توطئة

تعد الرحلة في تراث الغرب الإسلامي ديوان علم وأدب وسجلا لتاريخ وأحداث الأمم وكتاب آثار وأخبار، إذ لعبت دورا رائدا في كشف النقاب عن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلدان والأقاليم. وتنوعت فنون الرحلة في هذا المجال بين جغرافية لاكتشاف قارات العالم على غرار الشريف الإدريسي، ورحلة عامة يمثلها ابن بطوطة ورحلة حجازية تقصد الحج وتصف البلدان التي تفضي إلى بلاده، ورحلة علمية ورحلة سفارية مرتبطة ببعثات الملوك والأمراء وأخرى روحية تقود المريد إلى شيخه في إطار الطرق الصوفية كالقادرية والتيجانية والشاذلية.

وقد اتجه المغاربة نحو المحيط الهندي وجنوب إفريقيا مما أدى إلى ظهور فئة من التجار والعلماء الأعلام الرحالة الذين ركزوا على اكتشاف الرقعة الإسلامية انطلاقا من المغرب والأندلس إلى أقصى المشرق والهند والصين. واعتنوا في ذلك بدراسة الجغرافيا وأشكال الأرض من حيث الطول والعرض وما فيها من جبال وبحار وصحراء، كما هو الحال عند الشريف الإدريسي، وابن جبير، وابن بطوطة، كما اهتموا بالعمران البشري كما فعل ابن خلدون.

وتعد الرحلة وسيلة الإنسان لكسب المعرفة، والتعرف على البيئة والإنسان الذي يعيش فيها منذ أقدم العصور، وما زالت الرحلة من أنجح الوسائل التي يعتمدها الإنسان في الحصول على المعرفة، ولهذا السبب حظيت باهتمام القدامى والمحدثين على حد سواء، كما احتفى العلماء بما قدمته الرحلة من إسهامات، ساعدت على اكتشاف مختلف البيئات والتعرف على نشاط الإنسان في رحابها. ومن ثم، تسابق العلماء والباحثون على تقديم الأوصاف الجليلة، التي أسبغوها بكرم شديد على النصوص الرحلية.

أهمية الرحلات

لقد ظهرت كتابات لرحالة عرب منذ البدايات الأولى لازدهار حضارتها، وتوسع ثقافتها ليتبرعم -شيئا فشيئا- لون أدبي أصبح فيما بعد، وعلى مدى عصور لونا سرديا محتفى به بحثيا وأكاديميا وصارت مادته مرجعا للمهتمين، ووثيقة معتمدة في دراساتهم وأبحاثهم في مجالات معرفية متنوعة وخاصة التاريخ والجغرافيا والحضارة والميثولوجيا والسياحة والأنثروبولوجيا… ومنذ مرحلة الرواد؛ ابن فضلان، وابن جبير، والإدريسي، وابن بطوطة… حافظت كتب الرحلات على وهجها وألقها، إلى أن ازداد الاهتمام بها في العصر الحديث، حيث صدرت أعمال لكتاب خاضوا تجاب متباينة تراوحت مدة الرحلة فيها زمنيا بين عشرة أيام كما هو الشأن مع محمد حسين هيكل في كتابه: “عشرة أيام في السودان” وانتهاء بتجربة أنيس منصور حول العالم في 200 يوم” مرورا بعشرات التجارب الأخرى التي تفاوتت في الشكل والمضمون والدوافع والنتائج، فضلا عن طابعها الأدبي الذي يعنى برصد الواقع، ونقل صوره ومشاهده بلفظ جميل وأسلوب رفيع يحقق المتعة والتأثير الوجداني، وطابعها العلمي الذي يعنى بنقل فوائد ومعلومات تهم المؤرخ والجغرافي والمعماري وعالم الاجتماع وعالم الاقتصاد وغيرهم. بل إن بعض الرحالة ذهبوا أبعد من ذلك فأشاروا إلى بعض العادات والتقاليد كإحياء الأعياد والمناسبات، وذكر أنواع الأطعمة والأشربة والألبسة وغير ذلك من دقائق الحياة الاجتماعية وتفاصيلها، وفي رحلة ابن بطوطة وغيرها ضروب من ذلك. (الكتاب ص 06/05)

