توطئة

قَبْل إفرادِه بكتابٍ خاص؛ كان الأستاذُ عبد الله كنون يُصدِّرُ الجُزء الثاني من مؤلّفِه الشّـهير “النبوغ المغربي في الأدب العربي” في القسم الذي خصّصَه “للـمنثُور”[1] بـخُطبة أدبية رفيعة للعلّامة القاضي عياض، ثم عادَ في أواسط ثمانينات القرن العشرين بكتابٍ جديد متوسّط الحجم، عنوانه القاضي عياض بين العلم والأدب”، يُقدّمُ فيه شخصية العلّامة السبتي الكبير للناشئة والباحثين والمغاربة والمشارقة، جامعاً في دراسته له وعنه جوانِبَ التميز في مسيرته التأليفية والفقهية والشرعية، وجوانب البراعة في منثوره ومنظومه وشِعْره.

القاضي عياض عالِماً

بعد توطئته الـمطوّلة تحت عنوان بالغ الدّلالة “مساهمة المغرب في بناء الحضارة العربية والعلوم الإسلامية”[2] أرَّخَ فيها للبصمة المغربية في هذا الشأن منذ استقلال المغرب بالخلافة تحت جُبة الإمارة الإدريسية؛ انتَقَل الأستاذ كنّون إلى فصل ضافٍ عن القاضي عياض باعتباره أحد القامات العلمية في المرحلة المرابطية وشطرا من المرحلة الموحدية، نال الشهرة بالعلم، وبما كان عليه من “الـحِفْظ والفهم”، وشهدت مؤلّفاته التي ما تزال تُـتَدَاول إلى يوم الناس هذا “على عُلو كَعْبه وطُول باعِه في المعارف والفنون”[3]، وهو بهذا الاعتبار؛ يُرَقيه صاحبُ “النّبوغ” إلى مرتبة مَعْلَمة فقهية وشرعية وأدبية.

وُلد القاضي عياض بن موسى بن عمرو اليَحْصُبِي بمدينة سبتة في شعبان من سنة 476هـ، بعدَ أن انتقل إليها جَدّه عَمرون (تــ 397هـ) قادما من فاس، فيما توزّعت العائلة اليحصُبية في القيروان وفاس وبعض مُدن الأندلس. حفظَ القرآن بالقراءات السّبع في طفولته، وتلقى أصول العلم والتربية من بيته العامر ومُحيطه السبتي العاطر. وفي سنة 507هـ رحل إلى الأندلس بهدف المزيدِ من طلب العلم، وهو ابنُ إحْدى وثلاثينَ سنة، فأخذ العلوم عن فطاحلة شيوخ قرطبة ومُرسية، وقد أَرْبى “شيوخ عياض على المائة، منهم أبو بكر بن عطية وابن عرَبي؛ لقِيَهما في سبتة، وكَتَبَ له من الـمَشرق أبو نصْر النّهاوندي والطّرطوشي وأبو طاهر السّلفي و عبد الله المازري من المهدية [في تونس الحالية] وسِوَاهم”[4]، فاجتَمع إليه عِلم الرواية وعلم الدّراية “مِن أعْلَى طَبقة”[5]، بحيثُ أُجيزَ في حاضرة سبتة مِن قِبَل كبار العلماء في موطأ مالك وصحيح البخاري وصحيح مسلم وسُنن أبي داود وغريب الحديث لقاسم بن سلام وكتاب الطّبقات لـمُسلم بن حجّاج والـمدوّنَة لابن القاسم والرّسالة لابن أبي زَيد القيرواني.

عَزّز عياضٌ هذا المسار العلمي الحافل بترؤُّسه في سبتة مهمة شورى الأحكام، كما سيُدعى -في مرحلة قصيرة من عُمره- لتَوَلّي منصب قاضي غرناطة، “فكَسَر بذلكَ العادَةَ التي كانت تَجعَل القُضاة يأتون من الأندلس إلى المغرب”[6]، وذلك على عهْد السلطان المرابطي تاشفين بن علي. غير أنه لن يمكُثَ طويلا في هذه الخطة الدينية الخطيرة، نظرا لصرامته وجديته وإنزاله حقوق الشّرع في حَقّ المخالفين مهما عَلَت منزلتهم بين العامة والخاصّة في غرناطة وأحوازها.

