توطئة

عرف صراع الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال تحولات جذرية وسريعة بعد طوفان الأقصى، وخلق الوضع الجديد سجالا كبيرا، وحراكا عالميا كسبت منه حركة المقاومة الفلسطينية طوفانا عالميا من المناصرة والدعم أسقط السردية الصهيونية، واتضح لأحرار العالم – بفعل الثورة الرقمية التي عولمت الهولوكوست الفلسطيني- همجية ونازية المحتل الصهيوني الذي يجد دائما سنده في الإمبريالية الغربية، بزعامة وحيد القرن “أمريكا”.

الكتاب الذي ألفه الدكتور الحبيب الشوباني حمل في متنه أسئلة أرقته في مساره البحثي، والتي تتصل “بالأسباب العميقة والبعيدة لهذا الوضع المأساوي الذي تنزف بسببه دماء سكان غزة وفلسطين، والذي ينطوي على عواقب وخيمة محتملة بالنسبة لكوكبنا وللإنسانية جمعاء”. (الكتاب، ص: 8)

كتاب “المسألة اليهودية في عصر الطوفان” قدم له الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية والوزير الاسبق إسماعيل العلوي، يقع في 284 صفحة، انطلق فيه مؤلفه من طرح مجموعة من الأسئلة أعاد صياغتها مقدم الكتاب فجاءت على الشكل التالي : ما الذي ينبغي أن نفهمه من تعبير «المسألة اليهودية»؟ ثم ما هي أصول هذه المسألة؟ ومن تسبب فيها ومتى؟ وهل هي مسألة عالمية تهم جميع الشعوب والأمم؟ أم هي خاصة بما يسميه البعض بالحضارة اليهودية المسيحية، أي بالغرب ؟ وما هي جذورها، وما هي أسبابها العميقة، التاريخية منها والدينية والاجتماعية والاقتصادية؟ وما هي الأجوبة النظرية والسياسية التي قدمت لإيجاد حل لها؟ لا سيما في المجتمعات التي ولدت فيها هذه “المسألة/المعضلة” ؟ وهل كانت هذه الأجوبة مختلفة باختلاف الأوساط الحضارية، أم كانت متطابقة في جميع أنحاء أوروبا، أولا؟ قبل أن تنتقل عدواها إلى المجتمعات الغربية في شمال أمريكا وأستراليا ونيوزيلندا؟ ثم إن المؤلف – يضيف مقدم الكتاب – حاول معرفة مضامين هذه الأجوبة في الواقع الملموس، متسائلا: هل كانت ثمة محاولات للاندماج اليهودي في المجتمعات المسيحية؟ أم كانت محاولات للاستيعاب في ميادين الاندماج الممكنة فقط؟ أم كانت تعبيرا للرفض في صورة عنصرية متسترة ؟ أم محاولات رفض معلنة؟. (الكتاب، ص: 10)

إن الكتاب في مجمله بحث أكاديمي رصين يكشف عن مأساة الشعب الفلسطيني، ضحية “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”، لكنه أيضا يبرز بمنطق علمي صارم مؤشرات أفول هذا الحل الصهيوني، ودخول المشروع الصهيوني أزمة لايقين وجودي غير مسبوقة، بالرغم من الدعم الإمبريالي غير المشروط، ومن بشاعة مشاهد جريمة الإبادة.

دواعي التأليف

إن مما يضفي على الكتاب طابع الإبداع والجاذبية من أول صفحة، هو أن الحبيب الشوباني نهج في تأليف الكتاب أسلوبا مغايرا للبحث الأكاديمي الذي وسمه “بالبارد”، مبتعدا بمنهجه عن “طقوس مجتمع البحث العلمي المشدودة لصرامة الاختيارات النظرية المؤطرة، وانضباط المناهج البحثية الموجهة، وغير ذلك مما يجعل من يقبل على قراءة الكتاب يصاب بحالة عسر الهضم ما لم يكن قارئا باحثا، أو شغوفا متمرسا بالصبر على مشاق التثقيف”.

لأجل ذلك، فإن من غايات الكتاب أن يكون – حسب المؤلف – (أولا)، رسالة خاصة لصفوة أهل الفكر والتأثير وصناع القرار في” الحوض الحضاري الإسلامي”، ولعموم عقلاء العالم، وخاصة لليهود منهم (ثانيا)، أن يكون خدمة ثقافية عمومية ميسرة تروم بناء واستيعاب سردية مُحيَّنة لـ «المسألة اليهودية»، بصفتها قضية فكرية وسياسية ودينية، تاريخية مزمنة ومعقدة، وجعلها في متناول أوسع جمهور قارئ ممكن، له صلة اهتمام ونَسبُ إيمان بعدالة قضية فلسطين، بما هي قضية تحرر إنساني من استعمار استيطاني عنصري سُلّط على شعب القضية وإقليمها منذ قرابة مائة عام. (الكتاب، ص: 15)

