المحتويات
توطئة
يَندُر أن تُذكر حواضر المغرب وتنسى تطوان، هذه الحاضرة الأندلسية التي تأسست نهاية القرن 15م، وذلك لما كان لها من أدوار جهادية وتجارية ودبلوماسية وثقافية في العصور السالفة، إلا أن كثيرا ما تُبتر ذاكرة هذا الإقليم بتجاهل موضع تاريخي يقبع بالضفة الأخرى من نهر مرتيل المقابلة لمدينة تطوان، إنها مدينة تمودة المورية التي يرجع تاريخ مآثرها إلى حوالي قرنين قبل الميلاد.
عمل الدكتور مصطف غطيس على إحاطة القارئ المغربي والعربي عموما بتاريخ هذه المدينة المورية، بواسطة كتاب بعنوان: “تمودة”، نشرته كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان سنة 1991، وتضمن هذا المؤلّف الذي يقع في 186 صفحة، قسمين: الأول خصّصه لتحديد موقع المدينة وأصناف اللّقى التي عُثر عليها بهذا الموضع، أما الثاني فجعله بناء لسردية المدينة التاريخية وتقلباتها في الزمن من خلال المصادر الأدبية والأركيولوجية المتوفرة.
تقديم الكتاب
مصادر الكتاب:
بني تاريخ مدينة تمودة من حرف وطين، فحينما نكتشف مصادر الكتاب نجد الأستاذ غطيس يزاوج بين المصادر المكتوبة والمصادر المادية المدروسة أثناء تأريخه لمدينة تمودة.
فالأولى متفرقة بين مصادر رومانية يعود تاريخ أقدمها إلى القرن الأول ق.م، ثم تأتي بعدها تقارير ودراسات تاريخية أنجزها أركيولوجيون وباحثون فرنسيون وإسبان خلال الحقبة الاستعمارية وبعيدها بقليل، كما تحضر المراجع العربية سواء المتعلّقة بالتاريخ المحلي لتطوان وأحوازها أو تلك التي تتناول مجمل تاريخ المغرب خصوصا في العصر القديم.
أما النوع الثاني من المصادر فهي الآثار المادية التي اعتمدها المؤلّف كوثائق تاريخية[1]، متمثلة في الشواهد العمرانية التي حُفظت في باطن الأرض تحت طبقات الطين، وأنواع الأواني والأدوات التي صنعها أو استوردها سكان وروّاد تمودة، فضلا عن أنواع النقود التي سكّها حرفيو المدينة أو وجدت طريقها عن طريق التجارة إلى هذا الموضع.
تاريخ تمودة المورية:
تأسست مدينة تمودة حوالي 200 سنة ق.م، وسط سهل خصب، بالضفة اليمنى من وادي مرتيل، على بعد 5 كلم جنوب غرب تطوان[2]، ولعل تنامي أنشطة التجار الفينيقيين الذين أسسوا عدة محطات تجارية قريبة من موضع تمودة (كآمسى التي تطل على المتوسط، وسيدي عبد السلام دالبحر عند مصب نهر مرتيل)[3]، دفعتهم إلى اختراق المجال الموري عن طريق النهر، وربط الاتصال بموضعين أكثر عمقا داخل النهر هما: كيتان وتمودة.
عرفت تمودة المورية (الماقبل رومانية) ازدهارا حضاريا خلال القرنين الأخيرين قبل الميلاد، ويشهد على ذلك تصميم المدينة الذي امتاز بأسوار تحيطهامن الخارج دون أن تكون لها أهمية دفاعية كبيرة نظرا لقصر طولها (حوالي متر)، وبيوت تشتمل على عدد قليل من الغرف، والشيء الطريف في هذه البيوت أن زينتها جعلت في ظاهرها لا في باطنها، فالواجهات بنيت بمواد تفوق جودتها بكثير تلك التي استعملت في بناء الجدران الداخلية[4]، إضافة إلى البيوت شكّلت المخازن والمحلاّت التجارية والشوارع مرافق أساس بهذه المدينة المورية.
يعتقد الأركيولوجي الإسباني Tarradell أن مدينة تمودة تعرّضت إلى تدميرين: الأول خلال منتصف القرن الأول ق.م، وأسبابه غير واضحة لكن آثار التدمير بادية في الميدان، وقد حاول الأستاذ غطيس بناء على نتائج أبحاث أركيولوجية وأخبار تاريخية ربط التمدير الأول لمدينة تمودة بأحداث ثورة سكان مدينة طنجة على ملكهم بوغود Bogud سنة 38 ق.م، أما التدمير الثاني الذي أهلك المدينة عن آخرها سنة 40م، فمرتبط باغتيال الإمبراطور الروماني كاليغولا Caligula للملك الموري بطليموس[5]، وما ترتّب عنه من ثورة عنيفة قادها أيدمون أحد موالي الملك، وارتكزت المواجهات العسكرية بموريطانيا الغربية[6]، فكانت تمودة إحدى ضحايا هذه الاضطرابات.
