المحتويات
مقدمة
كانت سنة 1996م مرحلة فاصلة بين زمنين أوحت لعبد الكريم الخطيب وبنعبد الله الوكَوتي ببداية كتابة مذكرات عن مرحلة انتهت بحلوها ومرها، وواجب الوقت فرض التأريخ لها من باب المعايشة والتأسيس والمواكبة. فلم يكن لا عبد الكريم الخطيب رحمه الله صاحب مذكرات “مسار حياة” (1997) ولا الوكوتي “ذكريات مقاوم” (1996) والغالي العراقي “ذاكرة نضال وجهاد” (2002)، وبرادة…..، ودراسة لعبد الرحيم الورديغي نشرها في مجلة “ملفات من تاريخ المغرب” (1997)، ومذكرات نذير بوزار الصادرة باللغة الفرنسية (2002)……. وغيرهم باحثين في تاريخ المغرب بل جزء ممن صنعوه وتركوا بصمتهم بانخراطهم الفعلي في جيش التحرير ودفاعهم المستميت عن استقلال المغرب وحريته.
يعتبر كتاب بنعبد الله الوكَوتي؛ “ذكريات مقاوم” وثيقة تاريخية تميزت عن غيرها؛ لا لأنها أرخت لمرحلة تاريخية وإنما كسبت مشروعيتها وقيمتها من كاتبها ومؤلفها أحد المجاهدين الذي رفضوا الخنوع للاستعمار، وفضحوا الخونة، ووقفوا ضد كل المؤامرات التي حيكت حوله.
الوكوتي.. مسار مجاهد
ولد الأستاذ بنعبد الله الوكَوتي في19 يوليو 1923م بتانوت (وكوت) و هي مدشر برأس فوغال (أعلى قمة جبلية ببني يزناسن) يبعد بـ15 كلم عن بركان المدينة، حفظ القرآن الكريم في وقت مبكر، ودرس الفقه ومبادئ اللغة العربية في المسجد العتيق ببركان، على يد الفقيهين السنوسي والقاضي علي بلعروسي، ثم التحق بجامعة القرويين بفاس سنة 1944، كان عضوا مؤسسا ومسيرا لخلايا حزب الاستقلال بفاس وبني يزناسن قبل أحداث 16 و17 غشت 1953 ، ولما تم اكتشافها لجأ إلى القنيطرة حيث تم اعتقاله وإخضاعه للاستنطاقات وأنواع التعذيب بالسياط والكي الكهربائي في الأماكن الحساسة من جسده، وحوكم بسنتين سجنا، وخمسة أعوام نفيا سنة 1954 ، بتهمة تأسيس خلية إرهابية (أي خلية المقاومة). فيما كانت الأحكام التي شملت حوالي خمسين وطنيا متفاوتة من حيث المدة الزمنية، واستطاعت ثلاث خلايا بكل من عين الركادة و أكليم و بني عتيق تهريبه من سجن بركان إلى الناظور.
كان الوكَوتي سباقا إلى الاتصال بالقبائل الريفية من أجل تأسيس جيش التحرير كما شهدت بذلك قيادة المقاومة بتطوان، عين قائدا ممتازا رئيسا لدائرة أحواز وجدة في فجر الاستقلال، ثم نقل الدار البيضاء. كما كان ممثلا لدائرة أحفير في أول برلمان بالبلاد، و انتخب النائب الثاني لرئيس البرلمان سنة 1963، وكلفه جلالة الحسن الثاني -رحمه الله- بعدة مهام في الرباط و الناظور و غيرهما قبل اندماج جيش التحرير في الجيش الملكي سنة 1956م. كما شغل مهام ومسؤوليات سياسية واجتماعية عدة طيلة مساره الحافل، نذكر منها:
- عضو مؤسس لحزب “الحركة الشعبية”، وعضو مؤسس لحزب “الحركة الشعبية الدستوريةالديموقراطية”، ورئيس مجلسها الوطني.
- تولي رئاسة تحريرجريدة المغرب العربي ثم مديرا لها.
- انتخب رئيسا للمجلس الوطني لحزب العدالة و التنمية سنة 1999، قبل أن يفسح المجال إلى جانب الدكتور الخطيب للشباب لحمل مشعل النضال و الكفاح.
- ساهم في تأسيس جمعية مساندة الكفاح الفلسطيني و تشريفه من طرف الرئيس الراحل ياسر عرفات بوسام فلسطيني.
- ساهم في تأسيس جمعية مساندة مجاهدي أفغانستان وجمعية مسلمي البوسنة و الهرسك.
وقد ساعدت عوامل في تكوين شخصية الوكَوتي أهمها؛ أن بنعبد الله الوكَوتي عاش في ظل ظروف خاصة كان عاشها العالم الإسلامي تحت براثن الاستعمار، والتمزقات الاجتماعية و ضعف القيادات المركزية. ونشأ في بيئة قروية يزناسنية (نسبة إلى بني يزناسن) وتلقى التعليم الأولي في المسجد، وتأثر بالحركة الوطنية وهو في سن المراهقة، قبل أن ينتقل إلى جامعة القرويين لتلقي العلوم الشرعية، حيث كانت الحركة الوطنية بفاس قد قطعت أشواطا مهمة في مسيرتها التحريرية، وتعرض للاعتقالات المتكررة والإستنطاقات، من طرف المستَعمِرين، وكذا المضايقات من طرف رفاقه في درب الكفاح بالأمس، إلى حد التآمر على تصفيته جسديا …
كل هذه العوامل ساعدت بنعبد الله الوكَوتي على أن يكون مجاهدا صامدا، رغم قساوة الظروف، ثابتا على المواقف والمبادئ رغم السجون، كثير الترحال بين المدن لأجل المقاومة رغم قلة ذات اليد، ماض في طريق النضال و الجهاد رغم تهم المشككين و أقوال المغرضين.
