توطئة

اهتم العديد من المفكرين بالنص القرآني، وتباينت رؤاهم بشأنه ومنهم من ذهب إلى أن القرآن نص مثل النصوص النثرية والشعرية، وليس كتابا منزلا أو وحيا، وذهبوا إلى تسويته بالأدب، معتمدين على المنهج التاريخي. وقد تأثروا وانبهروا بالمستشرقين وما أنتجه الغرب من دراسات، ونتج عن صنيعهم إساءة كبيرة للقرآن الكريم ولمبلغه، وتعسفوا في لي النص كي ينسجم مع طرحهم الاغترابي والانهزامي في الوقت نفسه، مما أساء لقدسية الوحي، ولمبلغه عليه أفضل الصلاة والسلام.

الدكتور الحسن بوتبيا ومن خلال مؤلفه “القراءة الأدبية للقرآن في ضوء المنهج التاريخي”وفي ثناياه، حاول الإجابة عن سؤال مركزي حول إمكانية اعتبار القرآن نصا أدبيا؟ وبين الحدود الفاصلة بين الوحي الإلهي، والنصوص البشرية. ورصد في ثنايا فصوله ما ألبس للقرآن الكريم من لبوس لا صلة له بها، معتمدا على القرآن الكريم في حد ذاته لتناول الدراسات التي كتبت في مجال التفسير الأدبي، ومدى التزامها بالقواعد العلمية لاستنطاق النص القرآني، واكتشاف الأهداف الحقيقية التي توجد وراء الدعوة إلى مثل هذا التفسير.

تعريف بالمؤلف

الحسن بن محمد بن بوتبيا من مواليد سنة 1942م، في قبيلة نكنافة بإقليم الصويرة. ابتدأ التعلم في مسجدين من مساجد قريته بحفظ القرآن على يد شيخه سيدي مبارك بن الحاج وسيدي علي الكابوس رحمهما الله. وفي فاتح يناير سنة 1957 بعد مجيء الاستقلال التحق لمدة وجيزة بالجامعة اليوسفية في مراكش. وفي أكتوبر من السنة نفسها انتقل إلى المعهد الإسلامي بتارودانت وقضى فيه المرحلة الابتدائية والإعدادية إلى أن حصل على شهادة الدروس الثانوية سنة 1963، وعمل في التعليم الابتدائي بإقليم أكادير. التحق بالمدرسة العليا للأساتذة وبكلية الآداب بفاس، درّس بآسفي، حصل على الدكتوراه، وعمل أستاذا للتعليم العالي في كلية الآداب بجامعة القاضي عياض بمراكش إلى أن أحيل على التقاعد في آخر سنة 2007.

من مؤلفاته: “المفاضلة بين النظم والنثر وأشكال التداخل بينهما في العصر العباسي”، “أثر كتابة القرآن في تطوير الخط العربي في القرنين الأول والثاني من الهجرة”، “أخلاق الوزيرين لأبي حيان التوحيدي بين الواقع والفن”، “المنهج الإسلامي في رواية التراث الأدبي وتدوينه”، ” القراءة الأدبية للقرآن في ضوء المنهج التاريخي”، ” ثنائية الشعر والدين بين النقاد القدماء والمحدثين (من الأصمعي إلى أدونيس)”.

مضامين الكتاب

يقع كتاب ”القراءة الأدبية للقرآن في ضوء المنهج التاريخي” في نحو 310 صفحة. ويقدم هذا الكتاب رؤية تحليلية ونقدية لقضية التسوية بين القرآن والأدب. ويبين منشأ الفكرة وعوامل بروزها والملابسات التاريخية المرتبطة بها منذ إنتاج المنهج التاريخي الذي يعد سيد الميدان في الدراسات الأدبية، إلى تطبيقه على النص القرآني في حقبة المستشرقين، وانتهاء باحتضانه الفعلي من طرف أبرز مفكري العالم الإسلامي. وينطلق منها في تحليله لتصورات أبرز تيارات الفكر الحديث التي تعاملت مع النص الديني بمناهج أدبية، حيث يرصد تيارين أساسيين أثرا في الدراسات الأدبية للقرآن الكريم وهما: التيار السلفي التراثي الذي أدرج ضمنه كل من الأديب مصطفى صادق الرافعي، والدكتورة عائشة عبد الرحمان، والأستاذ أحمد أحمد بدوي، والكاتب سيد قطب. والتيار العلماني الذي أدرج ضمنه كل من الكاتب طه حسين، والكاتب زكي مبارك، والأستاذ أمين الخولي، والأستاذ محمد أحمد خلف الله.

