المحتويات
توطئة
اختَلَف المؤرّخون في أصْل بني مرين[1]، فمِن قائل بنِسبتِهم لقبيلة زناتة الأمازيغية، ومِن قائلٍ بأصْلِهم العربي اليمني، فيما ذَهَب آخرون إلى القول بانتسابهم لآل البيت النبوي الشَّريف، إلا أنهم لم يختلِفوا في المكانة والقيمة السياسية والثِّقل الإقليمي للدولة المرينية التي تُعدَّ من أهم وأعظم الدول المركزية في الفترة الوسيطية.
كان بنو مرين في بداية أمْرِهم قبائل رُحَّل، خاضعون للحكم الموحِّدي، يتوطّنون المجال الممتَد من فكيك إلى ملوية نزولاً إلى سجلماسة، وتَكاثروا بِشكْل كبير عقِبَ هزيمة الموحِّدين في معركة العقاب بالأندلس سنة 1212م، فاستثمروا انتشار الفوضى وضعف الوجود العسكري والأمني للموحدين في الجهة الشرقية للمغرب، فزحفوا صوبَ الوسط.
النِّزالات العسكرية والتَّأسيس للعَصبية المرينية
اندلعت أُولى المواجهات بين الموحدين والـمرينين على عهد الخليفة يوسف بن محمد الناصر الموحِّدي، بالْتِقاء الجيشانِ في معركة وادي النكور سنة 613 هـ، كانت الهزيمة فيها لجيوش الموحدين. ثم تجدَّدَ النّزال بين الطَّرفين وقبيلة بني رباح العربية سنة 614 ه.
اتَّفَقت عَصبية بني مَرين وقبائلها الـمنتشية بالانتصار على الموحدين على شخصية أبي بكر بن عبد الحق الذي استطاع حيازة مكناس وفاس من أيدي الموحدين حوالي العام 1250م، وبعد مماته، استعاد الموحدون السيطرة على الشمال من نهر ملوية إلى رباط الفتح زمن الخليفة السَّعيد الموحِّدي (تــ 646هـ) الذي تمكَّن مِن قَتْل الأمير المريني أبي معروف سنة 642ه، إلّا أنَّ العصبية المرينية ستستعيد توازنها وقوتها مع تَولِية يعقوب بن عبد الحق (تــ 1286م)، الذي قاد ببني مرين كُبرى النِّزالات والـمناكفات ضد السلطة الـموحدية، وأنْهى وجودها بإزاحة آخر خلفائها إدريس الثاني الواثق وإسحاق الموحدي من بعده.
من زمن القبيلة إلى طور الدولة
ساهمت أسباب عديدة في نيْل المرينيين ثقة المجتمع المغربي بعد هَـزْمهم للدولة الموحدية، من ذلك؛ سَعيُهم في حِفظ المصالح العامة للمغاربة، وتمتُّعهم بدَعم فئة الصّلحاء المتصوّفة والشرفاء، وقيامهم بواجب الجهاد، وادّعائهم النَّسب العربي.
وسيَعمَل الأمير يوسف بن عبد الحق على الانتقال ببني مَرين من لحظات العصبية القبلية إلى زَمن الدولة الفتية القوية بدءً من سنة 656 هـ، حيث امتدَّ حُكمهم على عهده إلى ما وراء تلمسان وكافة التراب المغربي، وجازوا إلى الجزيرة الخضراء والأندلس.
أما في عهدِ الخليفة أبي سعيد عثمان بن يعقوب “ملِك الزّمان وسِراج الأوان”[2] بعبارة المؤرِّخ ابن أبي زرع، فقَدْ اسْتَوسَق له الأمْر وصَفى له الجو، فــ”تَقَلَّص ظِلُّ الموحدين في المغرب، واستتبَّ الأمر لبني مَرين”[3].