عاش مسلسلا طويلا من النضال والعمل الوطني الرصين، الذي بدأه ثلة من رجالات المغرب المخلصين. إلى جانب رفيقه المجاهد الدكتور عبد الكريم الخطيب قبل عقود خلت، عانى فيها أنواع المعاناة والامتحان، والتضييق والتهميش، دون أن يثنيه ذلك عن التثبت بثوابت البلاد المتجسدة في سمو المرجعية الإسلامية ورسوخ الملكية الدستورية ومتانة عرى الوحدة الوطنية. فاستمر في حمل الأمانة ليواصل المسيرة ويتقدم نحو تحقيق الأهداف النبيلة التي من أجلها ضح وكابد وما بدل تبديلا.
كتاب ذكريات مقاوم.. معركة التحرير 1953 ــ 1956 ومخلفات الاستعمار في عهد الاستقلال
اعتبر الدكتور الخطيب -رحمه الله- رفيق درب الجهاد والكفاح للوكَوتي أن كتاب “ذكريات مقاوم” هو أداء للأمانة، أبى الوكَوتي إلا أن يؤديها، “مسجلا في مذكراتك هذه أعمال كل من رافقوك في درب الكفاح باذلين أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، هادفين بذلك إلى تحرير البلاد وإعادة مجدها ورمز وحدتها وسيادتها ” (“مذكرات مقاوم”، ص 6). يقول إدريس الكتاني رحمه الله: “لم يكن الأستاذ بنعبد الله الوكَوتي في هذه المذكرات كاتبا محترفا، ولا متصنعا، ولكنه كان بحكم بيئته الاجتماعية وتكوينه الديني، يكتب بعفوية وبفطرة صادقة ومخلصة حتى ولو تعلق الأمر بنفسه وبمحاولات خصومه للطعن فيه، أو التآمر عليه أو تصفيته جسديا، وهذا يدل على صفاء في النفس وصدق مع الذات” (“مذكرات مقاوم” ص 12).
يقع الكتاب في 581 صفحة، ويتضمن جزأين، الجزء الأول تضمن حرب التحرير 1953- 1956، الجزء الثاني: مخلفات الاستعمار في عهد الاستقلال. كما أصدر سنة 2000 كتابه: “معركتنا ضد الحزب الوحيد” و هو من تقديم الدكتور عبد الكريم الخطيب ومحمد خليدي. وفي هذا الكتاب يرد الأستاذ الوكَوتي على الذين يشككون في نضال مؤسسي “الحركة الشعبية” واستقلالية قرارهم، كما يسلط فيه الضوء على جوانب من تضحياتهم في سبيل إقرار الحريات العامة و التعددية الحزبية.
حاول الوكَوتي استحضار تاريخ يعبير عن مسار حافل بالقضايا ابتدأ فيه من مدخل هو عبارة عن لمحة تاريخية، وعرج على ولادته ونشأته، وكيف أثرت في تكوينه الحركة الوطنية السلفية المغربية التي اعتمدت التاريخ والسيرة النبوية للرسول عليه السلام والخلفاء الراشدين لبناء الناشئة في المجال السياسي، كما وقف على ما قام به الاستعمار من وضع حد للنشاط الوطني يوم 20 غشت 1953، لكن الإيمان خلق وكون المقاومة وجيش التحرير الوطني، وأبرز مواقف حزب الاستقلال من حركة المقاومة المسلحة، وبحكم تواجده بالمنطقة الشرقية وحركيته وجهاده في هذه البقعة تعرض لحركة الجهاد بالشرق وصمود القبائل الشرقية قرنا من الزمن في مواجهة الاستعمار الفرنسي، وتحدث عن الثورة الكبرى بالريف وقائدها محمد بن عبد الكريم الخطابي، وبدايات الحركة الوطنية، ومقتل الشهيد بومدين العثماني بمركز الشرطة بأربكان، وانكشاف الحركة بفاس واعتقال جل أعضاء الخلايا، ونشاط حركة المقاومة بالناظور وبداية تأسيس جيش التحرير بالناحية الشرقية، ونداء محمد الخامس لجيش التحرير وانتهاء تصفية جيش التحرير. وأبرز في الجزء الثاني مخلفات الاستعمار في عهد الاستقلال حيث ظهرت ملامح معركة جديدة، واغتيال أحمد الرمضاني، وجهاد الخطيب وحكومة بلافريج، واعتقال قادة الحركة الشعبية، ومراحل تأسيس أول حكومة بالمغرب، ووقف على مساره السياسي، وأهم محطة فيه حصوله على أغلبية ساحقة في الانتخابات، وإعلان حالة الاستثناء، وحصيلة ما تحقق من منجزات في ظل الاستقلال… هذه العناوين الفرعية وغيرها لا تغني عن قراءة الكتاب والاطلاع عليه.
لقد اتسم الوكَوتي رحمه بالصراحة، وكان أكثر بساطة وعفوية، بل إن صدقه جعله لا يتورع عن وصف نفسه بكونه كان ساذجا في موقف كذا أو قضية كذا أو في حواره مع فلان حين قبل هذا الرأي أو رفضه. كما لا يستنكف أن ينوه بفلان أو فلان حين يذكر له موقفا صائبا وإن كان مخالفا له. وكتاب “ذكريات مقاوم” فيه كثير من الانتقادات و الأوصاف التي أطلقها حتى على اقرب الناس إليه حين تستدعي الأمر ذلك. كما فيه كثير من التعابير التي نوهت بأشخاص كانوا محقين في آرائهم وإن كانوا من خصومه.