المحتويات
توطئة
عرف المغرب مسارا سياسيا اختار فيه التداول على السلطة منذ الاستقلال، وتبنى خيار التعددية السياسية، والديموقراطية، والملكية الدستورية، ونظام الغرفتين… وخلال هذا المسار الطويل، تقلد عبد اللطيف الفيلالي عدة مسؤوليات حكومية. ويعد كتاب “المغرب والعالم العربي” من أهم الكتب التي أرخت لحياة رجل دولة من حجم الفيلالي، السياسي المغربي، الذي تقلد خلال خمسة عقود عدة مناصب دبلوماسية وحكومية عدة. اختلف السياسيون المغاربة في الحكم على تجربة الفيلالي، في تدبير الشأن العام، منهم من رأى فيه الكفاءة والجدارة وعمق التجربة السياسية، بينما يؤاخذه منتقدوه على وحدانيته وعزلته وميله الغريزي للابتعاد عن واجهة الأحداث ومواجهة الفاعلين التي يفرضها عليه منصبه، فقد كان قليل الكلام إلى الصحافة مؤثرا عدم التعرض للأضواء الكاشفة، في حين أن منتقديه والمبرزين لإنجازاته، يتفقون على شيء واحد ذي مغزى في الحياة السياسية المغربية، فقد رفض الفيلالي طوال حياته أن ينخرط في حزب سياسي بشكل علني، بل هو أحد رؤساء الوزراء القلائل الذين اعتذروا عن تلبية رغبات الملك الحسن الثاني بهذا الخصوص، خلافا لآخرين دفعهم إلى تشكيل وتزعم أحزاب مثل أحمد عصمان والراحل المعطي بوعبيد، إضافة إلى مانع طبيعي في شخصية الفيلالي إذ لم يكن خطيبا مفوها ذا «كاريزما» تؤهله لقيادة الجماهير. ولعل جزءا من أسرار الدولة والرجل تضمنها كتابه “المغرب والعالم العربي”، أجاب فيه عن العديد من القضايا والتحديات التي واجهت المغرب الحديث.
تقديم الكتاب
قدّم للكتاب هوبير فيدرين، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، وأحد أشد المنتقدين للغزو الأميركي للعراق (وهو الموقف الذي كلفه فيما بعد فقدان منصب الخارجية). ويشهد المسؤول الفرنسي للسياسي المغربي بأنه كان قاسيا على الأنظمة العربية الحاكمة، في تركيزه على عدم أهلية سياساتها الصناعية أو الفلاحية، وبخصوص غياب الممارسة الديمقراطية والإصلاح التعليمي.
والكتاب سيدفع فرنسيين وغربيين إلى التفكير مليا، حسب قول هوبير فيدرين. فبالنسبة للفرنسيين ها هو رجل سياسي مغربي، مزدوج الثقافة، ولا يكتفي بالتأكيد على أنه لم يعد مُتّفِقا مع نظام الحماية والاستعمار، بل إنه لا يعطي مكانة أساسية للعلاقة بين فرنسا ومغرب ما بعد الاستقلال، مُطالِبا برد الاعتبار للعلاقات المغربية الإسبانية ومعها العلاقات المغربية العربية.
كما اعتبر أفكار وتأملات عبد اللطيف الفيلالي أفكارا ذات اعتبار خاص، لا لأنه شغل لمدة عقود بالمغرب مهام دبلوماسية وحكومية من مستوى عال، أو لأنه اشتغل عن قرب مع عاهلين مغربيين: محمد الخامس والحسن الثاني. فقد سبق وكتب مسؤولون عرب ومغاربيون وشرق أوسطيون -ولو أن عددهم قليل- عن حياتهم وعن مسؤولياتهم، ولكن أن كتاب الوزير الأول السابق طبعته قناعة وقوة وحرية أسلوب متميزة، منحته قيمة عالية.
صحيح لم يتنازل الكاتب في تعبيره عن رقته وكياسته ومن اعتداله وعن احتراسه المعروفين، لكننا -يضيف هوبير فيدرين- نشعر أنه وباستمرار يفور سخطا أمام الحالة التي يوجد عليها العالم العربي، أمام الظلم الذي تعرض له هذا العالم على امتداد القرن الماضي، لكن أيضا كيف أضاع الأوراق التي كان يتوفر عليها أمام عدم وجوده المحزن، وأمام تبدد كل أفق المغرب كبير موحد.