وما إنْ حَلّ عهد سلطانهم العظيم أبي الحسن علي بن عثمان المريني (تــ 1351م)؛ حتى تمكّن المرينيون من ضمّ المغرب الأوسط سنة 1336م، والقضاء النهائي على دولة بني عبد الواد، ثم التوجُّه صوب المغرب الأدنى وانتزاع إفريقيةَ/تونس من يد الـحفصيين. وفي المغرب؛ استثمر أبو الحسن المريني جيّداً في النسب الشريف وفي دعْم السلالة الإدريسية وخِدمة التصوف السني المغربي والطريقة الأشعرية، إضافةً إلى الشُّروع في تشييدِ المدارس في سبتة وطنجة وفاس، والمارِستانات والحصون والقِلاع، وسَكّ العملة، والعناية بالصّحة العمومية وبالمجال التِّقني حيث طَوَّروا الناعورة الكُبرى على وادي فاس، وتقريب العلماء وتنشيط حَركة التأليف في شتى المجالات.
كما اعتنى هو وخَلَفُه أبو عِنان ثم أبو فارسٍ المريني بالجيش الذي كانَ أوَّلَ جيش مغربي استعمل الأسلحة النارية، وبالأسطول البحري، واعتمَدوا نِظاماً إداريا قسَّموا بموجِبه البلاد التابعة لهم إلى عمالات، عليها وُلاةٌ مَعَيَّنون، كما اهتَمَّوا بالخراج والضرائب.
الحضور في الأندلس جهادا وإعدادا
كان أهَمَّ عُبور للمرينين صَوب الأندلس على عهد يعقوب بن عبد الحق الذي تلَقَّب بالمنصور، وذلك سنة 1275م برَسْم الجهاد، استطاع فيه استِرجاع مُدُن إشبيلية وقرطبة وشْريش ومالَقة، وتحريرها من قَبضة النصارى.
ثم عاد المرينيون إلى الأندلس في معركة ضخمة ضدّ جيش ألفونسو العاشر ملك قشتالة، بغرض استرجاع الجزيرة الخضراء، وكانت واقعة عظيمة كُتِب فيها النصر لبني مرين وأجنادهم وبعض متطوِّعة الأندلس، وذلك سنة 1278م. وواصل المرينيون بَعدها عنايتهم بالثّغور، وإقامتهم للتّحصينات، وتمدَّدَ حُضورهم في الأندلس وُصولاً إلى غرناطة التي كانت في هذا الطّور تستعدّ للدخول في عهد بني الأحمر. كما عمِل بنو مرين على استرداد طُليطة؛ المدينة الحصينة المنيعة التي حازها القشتاليون زَمن الموحِّدين.
إلا أنَّ هذا الحضور وهذه القوة سرعان ما سيتعرَّضانِ للخذلان والمؤامرات من لدُن أواخر ملوك الطوائف، الذين تواطَئوا مع ملوك قشتالة، فاضطَرَّوا السلاطين الـمَرينيين لتسليم بعض المدن والكُور، والانسحاب من الجزيرة الخضراء سنة 1312م. إلا أنَّ السلطان الأفخم أبو الحسن المريني سيتمَكَّن من العودة للأندلس، واسترجاع جبل طارق سنة 1332م، وسيَعبُر المضيق ثانية صوب الأندلس لمنازَلة الجيوش القشتالية التي ستُلحِق به الهزيمة _ للأسف _ سنة 1339م، مما سيضطرُّه للانسحاب النهائي من مدينة طَريف، ومِن باقي مدن الجزيرة الخضراء بحلول سنة 1342م.
دواعي الزوال وأسباب الاضمحلال
لعلّ من البوادر الأولى لضعف السلطة المرينية داخليا؛ انقضاض أبي عنان على الـمُلك والانقلاب على أبيه أبي الحسن، حين وجودِه في حملة عسكرية ضخمة في تونس، ونشوب نزاع مؤقَّت بينهما، أدَّى بأبي الحسن إلى الاعتزال والانزواء وحيداً، وإلى أبي عنان بالتفرُّد بالـملك، مع عدم القدرة على حماية عُمق الشمال الإفريقي للمغرب، ولا التّطلع صوب الأندلس مرةً أخرى.