يدخل هذا البحث في إطار البحث عن الذات الإسلامية، وتتبع خطوات الارتباط الفكري المشين الذي حدث مع الغرب، ويجهل كثير من الناشئة ظروفه وأهدافه وحجم التردي الذي أوقع الأمة فيه. وكان اعتماد المؤلف على الأصول الأولى للأفكار كما دونها أصحابها لا على التأويلات التي قام بها الباحثون من بعدهم. وكثيرا ما يقتضي الأمر الإطالة في عرض ما ورد فيها من آراء مع التركيز على الجزئيات العلمية والمعرفية التي صبغت في ضوئها، حتى يتم الوقوف على مفاصل الانحراف التي تحول فيها كثير من قضايا ثقافتنا، وتوجهت توجها مخالفا لأهداف هويتنا وحضارتنا، وهي مفاصل وفوارق واضحة، ومع ذلك لم يعرها أحد الاهتمام الذي تستحقه فيما نعلم، ولا تصور أن يكون لها أي تأثير سلبي بعيد الأثر في الأجيال المتلاحقة كما هو الشأن فعلا.

إن أساس عمل المؤلف هو القرآن وتفاعلات المناهج الحديثة معه ومحاولاتها للنفوذ إلى أسراره، وهي محاولات غالبا ما تنتهي إلى الفشل، وقد تناولها غيره في سياقات مختلفة ولأهداف متعددة، ولا يزعم صاحبنا أنه تناولها على نحو مختلف، وبمحتوى مغاير، ومن زاوية محددة؛ فالمراد تتبع حالة القرآن بين أيدي العلمانيين بالدرجة الأولى، وإبراز مواقفهم منه وامتحان مدى صحتها أو فسادها. والبحث أدخل في ما يمكن تسميته بتاريخ الأفكار في الموضوع الذي يعالجه، يتبع منابعها الأولى وتطوراتها وآثارها في الثقافة العربية المعاصرة. (الكتاب ص 5)

لقد اعتمد المهتمون بالدراسات الأدبية طيلة  النصف الأول من القرن العشرين، باعتباره أبرز ما أبدعته الترعة العلمية في الغرب في دراسة الأدبونقده إلى ذلك الوقت، بالمنهج التاريخي،  وكان التراث العربي الإسلامي المجال المفضل لتطبيقه والعمل به. ولما كان المستشرقون قادته الأوائل فلم يميزوا في التراث بين القرآن والأدب، تطبيقا لما تقتضيه أصول المنهج وتصوره الإبداع النصوص وإنتاجها، ومن ثم كان القرآن نصا أدبيا أبدعه المجتمع الجاهلي، لا فرق بينه وبين سائر النصوص الأدبية، وسادت هذه النظرة معظم الكتابات الاستشراقية التي تناولت الأدب الجاهلي والقرآن وغيرهما، وسرعان ما انتقلت تلقائيا إلى تلاميذهم وأتباعهم في العالم العربي وخاصة في مصر، فتحكمت فيهم هذه الفكرة وصارت بسبب ما لها من صبغة علمية حديثة كالقانون العلمي الذي لا يتصور أحد الطعن فيه والنيل منه.

وقد استند المؤلف إلى المنهج المعتمد عند هؤلاء الباحثين “العلمانيين”، وما انبثق منه من التسوية بين الأدب والقرآن، فكان رائدا في هذه الدراسة، فهو السائد فيها كلها، حتى في ما عرضه من التجاذب بينه وبين التيار السلفي.

