس العلمية بدور القرآن الكريم التابعة لجمعية الدعوة إلى القرآن والسنة، وجالس واستفاد من عدد من العلماء: فقهاء ومؤرخين ومفكرين ودعاة وسياسيين؛ له إجازات علمية منها: إجازة عامة وخاصة من العلامة المحدث محمد الأمين بوخبزة، إجازة علمية من العلامة المختار بن العربي مومن الجزائري، إجازة عامة وخاصة في جميع دواوين السنة وعلوم القرآن والفقه عموما وخاصة الفقه المالكي والتاريخ من العلامة مساعد بن بشير الحسيني. عمل الأستاذ حماد القباج في مهمات تربوية ودعوية وإعلامية وإجتماعية عديدة نذكر منها: مدرس بدور القرآن الكريم منذ سنة (1998) إلى عام (2009)، ساهم في تأسيس موقع “منزلة المرأة في الإسلام” الإلكتروني سنة (2005)، والإشراف عليه إلى عام (2012)، عمل عضوا بهيأة تحرير “جريدة السبيل” منذ تأسيسها سنة (2005)، وفي تأسيس نشاط نسوي بجمعية الدعوة إلى القرآن والسنة عام (2006) والإشراف عليه إلى عام (2012)، وتأسيس مكتب إعلامي لجمعية الدعوة إلى القرآن والسنة سنة (2009) وإدارته إلى تاريخ استقالته عام (2013). كما عمل ناظرا “للخزانة العامرية” بمراكش منذ سنة (2009) إلى سنة 2016. وانتخبه المجلس التأسيسي للتنسيقية المغربية لجمعيات دور القرآن؛ منسقا عاما للتنسيقية سنة (2011)، وأعيد انتخابه منسقا عاما في المؤتمر الوطني للتنسيقية سنة (2012). وعمل مستشارا شرعيا لمؤسسة عطاء للأعمال الخيرية (2012-2020)، وهو من مؤسسي جمعية البشائر لتأهيل وإدماج ذوي الاحتياجات الخاصة (2012)… الخ

ومن مؤلفاته: “رسالة إلى المرأة المسلمة” (مطبوع 2003 / الطبعة 3)، “المغني عن الأسفار في معرفة أحكام وآداب الأسفار” (مطبوع 2004)،  “بسط المقالة في بيان أحكام وآداب سجود التلاوة”، “دفع الأتراح وجلب الأفراح بتقريب كتاب حادي الأرواح (للإمام ابن القيم رحمه الله)”، “الدروس الميسرة في العقيدة”، “إيضاح الدلالة من أحكام سجود التلاوة” (مطبوع 2005)، “بذل القدرة في بيان خصال الفطرة” (مطبوع 2005)، “التبني بين الحكم الشرعي والبديل المرعي؛ دراسة في ضوء القرآن الكريم والسنة المحمدية والسيرة النبوية”، “نظام الحكم في الإسلام والمسألة الدستورية في المغرب” (مطبوع 2012)، “الاستبصار والتؤدة في عرض المستجدات والنوازل السياسية على قواعد المصلحة والمفسدة” (مطبوع 2013)، “حياة شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي؛ العالم المفكر والمصلح المناضل” (مطبوع / يونيو 2014)، “الصحراء المغربية والتعقيد السياسي” (مطبوع 2015)، “عبقرية البخاري” (مطبوع / دجنبر 2018)…

مضامين الكتاب

لقد أنتج الفكر البخاري مَعْلمةً حضارية شكّلتْ عبر تاريخ الأمة مرجعية تربوية إصلاحية نافعة للفرد والمجتمع والدولة، وأرضيةً خصبة يَستخرجُ منها الفكرُ قواعدَ ترشيد السلوك الإنساني، وأصول وآداب استصلاح الأحوال والشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للتجمعات الإنسانية.

وتعد السنة هي الوعاء الأوسع والمرجع الموسَّع؛ لذلك الوحي الشريف المبارك. وإن مضمون كتاب البخاري ليس تراثا تاريخيا يوثق لبيئة معينة ومجتمع معين، وليس معلومات نظرية لتنمية المعرفة الثقافية؛ بقدر ما هو مضمون حي متجدد يتجاوز حدود الزمان والمكان ليبقى كما كان مرجعية تربوية إصلاحية للأفراد والمجتمعات.

وقد استحسن حماد القباج أن يقدم تعريف الجامع الصحيح من خلال شرح عنوانه الكامل كما وضعه مؤلفه وهو: “الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه” لأن هذا العنوان، حسب المؤلف، يعبر عن المضمون بشكل شامل ودقيق، ومهد لذلك بفصل تعريفي بالإمام البخاري، كشف من خلاله ظروف نشأته وأحوال تربيته ومقامات نجاحه وملامح عبقريته… وقصة كفاحه المبارك للربط بين الأمة ونبيها صلى الله عليه وسلم. فجاء الكتاب في مقدمة وسبعة فصول وخاتمة، الفصل الأول: عبقري ما وراء النهر، الفصل الثاني: عبقرية الجمع والترتيب، الفصل الثالث: عبقرية العرض والاستنباط، الفصل الرابع: عبقرية المنهجية وأنوار الربانية، الفصل الخامس: عبقرية الغاية والهدف، الفصل السادس: عبقرية النقد والتمحيص، الفصل السابع: عبقرية الأحاديث المشكلة.

خلاصة

تضمن الكتاب 99 حديثا من الأحاديث النبوية الشريفة التي أخرجها العالم العبقري محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى في كتابه “الجامع الصحيح المسند”. وقد أورد الكتاب هذه الأحاديث التسعة والتسعون لتلامس مختلف المواضيع التي تناولها صحيح البخاري؛ ليرسم القارئ من خلالها: صورة جامعة ومعبرة عن هذه المعلمة الخالدة التي عنونها مبدعها: “الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه”. كما حاول في هذا الكتاب أن يشرح العنوان المذكور ويقدم له؛ بما يساعد القارئ على التعرف على عبقرية الإمام البخاري، وإدراك القيمة العلمية والمنهجية والمرجعية لجامعه الصحيح، والتأكد من مصداقية وصفة بأنه “أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى”.