وحين توفِيَ السلطان أبو عنان سنة 1357م؛ دبَّ الخلاف في البيت المريني، وكثُرَ الثوار والمتمرِّدون، وطالت الأزمة مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والعلمية، وفُتِح الباب للوطاسيين لكي يستبِدوا بالـحكم والرياسة بعد وفاة آخر خلفاء بني مَرين سنة 1464.
إضافة إلى عامِل تَشتُّت البيت المريني ونشوب الخلافات، وضُعف الحكّام؛ يُعدِّد الأستاذ امحمد جبرون في كتابه هذا[4] الأسباب الأخرى التي أوْدَت بالمرينيين إلى الزوال، منها:
- انكماش الدولة بخروج العَمالات من بين يديها (المغرب الأوسط، المغرب الأدنى، الجزيرة الخضراء..)؛
- الانقسام السياسي الداخلي، وتجزئة البلاد إلى إمارة فاس وإمارة مراكش؛
- العجْز عن حماية السواحل المغربية (سبتة، طنجة..)؛
- ضُعف السَّلاطين واستِبداد الوزراء الوطّاسيينَ بهم.
بنو وطّاس.. البداية والنهاية في فاس
بَعد وفاة آخر أمراء بني مرين؛ استبَدَّ وزراء بني وطّاس بالـمُلك، الذين هم من بني عمومة المرينين، زناتيون أمازيغ، كان من أبرَز وزرائهم علي بن يوسف الوطّاسي المتوفى سنة 863ه. وبعد فِرار الوزير محمد الشيخ إلى أصيلا؛ تمكَّن من مَدِّ نفوذه إلى فاس واستَقَلَّ بالـمُلك فيما بين 875هـ – 910هـ، إلا أنَّه فشِل في تهدئة الأوضاع واسترجاع الأندلس.
فيما عَجَزَ خَلَفه محمد البرتغالي الذي حكَم بين 910هـ – 993هـ عن حماية الثغور المغربية، وأضاع سيادة المغرب على سواحله من أصيلة إلى المعمورة وأسفي.
ولم تَكن مرحلة السُّلطانيين الوُطّاسِيَيْـن أبو حسّون وابن أخيه الذي عَزَله أحمد الوطّاسي؛ أحسنَ حالاً، إذْ سُرعانَ ما ستكون نهايتهم على يد الأشراف السَّعديين، وذلك سنة 961هـ.
المراجع
[1] انظر: (التلمساني) ابن مرزوق: "الـمُسنَد الصحيح الحسن في مآثِر ومفاخر مولانا أبي الحسن"، دراسة وتحقيق الدكتورة ماريا خِسوس بيغارا، تقديم الأستاذ محمود بوعياد، إصدارات المكتبة الوطنية بالجزائر، سلسلة النصوص والدراسات التاريخية رقم 5، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، طبعة 1981./(ابن خلدون) عبد الرحمن: ”كتاب العِبر، وديوان الـمُبتَدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومَن عاصَرهم من ذوي السلطان الأكبر“، المكتبة العصرية، لبنان، تحقيق درويش الجويدي، طبعة 2011.[2] (الفاسي) علي بن أبي زرع: "الأنيس الـمُطرِب برَوض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس"، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، طبعة 1972، ص: 395.
[3] (كنون) عبد الله: "النبوغ المغربي في الشِّعر العربي"، الجزء الأول، قراءة وتعليق الدكتور عبد السلام الهراش، الطبعة الثانية 1960، ص: 177.
[4] (جبرون) امحمد: "تاريخ المغرب من الفتح الإسلامي إلى الاستعمار"، الكتاب الخامس، "الدولة المرينية 1269 – 1553 / 668هـ - 961هـ"، منشورات سليكي أخوين، طنجة، الطبعة الأولى 2020.