وقد أعطى لكتابه عنوانا فرعيا: “من أجل نهضة عربية”، فعبد اللطيف الفيلالي هو أولا وطني مغربي متقد وفخور بالتاريخ المغربي عبر القرون، هذا التاريخ الذي علمه إياه والده، والذي يريد هو بدوره، أن ينقله للآخرين. وقد قام بسرد العديد من فتراته العامة بشكل مفصل. هذا ما قاده إلى عدم التساهل إزاء السياسات الاستعمارية الأوربية بما فيها الفرنسية في القرنين التاسع عشر والعشرين. ومع تأملاته لتشمل العالم العربي والعربي – الإسلامي، وكله حنين لعصوره الذهبية، غضب عن النهج الذي سلكته القوى العظمى بدأ ببريطانيا العظمى والولايات المتحدة بالشرق الأوسط خاصة العراق. (الكتاب ص 3-4)
مضامين الكتاب
تعزز الأدب السياسي المغربي بصدور كتاب «المغرب والعالم العربي» عن دار النشر الفرنسية «سكالي» لصاحبه عبد اللطيف الفيلالي. ويستعرض الكتاب، الذي يقع في 318 صفحة، محطات هامة من التاريخ السياسي المغربي قبل أن يقف على مرحلة الاستعمارين الفرنسي والإسباني، وحرب الريف، والأخطاء الفادحة في المفاوضات مع فرنسا وإسبانيا بشأن الاستقلال، فضلا عن سياسة الحسن الثاني العربية والدولية والعلاقات التي كانت تربطه بعدد من القادة الإسرائيليين.
وتعود فكرة إصدار هذا الكتاب إلى الفترة التي كان فيها الكاتب طالبا بباریس، بالرغم من أن انشغالاته كانت غير ذلك . فقد كان يهيئ شهادة التبريز في الحقوق وكان يساهم كملحق، في أشغال المركز الوطني للبحث العلمي . وكان يود، من خلال هذا الكتاب الإجابة عن العديد من الأسئلة حول المغرب، وبسط رؤيته للعالم العربي الذي لم يكن يعرفه آنذاك إلا من خلال روايات والده، وقد كان لوالده تأثير بارز على مرحلة طفولته وشبابه…
فبعد التقديم والتوطئة تعرض لقضايا المغرب، الجزائر، تونس، شغف الحسن الثاني، الشرق الأوسط، العراق، الجار الإيراني، المأساة الفلسطينية، العراق المحتلة، العالم العربي، ضرب من ضروب الخيال، وخاتمة.
قضايا وآراء من الكتاب
التربية والتعليم:
من بين أقوى الموضوعات التي جاءت في مذكرات عبد اللطيف الفيلالي وأعمق المشاكل التي يعاني منها المغرب مشكلة التربية والتعليم التي خلفت اليوم أزيد من ثلاثة ملايين من الأطفال تائهين في الشوارع والأزقة في غياب مدارس تحتضنهم وتوفر لهم شروط التعلم والتحصيل. والسبب في فشل السياسة التربوية يعود بالأساس إلى سوء تدبير الأموال الضخمة المخصصة للقطاع (26 في المائة من ميزانية الدولة) التي أهدرت بسبب غياب المراقبة اللازمة، سواء في مراحل بناء المدارس أو مراحل التكوين. والأجدر بنا، في هذا الباب، أن نصارح المواطنين بفشلنا، علما بأن جيراننا في تونس تمكنوا، في غضون بضع سنوات، من التغلب على المشكل وحذت الجزائر حذوهم بشكل أو بآخر. يتعين علينا أيضا أن نصارح الآباء بالمعيقات التي تحول دون التحاق أبنائهم بالمدارس، وأن نقف على الأسباب الكامنة وراء قلتها بالبوادي وتواجد معظمها على مسافات بعيدة من الأطفال، وأن نتوصل في الأخير إلى فهم حقيقي للأسباب التي جعلت أزيد من نصف مواطنينا أميين بعد خمسين سنة من الاستقلال.