وقد أجمل الشوباني  الدوافع المحفزة لتحرير مادة هذا الكتاب، في البواعث الخمسة التالية:

  • الباعث الأول، ويتعلق بواجب المساهمة في إشاعة الوعي العلمي بطبيعة «المسألة اليهودية»، باعتبارها قضية دينية – سياسية في جوهرها وأسيبها، أوروبية – مسيحية – يهودية في تاريخ نشأتها وتشكلها وصيرورتها، مأساوية في علاقتها بتاريخ وجذور الاضطهاد الملازم لليهود في المجتمعات المسيحية. (الكتاب، ص: 16)
  • الباعث الثاني، ويتعلق بالحاجة للمساهمة في كشف مأزق وهم الصلاحية الأبدية لسردية «الحل الصهيوني للمسألة اليهودية»، خاصة بعد انفجار طوفان الأقصى في وجه هذا الحل.
  • الباعث الثالث، ويتعلق بالمساهمة في الكشف الموضوعي عن الطاقة التحررية التي ينطوي عليها طوفان الأقصى، والتي أصابت أركان الأساطير الدينية والسياسية السردية الحل الصهيوني بشروخ جسيمة، وأجهزت على مقاتل حساسة في منظومة قوة الردع والجاذبية الاستيطانية. (الكتاب، ص: 17)
  • الباعث الرابع، ويتعلق بالمساهمة في بيان أن تجميع اليهود في فلسطين على أساس المزج بين الأساطير الدينية والسياسية، المسنودة بالقوة لا بالشرعية التاريخية أو القانونية، يعتبر خطيئة استراتيجية ارتكبتها الحركة الصهيونية في حق يهود العالم عامة، وفي حق من تم تهجيرهم قسرا من أوطانهم الأصلية خاصة، ضدا على إرادة كثير ممن عارضوا هذا الحل لاعتبارات دينية، أو سياسية، أو قومية.
  • الباعث الخامس، ويتعلق بالمساهمة في تمنيع الوعي الثقافي الرسمي والشعبي، بشأن «مخاطر سرطان التطبيع»، من خلال بناء سردية معرفية تعتمد بناء وتحليلا عقلانيا للموضوع، يمكن استيعابها من جعل نُخب صناعة القرار في الحوض الحضاري الإسلامي يقتنعون بأن التطبيع: (أولا)، لم ولن يكون أبدا خيارا، الكتاب 18 إراديا للحكام أو لشعوب الأمة الإسلامية، أي أنه «تطبيع بالإكراه» وبمكر ضغوط التحكم الغربي، وسياسات الهيمنة الإمبريالية المستضعفة للأنظمة والمحتقرة الإرادة شعوب الحضارة الإسلامية؛ و(ثانيا)، للتحذير من أن الرهان على التطبيع لتحقيق أي هدف متوهم في حسابات الواقعية السياسية، يظل رهانا على سياسات استعمارية قديمة، تعمل على تنفيذ مخطط “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”، بصفته مشروعا استعماريا. (الكتاب، ص: 19)

أهداف الكتاب

يهدف هذا الكتاب، حسب المؤلف، إلى المساهمة في بناء وعي موضوعي بسردية المأزق الوجودي لدولة الاحتلال في فلسطين، وهو مأزق قاد إليه توظيف “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” توظيفا انتحاريا لحل أزمة يهود أوروبا، (الكتاب، ص: 20)، من خلال تسخير ” الدولة اليهودية ” لخدمة قوى الاستعمار الإمبريالي وأطماعه للسيطرة على فلسطين، بكل ما تحمله هذه البقعة من دلالات رمزية دينية وتاريخية، ونقطة ارتكاز استراتيجي للهيمنة على دول وشعوب الحوض الحضاري الإسلامي الغني بممراته المائية الاستراتيجية، وإعاقة تحرره واستقلاله الفعلي. إن حقائق التاريخ البعيد، التي أكدت استحالة التعايش اليهودي المسيحي في أوروبا، عادت لتتمظهر من جديد وتؤكد استحالة التعايش العربي الإسلامي مع الوجود الصهيوني، لكن هذه المرة بسبب جحيم العلو والإفساد الذي تسلطه ” دولة اليهود” على سكان فلسطين ومَن حولها، والذي تجسده مفردة “النكبة”، المعبرة عن صيرورة مأساوية جسدتها سياسات الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والاضطهاد الديني، والميز العنصري، والاغتيالات، والكفر العقائدي والإيديولوجي المعلن بحق الشعب الفلسطيني في الوجود. (الكتاب، ص: 21)

