بين يدي التقديم

الخلاف بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ممتد في التاريخ والجغرافيا، يجمع الديني إلى السياسي إلى العسكري إلى الفكري والفلسفي. وقد تنوعت أشكال هذا الصراع ونتائجه بحسب العصور وتبعا للوقائع والأحداث. وظلت المسيحية محركا أساسيا للعقلية الغربية، وإن كانت تخفت حينا وتتوهج أحيانا أخرى، كما ظل الإسلام دينا وشريعة وفلسفة السنَد الأساس لانخراط المسلمين في هذا الصراع.

وقد ظل التوجس قائما وما يزال بين الحضارتين على مدى أكثر من أربعة عشر قرنا، غذاه إيمان عدد من المفكرين الغربيين بأن الإسلام – كما يقول هاملتون – «ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرا، هو مدنية كاملة».

وهنا مكمن الخطر، فهذه النظرة إلى الإسلام ظلت دائما وراء التوجس من عودة الإسلام إلى الواجهة وبسط نفوذه من جديد، ولم يسلم عصرنا الحاضر من هذا اللوثة، التي بلغت أوجها خاصة بعد تحالف المسيحية مع الصهيونية، واتحادهما معا لمواجهة الخطر الأخضر المنذر بزوال الحضارة الغربية كما يزعم علماء وسياسيون غربيون كثر.

ومن أروع الصور التي تترجم تحليل هذا الصراع وتداعياته، وتعْرضه في قالب فكري ماتع، كتابات الأستاذ المهدي المنجرة الذي أبدع مقولة “الحرب الحضارية” ليقتبسها منه صامويل هنتنغتون ويبني عليها بعد أن سمّاها “صدام الحضارات”.

تقديم الكاتب

ولد الدكتور المهدي المنجرة يوم 13 مارس 1933 في حي”مراسا” بالرباط، وفي سنة 1941 التحق بـ  “ليسي غورو” لمتابعة تعليمه الابتدائي. ثم بـ”ثانوية ليوطي” بالدار البيضاء من سنة 1944 حتى سنة 1948م، وبعد حصوله على الباكالوريا، أرسله والده للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، بدل فرنسا  كما كان يفعل جل المغاربة.

التحق المهدي بمؤسسة بانتي، ثم التحق بجامعة كورنل، وتخصص في البيولوجيا والكيمياء، غير أن ميولاته السياسية والاجتماعية دفعته إلى المزاوجة بين دراسته العلمية من جهة، والعلوم الاجتماعية والسياسية من جهة ثانية، وكانت لإقامته في الولايات المتحدة دور بارز في ميولاته الوطنية والقومية.

اعتبر المهدي المنجرة على مدى سنوات مرجعا دوليا في القضايا السياسية والعلاقات الدولية والدراسات المستقبلية. وقد شغل مهام ووظائف عديدة منها:

مستشار أول في الوفد الدائم للمغرب بهيئة الأمم المتحدة بين عامي 1958 و 1959.

أستاذ محاضر وباحث بمركز الدراسات التابع لجامعة لندن 1970.

أستاذ في عدة جامعات دولية في (إنكلترا وفرنسا وهولندا وإيطاليا واليابان).

مسؤول باليونسكو  ما بين (1961-1979).

خبير خاص للأمم المتحدة للسنة الدولية للمعاقين (1980-1981).

مستشار مدير مكتب العلاقات بين الحكومات للمعلومات بروما (1981-1985).

مستشار الأمين العام للأمم المتحدة لمحاربة استهلاك المخدرات.

عضو مؤسس لأول أكاديمية لعلم المستقبليات.

تَرأّسَ الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية ما بين 1977 و 1981.

 – عضو في أكاديمية المملكة المغربية، والأكاديمية الإفريقية للعلوم والأكاديمية العالمية للفنون والآداب.

تولى رئاسة لجان وضع مخططات تعليمية لعدة دول أوروبية.

ومن أهم كتبه: نظام الأمم المتحدة: تحليل 1973 – من المهد إلى اللحد 1981 – الحرب الحضارية الأولى 1991 – القدس العربي، رمز وذاكرة 1996 – حوار التواصل 1996 – مسار الفكر، حوارات مع حسن نجمي ومحمد بهجاجي 1997 – عولمة العولمة 1999- انتفاضات في زمن الذلقراطية 2002 – الإهانة في عهد الميغا إمبريالية 2004- قيمة القيم2007 – زمن الذلقراطية 2017.

حاز المهدي المنجرة على عدد من الجوائز والأوسمة، منها:

  • جائزة الأدب الفرنسي في جامعة كورنيل (1953).
  • وسام الاستقلال بالأردن (1960).
  • وسام ضابط للفنون والآداب في فرنسا (1976).
  • الجائزة الفضية الكبرى للأكاديمية المعمارية بباريس (1984).
  • وسام الشمس المشرقة باليابان (1986).
  • جائزة السلام لسنة 1990 من معهد ألبرت آينشتاين الدولي.

تقديم الكتاب

صدر كتاب “الحرب الحضارية الأولى”[1] عن مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء، ضمن منشورات عيون/ الدار البيضاء المغرب والشهاب/ الجزائر. سنة 1991م، في 463 صفحة، وهو من ثلاثة فصول وملاحق، وكان صدور الطبعة الأولى للكتاب في سياق تسليط الضوء على حرب الخليج، وفق رؤية تنسجم مع اهتمامات وتخصص المهدي المنجرة، الذي لم يفته أن يعالج هذه القضية من زوايا مختلفة: عسكرية وحضارية وسياسية-اقتصادية واستراتيجية، وقد نجح بشكل كبير في عرض ومناقشة الأبعاد الحقيقية لهذه الحرب مع رصد موفق لنتائجها واستشراف مستقبلها. وتجدر الإشارة إلى أن أصل الكتاب مقالات ودراسات وحوارات أنجزها المهدي المنجرة إبان حرب الخليج أوائل التسعينيات.