ويندرج استيراد هذه المناهج والتيارات الفكرية المتلاحقة، من طرف القوم، والاهتمام بزرعها في التربة العربية والإسلامية في سياق الرغبة في هدم التراث وتفكيكه بقصد إقامة بناء جديد يستجيب لمطامح العصر والحداثة على زعمهم، ويلتقي سابقها ولاحقها عند إنكار الوحي والإصرار على أن القرآن منتوج لغوي بشري أنتجته البيئة الجاهلية، ولا صلة له بالغيب، إذ لا غيب أصلا، فينبغي حسب تصورهم أن يدرس كما يدرس غيره من النصوص الأدبية البشرية، إلا أن صيغ التعبير عن ذلك ومصطلحاته المتداولة ومنطلقاته تختلف من تيار إلى آخر، والأمثلة على ذلك أكثر من أن يحاط ها.

وقد مكنت أعمالهم المؤلف من مادة جيدة للدرس والمقارنة والاستنتاج، سواء في جانبها القرآني وفي جابها الأدبي، وسمحت بإثارة قضايا مهمة في الأدب والنقد العربيين المعاصرين وتاريخهما وصلتهما بالقرآن، كانت في حاجة ماسة إلى تمييز جديدها من قديمها، وأصيلها من دخيلها والربط بينها، ووضعها في سياقها الصحيح من تطور الفكر الإسلامي المعاصر، وصياغتها صياغة مخالفة لما هي عليه عند غيرنا. (الكتاب 7/8)

هذا وقد جاءت فصول الكتاب بعد التقديم، والمدخل الذي تعرض فيه للتسوية بين الأدب والقرآن: نشأتها وعوامل شيوعها، على الشكل التالي:

  • الباب الأول عنونه بالتيار السلفي التراثي، فصله الأول : منهج الرافعي في دراسة الأدب العربي وإعجاز القرآن، الفصل الثاني: النزعة السلفية في دراسة القرآن أدبيا بعد الرافعي، الفصل الثالث: منهج سيد قطب في الدراسة الأدبية للقرآن.
  • الباب الثاني: التيار العلماني، وبه خمسة فصول، الأول : المذهب التاريخي، الفصل الثاني: في الشعر الجاهلي لطه حسين: أثر البيئة الجاهلية وأدبه في إنتاج القرآن، الفصل الثالث: زكي مبارك يتجاوب مع كتاب في الشعر الجاهلي ومنهج صاحبه، الفصل الرابع: أمين الخولي يطبق المنهج التاريخي في البلاغة والتفسير والأدب، الفصل الخامس: منهج التسوية بين القرآن والأدب يمتد إلى القصة القرآنية: محمد أحمد خلف الله يسوي بين القصة في القرآن والقصة الفنية، وختم بخلاصات.

خاتمة

لقد حاول رواد التحديث في الأدب العربي، إخضاع القرآن لتوجهاتهم ومناهجهم، وهم فئتان متميزتان مختلفتان بالرغم مما بينهما من عناصر التداخل والتلاقي، ووحدة الهدف في بعض الأحيان. وبقدر ما كانت الأولى التي لم يعتن بها المؤلف كثيراـ متمسكة بالقرآن، مدافعة عن حضارته وأدبه، محاولة التجديد من خلالهما، كانت الثانية مندفعة نحو الغرب، داعية إلى الأخذ بحضارته وتقاليده ومناهجه العلمية الجديدة، وهي التي ركز عليها وعلى مبدئها الأساسي: التسوية بين القرآن والأدب. فقد كان هذا المبدأ عصب تفكيرها وعصارته، وفي الوقت نفسه عقبة كأداء أمامها، حالت بينها وبين الإسهام الإيجابي في تطوير الدراسات القرآنية.

لم يستنطق المؤلف سوى الآثار المكتوبة التي وقف عليها وصحت نسبتها إلى من عرض لهم من الباحثين، ولم يهتم بشخصياتهم، ولا بتطور أفكارهم فيما بعدها، ولا بتطورات مواقفهم بعد كتابة تلك الآثار  والكتب… ومهما يكن من شأنهم فإنهم قد كشفوا ثغرات الفكر الإسلامي المعاصر ومواطن ضعفه التي هي في حاجة إلى الإصلاح والتطوير حتى يستكمل نهضته.