مضامين الكتاب

بعد المقدمة، وضع المؤلف عناوين ثمانية لبسط أطروحته ومحاورها، ركز فيها على التيمة المركزية التي كانت سببا في إسقاط الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، وبذلك بدأت منظومة بناء سردية المأزق الوجودي لهذا الحل الذي عمر أكثر من مئة سنة. وقد جاءت المحاور على الشكل التالي: (1) مفاهيم أساسية في وعي ” المسألة اليهودية”، (2) الثورة الرقمية تعولم مشاهد الهولوكوست الفلسطيني بالبث المباشر، (3) أسئلة مفتاحية لفهم تاريخ ومآلات المسألة اليهودية في عصر الطوفان، (4) تمفصلات أساسية في صيرورة تاريخ الطبيعة المأساوية للمسألة اليهودية، (5) المسألة اليهودية من خلال نصوص ثقافية وسياسية أوربية شهيرة، (6) الأصول الدينية والسياسية للحل الصهيوني للمسألة اليهودية، (7) في تفكيك وإعادة تركيب الأساطير المؤسسة للحل الصهيوني للمسألة اليهودية، (8) حقب ومآزق الحلول الأوربية للمسألة اليهودية. أما خاتمة الكتاب فقد وضع لها المؤلف صيغة سؤال إشكالي، صاغه على النحو التالي: بعد الفشل التاريخي للحل الصهيوني، هل يوجد حل حضاري إسلامي ل ” للمسألة اليهودية” ؟ وقد أجاب المؤلف عن هذا السؤال من خلال تقديم ما أسماه ب “الحل الحضاري الإسلامي للمسألة اليهودية”، مبينا أسسه وخصائصه وآلياته، مدعما وجهة نظره باستدعاء خلاصات تفكير أحد عشر مفكرا يهوديا ينتمون إلى ما أسماه “مدرسة الخروج من الصهيونية”. وقد أنهى المؤلف كتابه بملحق خصصه للتحقيب الزمني لأهم المعالم التاريخية والفكرية والسياسية للصيرورة المأساوية ل ” المسألة اليهودية” منذ حقبة خليل الله إبراهيم (20 قرنا قبل الميلاد) إلى لحظة طوفان الأقصى (20 قرنا بعد الميلاد)

يشار إلى أن المؤلف اعتمد ما يربو على 60 مرجعا لتأليف كتاب (المسألة اليهودية في عصر الطوفان : في بناء سردية المأزق الوجودي للحل الصهيوني للمسألة اليهودية)، جل هذه المراجع لمفكربن غربيين يهود. فقد اعتمد الشوباني على 40 مؤلفا باللغة العربية من بينها 15 مؤلفا مترجما من الإنجليزية والفرنسية . أما المراجع الأجنبية فعددها 21 مرجعا. وأغلب مراجعه إنتاجات ليهود سبق لهم أن كانوا صهاينة، لكنهم سخروا فكرهم لنقض المشروع الصهيوني إيمانا منهم بأنه خطر على يهود العالم، وعلى السلم، والقيم الدينية اليهودية الأصيلة، ومن هؤلاء جان بول سارتر، ومارتن بوبر، وحنة أرندت، وإيلان بابي، وشلومو ساند، وآفي شلايم، وإدغار موران، وغيرهم.

خاتمة

إن طوفان الأقصى، حسب المؤلف، أسس لتحولات عميقة وجذرية غيرت معادلات الخوف من توحش لغة القوة في إدارة الصراع بشأن فلسطين، وأدت إلى الاتساع التصاعدي لمديات جاذبية خيار المقاومة المسلحة ضد المشروع الصهيوني، بعد اغتيال كل حلول التعايش السلمي. هذه التحولات فجرت في الضفة الأخرى قلقا وجوديا لدى مجتمع الاستيطان، عمق الشعور بقرب انتهاء صلاحية الحل الصهيوني للمسألة اليهودية»، ونَعاهُ بدنو أجله، لأن العديد من المؤشرات الصلبة تؤكد انحشار هذا الحل ــ بشهادة العديد من المؤرخين والمفكرين اليهود والغربيين العقلاء المنصفين ــ في مأزق من التيه واللايقين الوجودي، وهو مآل حتمي تجري رياحه ضد سردية مزيفة، عاشت يحرسها ويملأها غرور التغلب بالقوة المقرونة بالعلو العنيد والإفساد الشديد؛ كما تؤكد ذات المؤشرات، بدء العد التنازلي لانقلاب منحى حركة التاريخ، لصالح سردية فلسطينية عادلة عاشت يكلأها ويملأها يقين الانتصار بالحق المسدود بالتضحية، وبالأخذ بالأسباب لامتلاك مقومات التحرير بالبأس الشديد، من أجل حل حضاري إسلامي يحرر الشعب الفلسطيني من الاحتلال الصهيوني، ويحرر اليهود من الصهيونية، وهو الحل الذي ينعته المؤلف ب”الحل المزدوج للمسألة اليهودية” . (الكتاب، ص: 21)