ويبدو أنّ علاقة القاضي عياض بالقضاء لم تتوقّف بِتَوقيفه عنها في غرناطة، إذ ما فتئ أن عادَ مُعزَّزًا إلى مهمة القضاء في سبتة على عهد إبراهيم بن تاشفين “فابتَهَج أهْل بَلده بذلك”،[7] ومنذ ذلكم الحين ارتَبَط لقَبُ “القاضي” بالعلّامة عياض، فاشتَهَر به.

وهو في أثناء ذلك كله، كانت له إسهامات مُجتمعية، من قَبيل انخراطه في بناء وتوسعة المسجد الكبير بسبتة، والزاوية أو الرابطة الـمشهورة هناك في جَبل الـمُنيا.

التنوّع في التأليف والتألّق في التصنيف

أثْنَت الـكَثْرة الكاثرة من الفقهاء والعلماء والنخبة الدينية والثقافية منذ القرن السادس الهجري على شخصية العلّامة عياض السّبتي، وأبْدَت إعجابَها بسيرته ومواقفه وأعماله ومؤلّفاته، وشهِدَ له تلامذته ومُحبّوه ومَن دَرَسوا تراثَه مِن الأقدمين والـحالِيين بالتميز والألَق. وجميع تلك الشهادات تؤكّد أنه كان إمام الوقت في علوم الحديث والفقه والسّيرة النّبوية والتّفسير والأصول، فضلا عن تنويه الخاصة والعامة بما كان عليه مِن إجادة للخطابة وإتقان للنّـثر والشِّعر، وأنه بذلك كانَ مِن الـحُفّاظ الكبار لمذهب مالك بن أنس رحمه الله.

أما صِفاته الـخُلقية، فأوْرَد الأستاذ كنّون مُقتطفات من رسائل وتعليقات وتَقييدات الـمُتَقدّمين تؤكّد اتّصافَه بالنّبلِ والتأدب ومكارم الأخلاق، والصرامة مع روح الدّعابة، والصبر، والحلم، وأنه كانَ جوادا سَمْحاً، دؤوبا في العمل، “باديَ السِّيادَة، مُنبِئا عن اكتسابِ الـمعالي والإفادة” حسب تعبير أحد معاصريه في غرناطة السيد عبد الرحمن بن القصير، ناهيك عما حلّاه به الأديب الأندلسي اللامع الفتْح بن خاقان مِن أوصاف وتنويه بشخصه في كتابه المشهور “قلائد العقيان ومَحاسِن الأعيان”.

يُعدِّد العلّامة كنّون جهودَ التأليف والتصنيف في السيرة العلمية للقاضي عياض، مُعرّفا ومُثنيا على كتابه الشهير “الشِّفا في التعريف بحقوق المصطفى” صلى الله عليه وسلّم، ويَسُوق بضعةَ أبياتٍ شعرية قِيلت في حق هذا الكتاب وكاتِبه. ويذكر كتابه الجميل “مشارق الأنوار على صِحاح الآثار” الذي قيلَ في حَقّه:

مَشارقُ أنوارٍ تَبَدّتْ بِسَبْتةٍ *** ومِن عَجَبٍ كَونُ الـمَشارِق بالغَربِ

ومن كُتُبه الحَديثية؛ يَذكُر: “إكمال الـمُعلّم” وهو مما “أفضَلَ به على علماء الحديث ونَشَرَ له ذِكْرًا عاطرا بينهم”[8]. وكتابه “الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتَقْييدِ السّماع” وهو فريد في بابه. ومن مؤلفاته في الفقه كتاب “التّـنبيهات” الـمستنبطَة من مدونة الإمام سُحنون، وضَع به “منهجا جديدا للفقهاء والباحثين في أصول المذهب”[9] المالكي.

ومِن كُـتُبِه الشّهيرة والعظيمة “ترتيب الـمَدارك وتَقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك”[10]، وهو مِن أوائل وأهَمّ كتب طبقات التراجم بالمغرب الأقصى، سَدّ به القاضي عياض فراغا عظيما في هذا الباب. تَممّه بكتاب “الغُنْية” وهو مِن صِنْفِ الفهارس العلمية للأشياخ والإجازات التي تَلقاها القاضي عياض في مَسيرته. وقائمة أخرى تضم “بُغيةَ الرّائد لما تَضَمّنَه حديث أُمِّ زَرعٍ مِن الفوائد”، و”مُعجَم شيوخ أبي علي الصَّدَفي”، و”الإعلام بحدود قواعد الإسلام” و”سِرّ السُّراة في أدَب القُضاة”، و”نَظْم البُرهان في جَزم الآذان”، و”الفنون الستّة في تاريخ سبتة”، ومؤلفات أخرى لم يتسنّى له إكمالها.