دواعي التأليف وأهدافه

عن أسباب التأليف وأهدافه يقول مولاي أحمد صبير الإدريسي في مقدمة كتابه “توفيق الملك القدوس في الرحلة إلى مدارس سوس”: أما سفرنا إلى سوس -أنا ورفيقي الحاج حسن خموش- فقد أردناه سفرا عابرا كعشرات الأسفار التي سبقته، لكن الله تعالى أراده سفرًا وسفرًا، وقد اخترت لهذا السفر عنوان: “توفيق الملك القدوس في زيارة مدارس سوس” ولعله يجد موقعا ضمن ما صنف في هذا اللون الأدبي الماتع. ويجد فيه القارئ ولو صورة موجزة عن هذه البقاع العالمة من سوس القرآن، سوس العلوم الشرعية، سوس الصلاح والتربية والزهد والتزكية.

إن حرص الكاتب على تدوين هذه الرحلة حكمه أمران اثنان:ترجمة مستوى الانبهار بما رأيناه وعايشناه خلال الرحلة، وتقديم خدمة ولو بسيطة لسوس العالمة أرضا وبشرا وتاريخا وعمرانا.

“لقد عشنا أنا ورفيقي في السفر أخي الحاج حسن خموش “أجواء استثنائية” لم نعشها في باقي أسفارنا – حاشا سفر العمرة- كانت رحـلـة مجللة بلطائف القرآن، ونسائم العلوم، وجلائل المعارف، وجميل الدعاء الصالح، عدنا على إثرها إلى ديارنا يدثرنا الشوق إلى العودة وتكـرار التجربة، فأعدناها مرات ثلاث، وفي كل مرة نجد لرحلتنا طعما متجددا فلا نفتأ نبدع أفكارا ومشاريع ومنجزات كان واسطة عقدها حقا وصدقا، قرار أخي الحاج حسن خموش تخصيص جزء من الطابق الأرضي لمسكنه العامر، لتشييد “كتاب الإمام ورش لتحفيظ القرآن الكريم” وتحبيسه في سبيل الله، وهو مشروع اهتدى إليه أثناء عودتنا، ونحن نتدارس -الرحلة سعيدين مسرورين، والكتاب إلى اليوم- والحمد لله – يحضن العشرات من النساء والأطفال والطفلات من المقبلين على حفظ كــتاب  الله تعالى.

مضامين الكتاب

لقد جاء الكتاب “توفيق الملك القدوس في الرحلة إلى مدارس سوس” في ١٤١ صفحة عن مطبعة دار بلال، الطبعة الأولى 2024م، بعد المقدمة، جاءت محاوره على الشكل التالي: السفر في القرآن، السفر في السنة النبوية، السفر في الأدب العربي، فقه السفر، في أدب الرحلة… الرحلة لغة واصطلاحا، بين يدي الرحلة لبلاد سوس العالمة، سياق الرحلة، المدارس العتيقة، الرفيق قبل الطريق، الاستعداد للرحلة، على عتبات قلاع القرآن، النفس الصوفي… بسوس، مونوغرافيا اشتوكة آيت باها، شجرة الأركان، طعام أهل سوس، لباس أهل سوس،  ثم بدأت الرحلة، المحطة الأولى: المدرسة العتيقة إداومنو، ترجمة سيدي عبد الله آيت والغوري، المحطة الثانية: المدرسة العتيقة سيدي بورجا، ترجمة سيدي الحاج الحسين البغدادي، المحطة الثالثة: المدرسة العتيقة أزاريف، ترجمة سيدي محمد الشبي الأزاريفي، المحطة الرابعة: موسم سيدي أحمد أوموسى، ترجمة سيدي أحمد أوموسى، المحطة الخامسة: المدرسة العتيقة تعلات، ترجمة السيدة تعلات، ترجمة سيدي محمد بن العربي، المحطة السادسة: المدرسة العتيقة تاكوشت، المحطة السابعة المدرسة العتيقة تنالت، ترجمة سيدي الحاج الحبيب البوشواري، ترجمة سيدي الحاج محمد الغالي الدادسي، المحطة الثامنة المدرسة العتيقة أدوز، ترجمة سيدي محمد بوعكاف “أوتزروالت”، المحطة التاسعة المدرسة العتيقة آيت موسى، ترجمة سيدي الحاج الحسين بن أحمد الخروعي، المحطة العاشرة المدرسة العتيقة تمزكيدا واسيف، ترجمة سيدي الحاج مبارك، مواقع سياحية باشتوكة آيت باها، اكادير إيمشكيكلن، واحة تركا نتوشكا، على سبيل الختم، وملحق الصور…