التشغيل:
أما عن قطاع الشغل، فحدث ولا حرج.. ويكفي أن نفهم أن نسبة السكان النشطين لا تتجاوز ببلادنا 30 في المائة، لندرك الاختلالات الكبيرة في هذا المجال. فهل تجاهلت الحكومات المتعاقبة، منذ الستينات، الأمور الأساسية وتناست واقع وحقيقة البلد؟ منذ أربعين سنة ونحن ننظر إلى أحياء الصفيح تشيد في 24 ساعة والمزارعون يتقاطرون على المدن بحثا عن شغل لن يجدوه.. ونحن في المقابل نكتفي ببناء أسوار عالية لتغطية هذه الأحياء العشوائية التي يتكدس بها المواطنون بالآلاف، دون التفكير في رسم سياسة تقوم على توزيع عادل لإمكانيات البلد ومعالجة رشيدة لمشكل البطالة الذي تمخضت عنها مشاكل ومآس أخرى أهمها زوارق الموت عبر مضيق جبل طارق.
الإصلاح الديمقراطي:
يقتضي تقييم السياسات الحكومية السابقة العمل في اتجاه إقرار ديمقراطية حقيقية وعلى وجه السرعة. فحتى وإن كانت الأوضاع معقدة والوسائل غير متوفرة بما فيه الكفاية، فإن المغرب مدعو إلى الانخراط في العالم المتحضر الذي تحكمه اليوم عدة مبادئ أهمها الديمقراطية وحرية الفكر وحرية التعبير.. إنها ضرورة حتمية، ويكفي أن ننظر إلى جارتنا الأكثر قربا لنتأكد من حتميتها: كيف أصبحت إسبانيا، بعد وفاة الجنرال فرانكو؟ كنت سفيرا في مدريد وشاهدا آنذاك على الأحداث التي عشتها عن قرب.. فبمجرد اعتلائه العرش، بادر الملك خوان كارلوس إلى التأثيث للبناء الديمقراطي من خلال عرض دستور ديمقراطي وليبرالي صادق عليه الشعب الإسباني دون تردد، وجاء فيليبي غونزاليس، زعيم الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، بأفكار متشبعة بروح الديمقراطية والحرية والتنوع والتناوب الحكومي.
السياسة الخارجية للحسن الثاني:
وفي معرض تقييم فترة حكم العاهل المغربي الراحل، الملك الحسن الثاني، أبرز إيجابيات سياساته في السياسة الخارجية التي جعلت المغرب يلعب أدوارا طلائعية على الساحة الدولية، مستشهدا بالعديد من المواقف والمبادرات، منها مقررات مؤتمر القمة العربية التي انعقدت بالرباط سنة 1974 بخصوص تدارس أوضاع القضية الفلسطينية، حيث خلطت القمة الأوراق باعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلا وحيدا للشعب الفلسطيني.
وبحكم قربه من دائرة صناعة القرار في السياسات الخارجية، يشير الفيلالي إلى أن الحسن الثاني كان يعتبر الحكام العرب خاصة العسكريين منهم ومن بينهم جمال عبد الناصر غير ناجعين وغير أكفاء، والإحالة هنا تحديدا على الموقف من التعاطي مع الدولة العبرية.
حيث لم يكن الحسن الثاني يرفض التحاور مع “إسرائيل”، وكانت اتصالاته في البداية سرية تجري في قصره بمدينة طنجة، حيث كان موشي ديان أول رجل فتح معه الملك أول شوط من المفاوضات، ليليه فيما بعد شمعون بيريز وإسحاق رابين، قبل إخبار صناع القرار في الإدارة الأميركية وأوروبا.
ويعترف المؤلف بأنه لم يكن مقتنعا على الخصوص باللقاء الذي جرى مع بيريز في مدينة إفران، حيث كان الرجل غامضا ولا يفصح أبدا عن حقيقة مواقفه، وتأكد من ذلك في ثنايا المفاوضات، عندما رفض بيريز التقدم بأي اقتراح بخصوص قراري مجلس الأمن رقم 242 و358، بل كان صارما بشكل مطلق إزاء المأساة الفلسطينية.