وقبل تقديم الفصول لا بد من الإشارة إلى “الإهداء” الذي يختزل فكر وثقافة المهدي المنجرة، حيث أهدى الكتاب أولا إلى أرواح ضحايا جميع الشعوب/جميع الأجناس/جميع الثقافات، ثم أهداه ثانيا إلى ذاكرة القتلى فعليا والمهددين بالقتل والجرحى، ثم ثالثا إلى مستقبل الذاكرة الجماعية الإنسانية. إنه إهداء يعطي منذ الوهلة الأولى انطباعا مفاده أن هذا الرجل عاش للإنسانية والسلم الإنساني، وناضل طيلة حياته ضد انتهاك الحريات المدنية والهيمنة الثقافية والاجتماعية والسياسية.

  • الفصل الأول: (2 غشت 1990 – أزمة الخليج بداية عهد ما بعد الاستعمار، أسبابها وآفاقها المحتومة)، وهو فصل ضم تسعة عناوين ما بين مقال وحوار، وهي مدرجة ضمن الفترة ما بين 2 غشت 1990 إلى 17 يناير 1991 تاريخ بداية العدوان على العراق، وقد حلل في هذا الفصل أبعاد هذه الأزمة ووقف عند أسبابها وآثارها والتي كان قد توقّع بعضها سابقا، ونبّه إلى أنها ستتحول حتما إلى حرب.
  • الفصل الثاني: ( 18 يناير 1991 بداية أول حرب عالمية حضارية) والفصل من أربعة وعشرين عنوانا، ضمنها تصريح لإذاعة بغداد بتاريخ 24 فبراير 1991. وفي هذا الفصل يحلل المهدي المنجرة الحرب على اعتبارها أول حرب عالمية، تجسد صراعا حضاريا بين الشمال والجنوب، وبين ثنايا هذا التحليل يقدم المنجرة «الغرب» في صورة المتوحش/المستبد/المهيمن. كاشفا عن زيف شعاراته، وتناقضاته، موضحا تداعيات هذه الحرب على دول الجنوب وخاصة دول العالم العربي والإسلامي على المدى القريب والمتوسط.
  • الفصل الثالث: (مستقبلنا بعد الحرب: قراءة مستقبلية حول تحديات الواقع وضرورات المستقبل)، وهو من ثلاثين عنوانا، وهي دراسات كتبت ما بين 1957 و1991، وتقدم وعي المنجرة المبكر بعلم المستقبليات، حيث كشف فيها عن عدد من التهديدات التي ستعاني منها دول العالم الثالث نتيجة تخلفه أولا، وغطرسة الدول الغربية ثانيا، وبالرغم من أن بعض الدراسات نشرها نهاية الخمسينيات، إلا أن الاستشراف كان على مدى نصف قرن، أي إلى حدود نهاية الألفية الثانية.
  • الملاحق: وهي من ثلاثة عناوين: أ- رسائل مفتوحة ب– سيرة ذاتية للمؤلف ج– مراجع وبحوث مختارة للمؤلف لها صلة بمواضيع الكتاب. أما الرسائل فخمس، اثنتان إلى السيد الأمين العام للأمم المتحدة الأولى بتاريخ 1 يناير 1991، والثانية بتاريخ 13 فبراير 1991، واثنتان إلى السيد المدير العام لليونسكو، الأولى بتاريخ 23 يناير 1991، والثانية بتاريخ 29 يناير 1991، وأما الخامسة فموجهة إلى السيد إدكار بيزاني مدير معهد العالم العربي بباريس بتاريخ 23 فبراير 1991. والرسائل جميعها تأتي في سياق “وعي المهدي المنجرة بالمسؤولية” تجاه ما ترتب عن هذه الحرب الحضارية التي استهدفت الإنسان والعمران.

على سبيل الختم

لقد أسالت الكتابات ذات الصلة بـ “الحرب الحضارية” على حد تعبير المهدي المنجرة، و”صدام الحضارات” على حد تعبير صامويل هنتنجتون مدادا كثيرا، وكلا التعبيرين يحيل على التحول الذي طرأ على نمط الحروب لتنتقل دوافعها من المصالح المادية والسياسية إلى مصالح حضارية. ويعترف هنتنغتون في الفصل العاشر من كتابه “صدام الحضارات” بأن المهدي المنجرة هو “أول من استعمل عبارة الحرب الحضارية» مما يؤكد عبقرية هذا الرجل الذي كرس حياته لدراسة الماضي والحاضر لاستشراف المستقبل، ونجح في توقع أحداث كبرى مثل: حرب الخليج الأولى، والربيع العربي، فضلا عن إنذاره بوقوع أزمات اقتصادية ومالية. وبالرغم من عالمية هذا الرجل، الذي عاش مناهضا للسياسات الغربية في العالم الثالث، وبكفاحه المستميت من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبنضاله الفريد في الدفاع عن اللغة العربية، إلا أنه لم ينصف، ولم يعط ما يستحق، ولم ينزل المنزلة التي كان يجب يُنزلها، ولله في خلقه شؤون.

المراجع
[1] المنجرة المهدي، الحرب الحضارية الأولى،  الطبعة الثالثة.