على سبيل الختم

اعتبر المؤلف الرحلة إلى سوس رحلة استثنائية بكل المقاييس مفيدة نافعة، مسدّدة موفقة اطلع هو وصديقه خلالها على أرض ميزها الله تعالى بخصائص قل أن تجدها في غيرها، وزارا مدارس ازدادا معها يقينا بأنها قلاع على ثغر حفظ القرآن الكريم، والعناية بالعلوم الشرعية، فضلا عن كونها محاضن للتربية والسلوك وفضاءات نادرة للإنشاد والمديح النبوي.

لقد كتب لهما أن يجالسا شيوخا مربين، وعلماء عاملين إذا رأيتهم أحببتهم، وعجبت لسمتهم، وحرصت على الاستزادة من علمهم. والتأمين بخشوع على دعاتهم، لقد نهلا من غنى مجالسهم، وكرم موائدهم، واستمتعا بجميل حديثهم، ومنحا من رائع سمتهم وجميل وقارهم.

كما لمسا في رحاب هذه المدارس نفسا صوفيا تجلى بوضوح في الأسلوب التربوي السائد فيها، وخاصة في طبيعة العلاقة التي تربط الشيخ بتلميذه. وقد تابعا مشاهد عديدة تترجم هذه العلاقة القائمة على الأدب الجم، والاحترام الكبير سواء في حديث التلميذ مع شيخه، أو طريقة الجلوس بين يديه، أو أسلوب الاستئذان منه، أو طريقة توديعه والسلام عليه، أو الاستجابة السريعة لندائه، والنداء هنا، لا يزيد عن التصفيق باليد ثلاث مرات أو أربع، ليمتلئ الفضاء فورا بقرع نعالهم، فيتزاحمون بالمناكب تلبية لنداء الشيخ، وذلك لشهود حصة درس علمي، أو صلاة جامعة، أو مجلس دعاء خاص… كنا حينها نعجب لجمال النداء.

ومن حسن صنيعهما التفاتة طيبة عبرا من خلالها عن تضامنهما مع هذه الثلة من أهل القرآن الرابضين في رباطهم، القاهرين لرغباتهم وشهواتهم، خدام كتاب الله، وحماة العلوم الشرعية واللغة العربية، فلم يجدا أفضل من هدية ينتفعون بها تدخل السرور إلى قلوبهم، وتشجعهم على مرابطتهم، فكانت الفكرة أن جعلاها كتبا ومصاحف وأفرشة وأغطية شتوية، ووسادات فدبرا حوالي 500 نسخة من المصاحف وخمس علب كرتونية كبيرة تضم المئات من أمهات الكتب في الفقه والتاريخ والأدب، وقد بلغ حبورهما مداه، وسرورهما منتهاه، أن وجدنا حصة مدرسة سيدي بورجا خلال زيارتنا لها شهر غشت 2024م قد زكت بعد أن كانت هذه الحصة نواة وبذرة كنا نرجو أن تثمر وتزهر.

وقد تم توزيع هذه الإكرامية على المدارس التالية: المدرسة العتيقة تعلات وتسلّمها الشيخ محمد العوامي، المدرسة العتيقة آيت موسى وتسلمها الشيخ الحاج الحسين الراغبي، المدرسة العتيقة أدوز وتسلمها الشيخ محمد أعكوف المعروف بأوتازروالت، المدرسة العتيقة أزاريف وتسلمها شيخها الفقيه سيدي محمد الشبي الأزاريفي، المدرسة العتيقة سيدي بورجا وتسلمها الشيخ سيدي الحسين البغدادي، المدرسة العتيقة تاكوشت وتسلمها أحد القيمين على المدرسة (الكتاب ص 124 /125).

الكتاب رحلة تعريفية بمدارس عتيقة لها الفضل في المحافظة على كتاب الله تعالى وسنة نبيه، وتخريج جيل من العلماء، ومحسنين رعوا هذه المدارس وأوقفوا لها أوقافا ساعدت على تحقيق أهداف شيوخ ومدرسي المدارس العتيقة ممن رابطوا فيها عبر حقبة من الزمن، وما زالت المدارس شامخة إلى اليوم، تعلم العلم وتنفض عن الأمة الجهل.