الدول والأنظمة العربية:
وهناك قراءات متباينة للمؤلف لواقع وأداء الأنظمة السياسية في بلدان المغرب العربي، مركزا تحديدا على حالتي الجزائر وتونس. ففي الحالة الجزائرية مثلا، وفي معرض تفسير الأسباب التي أفضت إلى اندلاع ما يشبه الحرب الأهلية خلال العقدين الأخيرين، يوجه الفيلالي انتقادات صريحة للنموذج الاشتراكي في تدبير الحكم، ذلك الذي تبنته السلطات الحاكمة بعد الاستقلال، ملاحظا أن الجزائر لم تعد مُتَمَسِّكة بالتقاليد العربية الإسلامية التي طبعت لمدة قرون العلاقات الروحية للإنسان الجزائري مع الإسلام، كما فسرها منذ بداية الثورة العالمان ابن باديس والإبراهيمي اللذان اشتهرا بأعمالهما بخصوص الهوية الجزائرية، فقد أصبح الأمر يتعلق باشتراكية تحدد كيف سيكون الإسلام والثقافة العربية، وليس بالمرجعية القرآنية التي من المفترض أن تحدد سلوك المسلم. ودفاعا عن الشعب الجزائري، يضيف الكاتب، ينبغي الجهر بالحقيقة، ولو كانت حقيقة مرة، ومن بين أهم هذه الحقائق ضرورة اعتراف الدولة الجزائرية بانحرافها باعتقال آلاف الإسلاميين والزج بهم في مناطق نائية من الصحراء، حيث مات آلاف منهم من جراء الحر والجوع وسوء المعاملة.
ويحيلنا الحديث عن الجزائر حتما على النزاع حول الصحراء، حيث اعتبر المؤلف أن موقف الجزائريين من نزاع الصحراء لا يمكن تفسيره إلا من خلال طموح الجزائريين لجعل الجزائر سيدة المنطقة، إلى درجة تسخير إمكانات مادية ضخمة لإيواء آلاف الصحراويين فوق أرضها وتزويدهم بكل الوسائل، قبل أن تتطور الأمور نحو تأسيس ما سمي “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” في 27 فبراير 1976.
ولو أن أصل الأزمة يوجزه الكاتب في شعار الأخطاء التي يُؤَدّى ثمنها اليوم، من منطلق أن المغرب أحرز استقلاله عن فرنسا وإسبانيا، دون أن يحل بشكل نهائي مسألة الحدود، وها هو اليوم يؤدي ثمن هذا الخطأ.
ويوجه المؤلف انتقادات لاذعة للدول العربية والغربية في معرض تقييم مشاريع الوحدة العربية ومشاريع الشراكة بين دول البحر المتوسط، مؤكدا بداية أن تحقيق أي تقارب بين البلدان العربية المتوسطية وأوروبا رهين بتنمية وتقوية مبادئ الديمقراطية بالجنوب، فلا يمكن الحديث عن مستقبل مشترك في غياب توازن سياسي وديمقراطي. وهذا يفرض على بلدان الجنوب المتوسطي بذل المزيد من الجهود للالتحاق بأوروبا في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وبخصوص تقييم أوضاع الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث قرأ الفيلالي انتصار حركة حماس في استحقاق يناير 2005، بأنه ترجمة لأزمة ثقة في النفس لدى حركة “فتح”، ورغبة غامضة في الهروب إلى الأمام، مدققا في كون حركة حماس استطاعت رسملة كفاح الشعب الفلسطيني بذكاء لصالحها. كما وجه المؤلف انتقادات لاذعة للدول الغربية التي تبنت خيار الحصار والتجويع ضد نتائج الاقتراع التشريعي في فلسطين، موجها رسالة نصح للدوائر الغربية فحواها أن الشعب الذي يفضل أكل الزيتون والملح يجب إجلاله والانحناء أمامه، لأنه محق عندما آثر الكرامة على التسول.
وعن الوضع في إيران، وبعد ثلاث زيارات قام بها الفيلالي، فإن أهم نصح يمكن أن يوجهه لصناع القرار في طهران، إذا كانوا يسعون لتحقيق التقدم، يمر عبر حتمية الانخراط في الحداثة، لأن موقعها الإستراتيجي في منطقة توجد اليوم في وضعية مضطربة يفرض ذلك، مضيفا أن إيران لن تتمكن لوحدها من ضمان الاستقرار بالمنطقة، وأن تحقيق هذا الاستقرار، يتطلب توافقا مركبا بين أربع دول على الأقل: السعودية وتركيا وإيران وباكستان، مما سيكون له انعكاس مباشر على مجموع دول العالم الإسلامي.
خاتمة
يروي عبد اللطيف الفيلالي خمسين سنة من التاريخ في كواليس الحكم المغربي، بفك رموز سياسة الحسن الثاني والدور الدولي للمغرب: تقلبات العلاقات الجزائرية ــ المغربية، الصعوبات مع الجارة الإسبانية، السياسة في الشرق الأوسط، علاقات الملك المتميزة مع القادة الإسرائليين كشيمون بيريز وإسحاق رابين…