تمودة الرومانية:
بعد أربع سنوات من الثورات ضد روما، استطاع الرومان فرض سيطرتهم من جديد على المجال بأقصى شمال غرب إفريقيا، وقسّموه إلى موريطانيا القيصرية، وموريطانيا الطنجية. إبان إعادة موضعة القوة العسكرية، وبالنظر للمزايا الاستراتيجية لموقع تمودة، أعاد الرومان تشييد المدينة فوق الأنقاض القديمة.
كانت النواة الأولى لتمودة الرومانية عبارة عن معسكر ذو أسوار ضخمة مبنية بالأحجار والملاط، وله أربعة أبواب، كما جعل في زواياه الأربع أبراج مستديرة للمراقبة[7].
شيئا فشيئا عادت الحياة لموضع تمودة، وحرّكت حاجيات هذا المعسكر المعاملات التجارية وخدمات الحرفيين، فأدى ذلك إلى تنامي المعمار بالمدينة[8]، إلا أن هذا المعسكر لم ينعم بالأمان والاستقرار في خضم الاضطرابات والتهديديات التي كانت تستهدف موريطانيا الطنجية من جهة سكان الشمال (فرنسا وإسبانيا)، وأيضا من جهة الموريين (الأهالي).
ولما كانت وظيفة تمودة الرومانية عسكرية بالأساس فقد استقرت بها حامية عسكرية يطلق عليها limitanei أي جند الحدود، وهم عبارة عن جنود يقطعون الأراضي ويمارسون الأنشطة الزراعية[9]، وهكذا غاب المواطنون الرومان عن الاستقرار في تمودة، وانحصر المقيمون في فرقة سلاح الفرسان التابع لجيش الأجانب.
أيضا يحدثنا صاحب كتاب تمودة عن اقتصاد هذه المدينة الذي ارتكز على الأنشطة الزراعية وتحديدا حبوب القمح، والعنب، وهي أنشطة تبوح بها المسكوكات التي ضربت في تمودة وعثر عليها بنفس الموضع، إضافة إلى هذه الموارد اعتمد سكان المدينة على الصيد كمورد غذائي سواء بقنص الحيوانات البرية أو صيد السمك بنهر مرتيل[10].
ما بقي من تمودة:
يضمّ المتحف الأثري بتطوان عددا مهما من اللّقى التي خلّفها سكان تمودة، سواء المورية أو الموريطانية، لتعكس هذه المخلّفات حياة المدينة الثقافية والاقتصادية والمعمارية.
- النقوش: بلغت ثلاث نقائش واحدة منها تضم نقوش ليبية (لغة محلية قديمة) والأخريان كتبتا باللغة اللاتينية.
- النقود: تتشكل من خمسة أنواع (نوميدية، إسبانية، نقود المدن الموريطانية ذات الحكم الذاتي، نقود الملوك الموريطانيين، النقود الرومانية).
- الخزفيات: أهمها الخزفيات الكامبانية (أواني إيطالية الصنع)، وتنقسم إلىمجموعات وأصناف مختلفة، والخزفيات الحمراء اللامعة وهي ترجع على طبقة أركيولوجية ماقبل رومانية، إضافة إلى الخزفيات الأريزية التي صنعت بإيطاليا وتحديدا في أريزو Arezzo.
- الجِرار: وهي أوان استعملت لحفظ السوائل وخاصة الخمور، وتنقسم إلى صنفين، بونيقية ورومانية.
- أنواع أخرى من اللقى: كمواقد البخور والقناديل والتماثيل وهي كلها آثار عكست ديانات وطقوس سكان تمودة وباقي المدن المورية والرومانية بشمال غرب المغرب خلال العصر القديم.
خاتمة
يتعذر في تقديم أي كتاب الإحاطة بمضمونه إجمالا، لذلك فإن كتاب تمودة يحتوي على تفاصيل كل ما سبق ذكره في هذا التقديم، بكيفية تضع أطوار مدينة تمودة في سياقها التاريخي العام، مستندا في معطياته على وثائق وشواهد تاريخية تتحرى الدقة الأكاديمية، ورصانة الكتابة التاريخية المونوغرافية.
المراجع
[1] مصطفى غطيس، تمودة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، 1991، ص، 4.[2] مصطفى غطيس، تمودة، مرجع سابق، ص 6.
[3] مصطفى غطيس، تمودة، مرجع سابق، ص 46.
[4] مصطفى غطيس، تمودة، مرجع سابق، ص 49.
[5] مصطفى غطيس، تمودة، مرجع سابق، ص 53-55.
[6] عبد العزيز أكرير، تاريخ المغرب القديم من الملك يوبا الثاني إلى مجيء الإسلام، الناشر المؤلف، الدار البيضاء، طبعة 2016، ص 65.
[7] مصطفى غطيس، تمودة، مرجع سابق، ص 57.
[8] مصطفى غطيس، تمودة، مرجع سابق، ص 58.
[9] مصطفى غطيس، تمودة، مرجع سابق، ص 61.
[10] مصطفى غطيس، تمودة، مرجع سابق، ص 67.