إنَّ هذا النِّـتَاجَ الهامّ يُبْرِزُ تَـميّز القاضي عياض بشخصية علمية وشرعية فذة، جعَلت منه شخصا يتمتّع بالسمعة الكبيرة في مشارق الأرض ومغاربها.

القاضي عياض أديباً

رغم نزعته الفقهية واشتغاله الـمتكرر على النصوص الشرعية والأحكام والسِّيرة؛ إلا أنّ صِلَة القاضي عياض بالأدب والإرث العربي الضّخم مِن الشِّعر والبلاغة وأيام العَرب وأنسابها ولغاتها، والنّثر، بقيَتَ قوية مَتينة، بل فاقَ غيره مِن نُخبة العصرَيْنِ المرابطي والموحدي في العناية بالأدب واللغة الأدبية، والقُدرة على استِظهار أشعار العرب، فَكُتُبُه ومُؤَلَّفاته عامِرة “بالـفوائد اللغوية والأدبية والشّواهد الشّعْرية للألفاظ الغَريبة وشَرْح الكلمات الـمُشْكَلَة والـعبارات الـمُغْلَقة”[11]، مما يُفيد تَمكّنه الراسخ مِن العلوم الآلية.

يُسجّل الأستاذ كنّون على الفقيه القاضي عياض براعته في الأدب مِن جِهة “الممارسة الفِعلية والتجربة العمَلية للإنتاج الأدبي الذي يَتمثّل في كتابة النّـثْر ونَظْم الشّعر على الطريقة الـمعهودة بين أدباء عصره وأدباء العربية بِعامّةٍ، وقد تَعاطى عياض الأدب بهذا المعنى وبَرَز فيه، وساجَل أعلامَهُ وسابَق فُرسانَه”.[12]

وفي دراسته لمؤلّفات القاضي عياض، سواءٌ في الجزء الثاني من “النبوغ المغربي في الأدب العربي” أو الفصل الثالث من “القاضي عياض بين العلم والأدب” يَخلص الأستاذ الأديب كنّون إلى أنّ عياضًا كان ناثِراً أبْلَغ منه شاعِراً، أجادَ وحَسّنَ وطَوّرَ مُستواهَ في الكتابة والنّثر نَظيرَ الكَمّ الهائل من المؤلفات والرسائل التي كَتَبها، مما أُتيحَ له في هذا المجال أكثَر مِن الشِّعر.

إنّ الإجادة والإتقان اللّتان تمّتع بهما نثْرُ القاضي السبتي؛ أفصَحت عن قوّته في السَّجْع والتّرْسيل معاً، ويَسوق الأستاذ كنون في هذا الصّدد نصوصا مِن رسائل القاضي عياض، ومَطالع مُقدّمته الضافية في كتاب “الشّفا” وبعض خُطَبه الدّينية[13] المكتوبة في مناسبات مختلِفة، والتي أبانَ فيها عن الـمَقْدُرة البَيانية العالية عند القاضي عياض.

ومن شعره، قوله:

أراقِبُ النّجمَ في جُنْح الدُّجَى سهِراً

كــأنّني راصــــدٌ للنّـــجـــــمِ أوْصــــــابِي

ومَـا وجـــــــدتُ لَـــذيـــذَ النّــــومِ بعدَكُمُ

إلا جَنى حَنْظَلٍ في الطّعْمِ أوْ صابِ

وفي شَوْقه إلى مدينته سبتة، نقتَطف قوله[14]:

فَكَمْ مِن فَلاتٍ بينَ دايٍ وسَبْتَةٍ

وفَــــرْقٍ بَـــــــعــــــيدِ الخافِـــــــقَين قَـــــــواءُ

تُصــــفّــــق فــــــيه للرّيـــــاح خــــــوافِــــــقٌ

كَما ضَـــعْـــضــعَـــــتْــني زَفـرة الصُّعَداءِ

لعلَّ الذي كانَ التّفــرّق حكْـــــــــــمُهُ

سَيَجْـــــــمَعُ مِنــــــــا الشّــــــملَ بعدَ ثناءِ

ومِن أقواله:

  • “يُدْرِك الإنسان بسَعْيه ما كُتِبَ له؛ لا ما طَلَب”
  • “الـحِرْص لا يَزيد المرءَ على ما قُسَم له”

عياض بين رياض الموحّدين وحِياض الموتِ مع المعارضين

آلَ الأمر في المغرب الأقصى إلى الموحدين، وتسنّم قائدهم الفذ عبد المؤمن بن علي الكومي مقاليد السلطة، فدالَت لطاعته معظم أقاليم المغرب، بما فيها سبتة -التي دَخَلوها يوم 24 مارس 1147م بعد قتْل الأمير إسحاق بن علي-، مَوطن القاضي عياض. وبِدَوْرِه لم يتأخّر عياض اليحصبي عن إعلان الدّعم والموالاة للخليفة الموحدي الجديد، بحيث سرعان ما جَمَعهما لقاء في مدينة سَلا، ودامت العلاقة قائمة على الاحترام المتبادَل بين السّلطة والشّخصية العلمية، فكان ابن الكومي يُخاطِب القاضي عياض “بالتّنويه، وحَظِيَ عندَه، وأقَرّه”[15] على خطة القضاء والتّدريس بسبتة، ثم بدا له بعد حينٍ تَعيينه قاضيا في بلدة داي بتادلا، و”يُـروَى له شِعْر مما قاله فيها يَشكو الغُربة ويَتَشَوّق إلى بلده سبتة”.

وفي أعقاب الثورة التي قامت ضد عبد المؤمن وانخرطت فيها مدينة سبتة ونُخبَتها العلمية والسياسية سنة 541هـ؛ ساءت العلاقة بين القاضي عياض والموحّدين، بحيث كان القاضي عياض مِن أكبر الرافضين لفكرة المهدوية، وللحصار الذي شَرع فيه الموحدون ضِدّ المذهب المالكي وأعلامه بالمغرب، فكان من نتائج هذه الثورة العصِيبة قتْلَ عامِل الموحّدين بسبتة وبيعةَ ابن غانية بقرطبة[16]، ونَفْيَ القاضي عياض إلى مراكش.

يُرجّح الأستاذ عبد الله كنّون أنْ يَكون الخليفة الموحدي وعناصر السلطة في مراكش قد عامَلوا العلّامة عياض بما يحفَظ مكانَته العلمية وسيرته الذاتية التي تؤكِّد سَبْقِيتَه ومبدئيته في مُبايعة ودَعم الموحدين، وأنّ كلّ الشّائعات التي قِيلت بشَأْن تعذيبه وقَتْله؛ غير صحيحة، بل “الثابت أنه ماتَ ميتة طبيعية بعدَ مرض قصير، مُغَرّبا عن بلَده (..) وأنه دُفِنَ بمراكش بباب أيلان داخل المدينة”[17] حيث مُستَقر ضريحه الموقَّر إلى يومنا هذا.

المراجع
[1] (كنون) عبد الله: "النبوغ المغربي في الأدب العربي"، الجزء 2، الطبعة الثانية، 1960، ص: 327.
[2] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، منشورات دار الرفاعي للنش والطبع والتوزيع، الطبعة الأولى، 1983، ص: 5.
[3] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 29.
[4] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 32.
[5] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 33.
[6] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 36.
[7] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 39.
[8] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 44.
[9] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 35.
[10] (عياض) بن موسى السبتي: "تَرتيب المدارك وتَقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك"، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي وعبد القادر الصحراوي ومحمد بن شريفة وسعيد أعراب، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، طُبِع بأمْـر من الملك الحسن الثاني، الطبعة الثانية، 1983.
[11] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 52.
[12] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 53.
[13] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 59.
[14] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 63.
[15] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 40.
[16] مقال: "تاريخ الموحدين ومَذهبهم من خلال رسائل موحدية"، دون اسم الكاتب، مجلة دعوة الحق، العدد 205، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، أنظر الرابط: https://tinyurl.com/bdftuyfm .
[17] (كنون) عبد الله: "القاضي عياض بين العلم والأدب"، مرجع سابق، ص: 40.